عبد العالي رزاقي محاكمة الخليفة تطرح الكثير من التساؤلات بسبب العدد الكبير ممن استمعت إليهم العدالة، أو الشهود أو المتهمين. وإذا كان البعض يحاول تسييسها فإن البعض الآخر يتخوف من أن يكون ضحاياها من رجال الأعمال والساسة ونجوم الرياضة والفن وحتى مسؤولي المؤسسات الإعلامية. فمن هو الرئيس الذي كانت تحضره الخليفة لرئاسيات 2004 لمنافسة بوتفليقة، وكيف جاءت الفكرة ومن يقف وراءها؟ الوجه الآخر للخليفة؟ حين تأكد البعض ممن لهم علاقة بالخليفة بأن بوتفليقة سيضمن عهدته الثانية حدث شرخ في امبراطورية الخليفة، وبدأت سفينة عبد المؤمن تبحث، في كل الاتجاهات، عن منقذ لها، أوعز للبعض بسحب الأموال التي يراد تبييضها، وأوعز للبعض الآخر ب»تسديد الديون» واسترجاع «قصاصات الأوراق» التي وقعوا عليها أثناء استلامهم الأكياس المملوءة ب»أموال خزينة الدولة» كان الهمّ الأكبر لمن يقفون وراء الخليفة أن تكون أرجل الأخطبوط ممتدة إلى قطاعات الدولة. والمؤسسات الدستورية ووسائل الإعلام. ولهذا أدرك الأخوان كيرمان أن المثول أمام العدالة سيكرر مأساة سجن أحدهما، فلم يحضرا حتى لدفن أختهما، وقبل مغادرتهما الجزائر منذ بضعة أشهر اتصل أحدهما بشخصية نافذة في السلطة ليطلب «ضمانات» للبقاء والادلاء بالشهادة في الحدود التي قد ترسم له، لكنه تفاجأ ب»خيبة أمل»، لأن من استقبله قال له: «ستأخذ العدالة مجراها»، وربما لم توضع تحت الرقابة القضائية بالرغم من وجوده في قائمة المتهمين لتسهيل مهمة مغادرة الجزائر. ويظهر من الرسالة المنشورة في الصحافة كيف حاول تسييس «محاكمة الخليفة». ماذا لو كان لعروسي حيّا؟ حين التقيت، لأول مرة، بالمرحوم خليفة لعروسي، والد عبد المؤمن، في فيلته بحيدرة، كان ذلك في سياق سلسلة أحاديث صحفية لمعرفة خلفيات الانقلابات العسكرية والسياسية في الجزائر. واختياري لعروسي سببه ما قاله حول بلعيد عبد السلام، وما قاله هذا الأخير عنه. فخليفة لعروسي كان مدير لمدرسة إطارات الثورة بالمغرب حين رفض عبد السلام بلعيد التدريس فيها. وإذا كان التبرير هو أن لعروسي كان رئيس دائرة في عهد فرنسا، فإن بلعيد عبد السلام زعم عام 1993 بأن من عيّنه على رأس الحكومة في عهد علي كافي، هم من قاموا بتوقيف المسار الانتخابي، وهذا يعني تمجيد ما يسمى ب(ضباط فرنسا)؟ كان لعروسي متّهما بالمشاركة في المحاولة الفاشلة للانقلاب الذي قاده العقيد الطاهر الزبيري ضد العقيد هواري بومدين بعد عامين من انقلابه على الرئيس أحمد بن بلة. وأسرّ لي، بحضور زوجته، أنه عُذّبَ في السجن. ويبدو أن «المتابعة الأمنية» لفرحات عباس أو ما يسمى ب(كاب سيغلي) التي قادها محمد بن يحي ضد بومدين وانتهت بالقبض عليه في عهد الشاذلي بن جديد كانت ذات أثر سلبي على خليفة لعروسي. كانت عائلة خليفة تحمل الكثير من «الحقد» على «جماعة وجدة»، بالرغم من أن الوالد من جماعتها ب(المالغ). ارتباط اسم لعروسي خليفة برموز المعارضة كان دافعا لأن يجد «أعداء المرحلة البومدينية» في عائلته المتحمّسة للتجارة «طعما» للاصطياد في المياه العكرة، وإنشاء امبراطورية تتطيح بعودة رموز «المرحلة البومدينية» إلى الحكم ممثلة في وزير خارجيته عبد العزيز بوتفليقة، الذي انتصر، في عهدته الأولى لمنطقة «تيزي وزو» على حساب منطقة