د/ محمد العربي الزبيري في سنة 1833 سافر السيد حمدان بن عثمان خوجه إلى باريس لمواصلة المقاومة السياسية التي ابتدأها منذ اليوم الأول للاحتلال . وقبل ذلك ، بذل كل ما في وسعه لإقناع قادة العدوان العسكري على احترام نص المعاهدة المبرمة في الخامس يوليو سنة1830 . ولقد ثبت جل مساعيه في عرائض عثر الباحثون على بعضها ونشر على أعمدة المجلات المتخصصة ، وما زال بعضها الآخر ينتظر المزيد من جهد الدارسين والمنقبين . لكنه ، في تلك السنة ، يئس ،نهائيا، من إمكانية إيجاد الآذان الصاغية لدى الدوق " دوروفيكو " الذي أيقن أنه لم يكن مختلفا عن سابقه المارشال " كلوزيل " الذي قاد العدوان مباشرة بعد المارشال "دوبرمون" ،والذي حاول، في الثامن عشر من شهر أكتوبر 1830، بيع الغرب الجزائري إلى باي تونس.ويقول عنه السيد حمدان بن عثمان خوجة:" إنه ، عندما يريد القيام بعمل تعسفي أو أن ينفي هذا ويبتز أملاك ذاك ، فإن جميع الوسائل تبدو له صالحة ". وحيث أن اليأس لم يثبط عزيمته ، ونظرا لمعرفته السابقة ببعض كبار السياسيين والمثقفين الفرنسيين ، ولأنه كان مطلعا على مجريات الأحداث الدولية ، وتباعا ، يعرف أن فرنسا قد ساهمت مساهمة فعالة في ترقية الشعب البلجيكي وساعدته على تقرير مصيره بنفسه ، كما أنها كانت ، قبل ذلك بقليل، قد وقفت إلى جانب الشعب اليوناني، فإنه قرر الاتصال المباشر بملك فرنسا وبالنافذين في حاشيته لعله يصل إلى مبتغاه ويكون سببا في تخليص شعبه من حالة الاستعباد المفروضة عليه . كان حمدان مثاليا ومن كبار المؤمنين بحقوق الانسان ورواد المدافعين عنها . لأجل ذلك كتب في مقدمة المرآة : " إنني أرى اليونان تساعد وتتكون على أسس متينة بعد أن فصلت عن الدولة العثمانية ، وأرى شعب بلجيكا يفصل عن هولندا بسبب بعض الاختلاف في المبادئ السياسية والدينية، وأرى جميع الشعوب الحرة تهتم بالبولونيين وباسترجاع سيادتهم ، كما أنني أرى الحكومة الانكليزية تخلد مجدها بعتق الزنوج ، ويضحي البرلمان البريطاني بنصف مليار للقيام بذلك ، وعندما أدير البصر إلى بلادي ، فإنني أرى سكانها يرزحون تحت نير الاستبداد معرضين للإبادة ولجميع آفات الحرب ولكل تلك المظالم التي ترتكب باسم فرنسا الحرة " . وبينما كان حمدان يرفع صوته قائلا : " إني مقتنع أن لفرنسا رجالا سوف لن يهملوا أية وسيلة لاكتشاف الحقيقة ، قصد القضاء على جميع الأعمال المنافية للأخلاق "،كان رئيس الجمعية الكولونيالية السيد " أرموند فكتور هين " يكتب ، في نفس سنة 1833 ، داعيا إلى " العمل على طرد الأهالي إلى الصحراء ، و إلى إفنائهم وإبادتهم في حالة لجوئهم إلى المقاومة " .وفي نفس التاريخ ، أيضا ، وبالضبط في الرابع والعشرين من شهر يونيو ،نشرت جريدة " لاستافات " افتتاحية جاء فيها : " إن العرب لا يحبسون ، لكن مصيرهم ينبغي أن يكون القتل ، والقتل فقط ". أما الدكتور " بوديشون " الوجه السياسي اللامع ، في ذلك النصف الأول من القرن التاسع عشر ، فيرى أن " النظام الاجتماعي في الجزائر وطبائع السكان وعاداتهم ، كل ذلك يحرمهم من جميع الحقوق التي يمكن أن يحظى بها أفراد الشعوب المتمدنة " . هكذا ، وبينما كان رائد الفكر السياسي الجزائري يعتبر القضية الجزائرية المطروحة ، يومها ، مسألة " خطيرة لأنها تخص حياة أمة بأجمعها ، تتكون من عشرة ملايين نسمة يتناقصون من يوم لآخر بسبب الحرب ويعانون الظلم والطغيان منذ ثلاث سنوات " ، كان المفكرون والمثقفون