د/ محمد العربي الزبيري يؤكد النابهون من المهتمين بدراسة الثورات الوطنية في العالم أن هذه الأخيرة تبدأ فكرة لدى زعيم يرعاها ويتحمس لتعميمها ، وعندما يجد لها التربة الخصبة ينطلق في جمع الأنصار إلى جانب البحث عن الأساليب الناجعة لتجسيدها على أرض الواقع . وكلما ازداد عدد المؤمنين بالفكرة ،كبر الزعيم واتسعت القاعدة الشعبية وانتشر الوعي بضرورة العمل ، بكل أنواعه ، من أجل تحرير البلاد وتخليصها من هيمنة المحتل المستبد. إن الثورة الجزائرية التي اندلعت يوم الفاتح من شهر نوفمبر 1954 لم تشذ عن ذلك. فقد كانت ، في الأصل ، فكرة اقتنع بها ، في نهاية العشرينيات من القرن الماضي زعيم نجم شمال إفريقيا السيد الحاج مصالي الذي رفع ،خاصة منذ عام 1927 ، لواء الدعوة إلى النضال ، بجميع الوسائل بما في ذلك الكفاح المسلح ، من أجل استرجاع السيادة المغتصبة بموجب معاهدة الخامس يوليو سنة 1830. جاء في برنامج النجم ، يومها ، أن الجزائريين يعملون من أجل استقلالهم التام الذي يكون التعبير عنه بسحب جميع قوات الاحتلال وإنشاء جيش وطني وحكومة ثورية تجعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية وتصادر البنوك والمناجم والسكك الحديدية والموانئ التي كان الغزاة قد استحوذوا عليها ، كما أنها تستعيد الملكيات الكبيرة من الإقطاعيين والمعمرين والجمعيات المالية ، وتوزع الأراضي المسترجعة على الفلاحين الصغار مع احترام الملكية الصغيرة والمتوسطة .وبالإضافة إلى ذلك تفرض مجانية التعليم وإجبار يته باللغة العربية في جميع المراحل ، وتعترف بالحقوق النقابية زيادة على سن القوانين الاجتماعية . لقد انطلق هذا البرنامج من فكرة واضحة مفادها أن الجزائر، قبل سنة 1830 ، كانت دولة ذات سيادة معترف بها في الداخل وفي الخارج ولها علاقاتها المتميزة مع العديد من الدول العظمى ، تشهد على ذلك عشرات المعاهدات المبرمة مع أمريكا وأوربا الغربية خاصة ،وهي معاهدات تتعلق بسائر القطاعات العسكرية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية وتغطي ، إلى يومنا هذا ، مساحات كبيرة من رفوف المكتبات ودور الأرشيف في العالم . وبالإضافة إلى المكانة المرموقة التي كانت تحتلها على المسرح الدولي ، آنذاك ، فإن مواقفها الداعمة للحرية والمقدرة للعواطف الإنسانية لم تكن تخفى على كبار المؤرخين الذين سجلوا ، باعتزاز ، أن الجزائر كانت هي البلد الوحيد الذي اعترف بالجمهورية الفرنسية الأولى متحديا بذلك كل الدول الأوربية التي رفضتها وأعلنت عليها الحرب . ولم تكتف " المحروسة " ، يومها،بمجرد الاعتراف الدبلوماسي ، بل زادت فوق ذلك حينما تكرمت بالقموح والحبوب الغذائية المختلفة لإنقاذ سكان الجنوب الفرنسي من المجاعة خاصة في السنوات الأولى من الثورة .وإلى جانب المساعدة المجانية قدمت الدولة الجزائرية قروضا ، من دون فائدة ، إلى السلطات الحاكمة في فرنسا بلغت قيمتها سبعة ملايين ونصف مليون من الفرنكات الذهبية ، يشهد على ذلك الاعتراف بالدين الذي وقعه الملك لويس الثامن عشر والرسالة التي وجهها إلى "حسين داي" ملتمسا الموافقة على أن تسدد الديون مشاهرة ابتداء من شهر مارس 1820 . من هذا المنطلق ، فإن نجم شمال إفريقيا قد استهدف ، منذ البداية ، استرجاع السيادة المغتصبة . وظلت هذه الفكرة قائمة حتى عندما اضطرالنجم إلى الاختفاء وحل محله " حزب الشعب الجزائري " . ويبدو لي أن الدكتور محمد الأمين دباغين كان أصدق من عبر عنها عندما خطب من أعلى منبر المجلس الوطني الفرنسي في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي ، ومن جملة ما جاء في خطابه :" إنه لمن الخطأ الفادح الاعتقاد ،مثلا، بأن رغبة الاستقلال لدى الشعب الجزائري متأتية فقط من كون الاحتلال لم ينجح ماديا .