بجاية. ما لفت نظري، خلال الجلسات التي أجريتها مع الوالد، هو الاهتمام المتزايد للزوجة بضرورة إعادة الاعتبار للعائلة التي ظلمت في عهدي بومدين والشاذلي. وتبيّن لي أنها متحمّسة، وهي بجاوية بينما هو صحراوي همّه الوحيد أن يتذكره زملاؤه، وهو الحماس نفسه الذي كانت عليه إثر ميلاد «امبراطورية الخليفة». وهو الطائر الأزرق الذي يجسد تطلعات منطقة من المناطق نحو المرادية. الممثل المرفوض للمنطقة القبائلية! كانت الحركة البربرية تنمو باتجاه المرادية، بعد أن تخلصت «تاقارة» منها حين رفض آيت أحمد الدخول في «الصفقات» المتعلقة بتعيين الرؤساء. وإذا كان أحد رجال أعمال المنطقة قد استطاع أن يطيح بعبد السلام بلعيد، لأن مشروعه التقشفي كان امتدادا لمشروع الراحل هواري بومدين، فإن البديل كان في «المخبر» يحضر لأن يكون ممثلا للمنطقة القبائلية، لكن ظهوره عام 1995 تحول إلى حاجز ما بين الرئيس اليامين زروال والعروش، بالرغم من دوره الريادي في «طيّ ملف الإسلاميين». فالتيار القبائلي، الذي كان يسعى لإقامة تحالف مع «التيار الشاوي»، سرعان ما تكسّر على صخرة أحمد أويحي الذي كان يريد أن يبقى «الممثل الشرعي» للتيار القبائلي ولو كان ممثلا مرفوضا من عروش المنطقة. وحين تأكد «التيار البربري» بأن رحيل محمد بوضياف كان «ضربة قاضية له»، لأن حلم سعيد سعدي صار بعيدا عن قصر الحكومة. كان تيار «تلمسان» في أوج صعوده بتبنّي بوتفليقة مشروع «المصالحة الوطنية» الذي فشل بعد الإطاحة بحكومة بن يوسف بن خدة عام 1962، وبدأ التخوف من أن يتكرر سيناريو ما بعد استرجاع السيادة وإقصاء الولايتين الثالثة (المنطقة القبائلية) والولاية الرابعة (جماعة يوسف الخطيب). لكن بوتفليقة فتح الحكومة لممثلي التيار الإسلامي (الولاية الرابعة) ولمثل التيار البربري (الولاية الثالثة). اعتبر التيار البربري وجوده في حكومة «غير كافٍ» وأن بوتفليقة، بالرغم من اعترافه بالأمازيغية لغة وطنية، لا يستطيع أن يحقق حلمهم في الوصول إلى «المرادية» الذي كان «قاب قوسين أو أدنى» في عهد بوضياف أو المجلس الأعلى للدولة. كانت الأحداث في المنطقة القبائلية، تتجه نحو المواجهة مع السلطة، ولكن «التجاهل» الذي تعاملت به السلطة مع الأحداث فتح الأبواب أمام الصراع بين القبائل الكبرى والقبائل الصغرى، بالرغم من أن «لائحة القصر» كانت تمثل القطرة التي أفاضت الكأس. انسحب التيار البربري من الحكومة ليدخل «سوق الاقتصاد» . الفكرة: سلطة المال والإعلام والعلاقات؟ وجد البعض من التيار البربري في مولود «الخليفة» موردا ماليا لدعم المشروع، خاصة وأن زوجة المرحوم لعروسي، والدة عبد المؤمن، كانت أكثر ميلاً للقبائل الصغرى. التفّ التيار البريري، بكل مكوناته ومفرداته وفئاته حول «المولود الجديد»، وبدأ بالرعاية لمختلف أنشطة الدولة، بما فيها اللقاءات التي كانت تجمع رجال الأعمال ورجال الفن داخل وخارج الجزائر بالرئاسة. كان المشروع هو التسلل إلى مفاصل الحكم في الجزائر، بالهدايا وشراء الذمم، وتمويل المشاريع والقروض الوهمية. كبرت «المؤسسة المشروع» تجاريا واقتصاديا ومصرفيا وإعلاميا، وصار الكل يتقرب من «حكومة عبد المومن الخليفة». تراجع التيار البربري سياسيا وشعبيا وتوسع أفقيا عبر الاقتصاد والمال، والهيمنة على سوق العمل. وكانت