الفرنسيون يشجعون على إبادة السكان الأصليين نزولا عند رغبة الكنيسة التي لا تخفي مساعيها الرامية إلى " ضرورة استعمال كل الوسائل من أجل أن تعود إلى أحضان الأم بلاد القديس " أوغستين " التي اغتصبها البرابرة واستوطنها الإسلام " . وكانت أهداف الكنيسة ، في الجزائر ، تلتقي مع أهداف غلاة الكولون الذين كانوا يرون أن ممارسة الشعائر الدينية تجعل الإنسان الجزائري أكثر تمردا على سلطانهم وتغرس في نفسه حقدا كبيرا عليهم . وعليه ، فإن واجب الإدارة الاستعمارية هو أن تضع حدا ، وبكل سرعة ، لممارسة تلك الشعائر. واستجابة لهذا المطلب صدرت القوانين التي تمنع فتح المدارس والكتاتيب ، وتضايق الزوايا التي ترفض العمل في ركاب الاحتلال ولا تساعد على دفع " الأهالي " دفعا إلى بيت الطاعة العمياء . وفي هذا الإطار كتب السيد " بيشون " : إن حكومتنا تزعم أنها توفر للدين كل أسباب الحرية ، لكن سجلات التاريخ تشير إلى أن المسيحيين ، في ربوع الدولة العثمانية ، لم يعرفوا الإهانة المتمثلة في وضع رهبانهم تحت الوصاية الإدارية وفي اغتصاب أملاك كنائسهم ، وذلك على عكس المسلمين الجزائريين الذين يتولى غلاة الكولون اختيار أئمتهم ، والذين اغتصبت أوقافهم ثم وزعت على الوافدين في ركاب الاحتلال " . وسوف تظل سجلات التاريخ تذكر ، كذلك ، أن الجزائر كانت ، قبل العدوان الفرنسي ، توفر تعليما شاملا للجزائريات والجزائريين . وكانت ، في ذلك الميدان ، تفوق فرنسا ذاتها ، وهو ما يشهد به كثير من المؤرخين والمحللين السياسيين والعسكريين الفرنسيين أنفسهم . ولمن يخامره الشك في صحة هذه المعلومات ، يستطيع الرجوع إلى كتاب السيد مشال هابار والذي عنوانه " تاريخ نكث العهد " أي تاريخ تنكر فرنسا للمعاهدة المبرمة بين ممثل الداي حسين عن الجزائر والمارشال"دوبرمون" نيابة عن ملك الفرنسيين في الخامس من شهر يوليو سنة 1830 . ولكي يضمن الاحتلال بقاءه ، بادر ، منذ السنوات الأولى ، إلى التخطيط لتجهيل المجتمع الجزائري مركزا على نفي الأدمغة التي وجدت ملاجئ في عدد من البلدان العربية والإسلامية حيث ما تزال آثارها العلمية قائمة إلى يومنا هذا،وعلى اغتصاب المساجد وأملاك الأوقاف ، وغلق الزوايا والمؤسسات الخيرية ، وهدم المقابر والعمل ، بكل الوسائل ، على مسخ الإنسان باقتلاعه من جذوره وبإلغاء سائر مصادر التكوين والتربية والتعليم . وإلى جانب كل تلك الإجراءات اللاإنسانية ، عملت سلطات الاحتلال على تكوين إنسان جديد يجهل كل شيء عن تاريخه الصحيح ويمتاز بأهم صفات التابع الخانع التي تأتي في مقدمتها الإمعية والمعمعية ، والتي تعطيه شكل الكائن المجرد من مقومات الأصالة ، الفاقد للذاكرة وللثقة في النفس ، والعاجز عن تحقيق الرقي والتطور في سائر الميادين . فذلكم الإنسان هو الذي أطل علينا، يوم الثاني عشر من الشهر الحالي، في القاعة البيضوية يقول ، في الافتتاح الرسمي لتظاهرة " الجزائر عاصمة الثقافة العربية " : il était une fois أي كان يا ما كان كما يقول إخواننا العرب أو " حاجيتك ما جيتك " كما نقول نحن" . وهنا يطرح السؤال الخطير : هل التاريخ الوطني مجرد "خرافة "؟ ثم من نحن ومن هم إخواننا العرب ؟ وإلى متى يتواصل العبث بالثوابت الوطنية ؟ .وأخيرا ، من وضع السيناريو ، ومن أشرف على التنفيذ ووافق على العرض ؟ وإلى متى يتواصل إسناد المسئوليات إلى غير أهلها ، وتبقى المؤسسات عاجزة عن تأدية دورها في جميع المجالات ؟.