معنى ذلك ، على سبيل المثال، لو أن الاحتلال تجسد ماديا في تحسين معاش السكان المسلمين لكان يمكن أن يقودنا الأمر إلى النظر بعين الرضا لضياع شخصيتنا وسيادتنا و ثقافتنا .كل ذلك غير صحيح حتى ولو تمكنت فرنسا من إنجاز العجائب فيما تسميه بمستعمرة الجزائر ، وحتى لو كانت حقيقة كل الأكاذيب التي تروج لصالح الاحتلال، و حتى لو أن الشعب الجزائري يكون قد أصبح، بفضل السيوف الفرنسية ،الشعب الأكثر سلامة والأكثر ثقافة والأكثر ازدهارا في كامل أنحاء المعمورة " . ولأن الإدارة الكولونيالية كانت تدرك أن الفكرة لا تغالب ، فإنها راحت تركز جهدها لإلهاء الزعيم عنها وذلك بحشره في دائرة الغرور وتشجيع أكبر عدد ممكن من " الزعماء الصغار " للعمل على تحييده أو ، على الأقل ، لمشاركته في السلطة . هكذا ، تضيع الفكرة أو تتميع وتتشتت الطاقات الحية بدلا من توجيهها موحدة لتحقيق الهدف الأسمى وهو التخلص من الهيمنة الأجنبية . وبالنسبة لحزب الشعب الجزائري ، فإن إيمان الجماهير الشعبية بمبادئه والتفافها حوله ، مستعدة كامل الاستعداد، من أجل خوض المعركة الفاصلة على أساس أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة ، قد جعل الزعيم يعتبر نفسه كل شيء ،ومن حقه ، دون غيره ، احتكار السلطة وهو الأمر الذي جعل مجموعة من مساعديه المقربين ينفضون من حوله ويدعون القيادة السياسية العليا إلى حمله على ممارسة مبدأ الجماعية في اتخاذ القرار . وعلى هذا الأساس ، مال عدد من القياديين في الحزب إلى تحبيذ انتهاج الممارسة السياسية العلنية في إطار قوانين الاحتلال . معنى ذلك أن الحزب يتخلى عن الفكرة الأساسية الداعية إلى العمل بكل الوسائل من أجل استرجاع الاستقلال الوطني ويكتفي ، في مرحلة أولى ، بالمساواة على جميع الأصعدة وفي جميع الميادين . ومما لا شك فيه أن فكرة المساواة تتناقض مع فكرة استرجاع الاستقلال الوطني وذلك لما تتضمنه من اعتراف بشرعية الاحتلال . وإذا كان تأسيس اللجنة الخضراء سنة 1938 قد استهدف العمل من أجل إيجاد الآليات اللازمة للانتقال إلى فترة الكفاح المسلح ، فإن فترة الحرب الامبريالية الثانية كانت فرصة سانحة استغلتها مجموعة من القياديين الشباب لتكوين النواة العسكرية لما قد يكون هو جيش التحرير الوطني . كان الزعيم ، يومها ، مبعدا غير قادر على التدخل مباشرة ، ولذلك فإن رأيه الرافض للاستعانة بألمانية الهتلرية لم يؤخذ في الاعتبار وتمت الاتصالات بالرايخ الذي أبدت قياداته المختلفة موافقتها الفعلية على استقبال أعداد من المناضلين يدربون عسكريا ، وقررت ، في ذات الوقت ، وضع "راديو مونديال " بباريس تحت تصرف إطارات عليا من حزب الشعب الجزائري يبثون على أمواجه نداءات موجهة خاصة إلى الجزائريين العاملين بصفوف الجيش الفرنسي قصد حثهم على الالتحاق بالجيوش الألمانية التي تسلمهم إلى القياديين الجزائريين . هكذا ، ظهرت في الفترة من 1940 إلى 1945 تنظيمات شبه عسكرية تعمل تحت إشراف القيادة الفعلية لحزب الشعب الجزائري لأن القيادة الرسمية كانت في السجون أو في المنفى . لقد أنشئت ، على التوالي ، اللجنة الثورية للعمل في شمال إفريقيا ، والجيش العربي الثامن ولجان الشباب في كل من "بلكور " ( بلوزداد حاليا ) والقصبة وباب الوادي والحراش . ومن خلال كل تلك التحركات يستنتج المرء أن فكرة استرجاع الاستقلال الوطني لم تتراجع رغم بعض الترددات هنا وهناك لدى بعض القياديين ممن لم يكن لهم إيمان قوي بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.