الخطة تقتضي «هيمنة اقتصادية وإعلامية» للبدء في تنفيذها. طيران الخليفة كان نموذجا للطيران الأوروبي والبنوك في تعاملها مع الزبائن تجلب المزيد منهم بتجاوزها ل»البيروقراطية». بدأت خطوط الطيران الجزائري تتراجع، وسمعتها تنهار، أصبحت «أنتينيا» التي اشترتها الخليفة هي المؤهلة للنزول في مواقع الشحن في فرنسا. صار «مشروع بوتفليقة» يتراجع، فهو يقضي أوقاته في الطائرات والخارج والخليفة يكبر في الداخل والخارج. ومن استفادوا ماليا من الفترة (92 - 1997) وجدوا في الخليفة منقذاً لهم لتبييض الأموال، ومن يريد الوصول إلى الحكومة أو المرادية مجبر على المرور عبر امبراطورية الخليفة. وكان من يقفون وراء الخليفة من أصحاب القرار ينفخون في «بالونة الامبراطورية» لترفع في سماء الجزائر والعالم، دون أن يجدوا «البديل» عن بوتفليقة الذي يمثل لهم «الثورة بكل مكوناتها»، وهم يمثلون «المستقبل المتوسطي» بكل مكوناته. كان الإجماع في الجزائر على أن هناك تحالفا بين «التيار التلمساني» و»التيار الشاوي»، وكانت ثقة بوتفليقة في علي بن فليس غير محدودة، وأسراره كلها مدفونة عنده. وبدأ التفكير في كيفية الفصل بين بوتفليقة وعلي بن فليس الذي كان يعلق صورة بوتفليقة في مكتبه في جبهة التحرير الوطني، وهو الأمين العام للحزب. إذا كان الفضل في ظهور علي بن فليس يعود إلى المرحوم قاصدي مرباح، الذي عيّنه وزيرا للعدل، فإن الفضل في اكتشاف «التيار البربري» لعلي بن فليس يعود إلى بوتفليقة الذي كلفه بالتفاوض مع «عروش علوش». انفجار بالون الخليفة في سماء العاصمة! أدرك تيار تلمسان أن الخليفة صار يمثل خطرا على البلاد، وعوض أن يفتح «تحقيقا قضائيا» حول المؤسسة مع الإبقاء عليها، لجأ إلى «التصفية»؟ ضحت السلطة ب15 ألف عامل وملايين الزبائن من أجل أن تمحو آثار «إمبراطورية» كان هدفها الوصول «إلى المرادية»، ب»التلاعب» بأموال الدولة، وتحطيم المؤسسات الدستورية. وجاءت المحاكمة لتنهي خلال شهر ملفّا يبقى مفتوحا أبد الدهر. امبراطورية للضغوط على الجزائر! حين تأكدت أمريكا بأن امبراطورية الخليفة دخلت مرحلة الدفن، تحركت نحو استنطاق عبد المؤمن لأكثر من 40 ساعة، لأخذ المعلومات المتعلقة بالشخصيات التي تعاونت معه. كما قام عبد المؤمن برفع قضية ضد الجزائر، في أروقة العدالة البريطانية، مما يجعل من الصعب تسليمه للجزائر ما لم يصدر حكم قضائي بريطاني، وتحاول فرنسا توظيف ورقته هي الأخرى للضغط على الجزائر. صارت الجزائر رهن ضغوط أمريكية بريطانية فرنسية بسبب «امبراطورية الخليفة»، ولعل هذا ما دفع بالرئيس بوتفليقة إلى «حل الشركة الأمريكيةالجزائرية» قبل أن تصير في خدمة جهات أجنبية ضد «سوناطراك» و»تاقارة». وفي تقديري الشخصي، فإن إقناع «التيار البريري علي بن فليس» بالترشح ضد بوتفليقة في رئاسيات 2004، والالتفاف الإعلامي حوله كان بمثابة «ضربة قاضية» له، لأن علي بن فليس التزم الصمت، ولم تستفد منه الجهات التي كانت تقف وراءه. ويبدو أن انهيار امبراطورية الخليفة استفاد منه رجال الأعمال وسياسيون يريدون الوصول إلى المرادية، بتوظيف آخرين، والاختفاء وراءهم في انتظار الفرصة المواتية. لكن المستفيد الأول من «المحاكمة» هو الرئيس، لأنها وفّرت له فرصة التصفية في طاقم الحكومة القادمة.