د/ محمد العربي الزبيري التاريخ هو ذلك العلم الذي يحيط إحاطة شاملة بحياة الإنسان في كل أبعادها الزمنية، وعليه فهو يتغذى بالأهواء والذاتيات ويرفض الحياد على الإطلاق كما أنه يرفض أن يكون مجرد سرد لأحداث وقعت بالفعل لكنها لا تروى إلا على نحو واحد. وإذا كان التاريخ علما في تحريه الحقيقية والعمل على تسليط الأضواء عليها وتقديمها كما هي ، فإن الباحث في هذا العلم مطالب، إضافة إلى تمكنه من العلوم الموصلة، بإعطاء قيمة بالغة الأهمية للأصول التي هي صلته الوحيدة بالموضوع المزمع دراسته والتي هي جميع الآثار التي خلفتها عقول السلف أو أيديهم ، وإذا ضاعت ضاع التاريخ معها وفقا لنص القاعدة العامة . ولأن التاريخ هو المعبر الوحيد الذي يصل الماضي بالحاضر والمستقبل، فإنه قد حظي ، منذ القدم، بعناية المفكرين الذين توقفوا، مليا، عنده باعتباره مجموع المعارف المصاغة علميا عن الماضي الإنساني الذي يتطلب تفسيره منهجية خاصة كان العلامة ابن خلدون هو أول من عني بها عندما أخضع الكتابة وإعادة الكتابة إلى عدد من المقاييس والمعايير التي لابد من الرجوع إليها في التعامل مع الخبر واستنطاق النص والغوص في كنه الحدث بحثا عن أسبابه العميقة وكيفية وقوعه ، قبل الاستنتاج وإصدار الحكام. فالماضي الإنساني على هذا الأساس يولد في وعي المؤرخ الذي يخضعه لسلسة من الإجراءات التي تخلصه مما قد يكون علق به من التشويه والتحريف والمبالغات وذلك قبل تحويله إلى مادة سهلة الاستيعاب قابلة للتوظيف من أجل فهم الحاضر، لأن الحدث إنما يلد الحدث والدارس الجاد لا يستطيع الإحاطة بأي حدث ما لم يهتد إلى السبب أو الأسباب التي كانت في أساسه والتي انطلقت منها بوادره. والحدث التاريخي المعزول عن غيره لا وجود له في تاريخ الإنسانية جمعاء. و فوق كل هذه الاعتبارات ، فإن التاريخ وسيلة لغرس حب الوطن في نفوس الأجيال المتلاحقة ، و هو الاسمنت الذي يدعم وحدة الأمة و يعزز تماسكها و يوطد أركانها مما يعطيها في الداخل تصورا واحدا للحياة ، و يبرزها ، للخارج ، إرادة موحدة و عزما صارما . إن تاريخ الجزائر، في جميع حقبه، لم يعالج وفقا لهذه المنهجية العلمية، بل إن مدرسة التاريخ الاستعمارية قد لجأت إلى جميع الحيل لإفراغه من محتواه حتى يتسنى تقديم الإنسان الجزائري في صورة العاجز عن الإسهام في تطوير الحضارة الإنسانية وتصوير بلاده بأقبح الصور التي تحمل في طياتها مبررات الاحتلال والاستبداد ، من جهة ، ولكي يسدل ستار سميك من الضبابية على المصطلحات والمفاهيم يفقدها معانيها الحقيقية ويمنعها من الإسهام ، بالفعالية اللازمة ، في توظيف التاريخ لإنجاح عمليات البناء والتشييد وضمان الرقي والازدهار لمستقبل الأجيال الصاعدة . على هذا الأساس ، نخصص مقالنا ، اليوم ، لتسليط الضوء على الفترة الزمنية الممتدة من فاتح نوفمبر 1954 إلى الخامس يوليو 1962 . وفي البداية لا بد من الإشارة إلى أن أقلاما كثيرة قد كتبت في الموضوع بلغات متعددة وبكيفيات مختلفة. نعني أن ثمة دراسات أكاديمية ومذكرات شخصية ومحاولات روائية وسردية . وفي كل هذه الكتابات خلط كبير في تسمية الفترة المذكورة . إذ هناك من يسميها ثورة التحرير وهناك من يطلق عليها تسمية حرب التحرير أو حرب الاستقلال ، وهناك ، أيضا ، من ينعتها بحرب الجزائر أو أحداث الجزائر .ومما لا شك فيه أن كل هذه التسميات لها مبرراتها الموضوعية، ولها مرجعياتها الفكرية التي ينطلق منها أصحابها . فالذين يزعمون أنها كانت حرب استقلال أو حرب تحرير إنما يفعلون ذلك انطلاقا من رفض الكيان الجزائري ذي السيادة المطلقة قبل وقوع الاحتلال . وبالنسبة إليهم ، فإن الجزائر ، في شكلها الحالي ، كانت جزءا لا يتجزأ من فرنسا ، وأن الاستعمار لم يكن كله سلبيا. ثم إن التطور الاجتماعي الذي حصل ، في البلاد ،نتيجة المزج الذي أحدثه النظام الكولونيالي هو الذي قاد إلى" ميلاد الأمة الجزائرية " بعناصرها الاثنين والعشرين على حد تعبير السيد " موريس توريز " أمين عام الحزب الشيوعي الفرنسي في ثلاثينيات القرن العشرين . ويرى أصحاب هذه التسمية الذين ينعتون أنفسهم ،اليوم ، بالديمقراطيين أن الاستبداد الاستعماري وتزييف الانتخابات والقوانين الجائرة وسياسة تهميش الأهالي، كل ذلك هو الذي كان في أساس إشعال فتيل الحرب من أجل الحرية والاستقلال . ولو أن الحكومات الفرنسية ، قبل 1954 ، عرفت كيف تكون عادلة مع " الأهالي "، ووفرت شروط المساواة بينهم وبين الأوربيين، ومكنتهم من الحصول على المواطنة الفرنسية ، لو فعلت كل ذلك لما فكر أحد في الانفصال عن فرنسا . إن هذا النوع من المواطنين هم الذين يطلق عليهم نعت " بقايا الجزائريين الأهالي"، لأنهم يجهلون تاريخهم الوطني ويتغذون ، فكريا ، من مخزون الآخرين البعيد ، كل البعد، عن الحقيقة . ومن سوء حظ الجزائر أن أغلبية مناصب الحل والربط في الدولة بين أيديهم ومن ثمة فهم المخططون للمستقبل والمسئولون ، مباشرة ، ومن دون رقيب على مصائر الأغلبية الساحقة من الجماهير الشعبية التي كانت ، وما زالت ، تحلم بتجسيد مشروع المجتمع الذي بشرت به جبهة التحرير الوطني ليلة أول نوفمبر 1954 . أما الذين يتمسكون بتسمية " حرب الجزائر " أو " أحداث الجزائر " فيوجد أغلبهم على الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط ولهم ، في الجزائر ، أتباع أو أذناب. وهم ينطلقون ، وهم صادقون ، من كون الروابط التي تشد الجزائر إلى فرنسا أقوى من أن تنفصم بفعل" أعمال العنف غير الواعية والتصرفات اللاحضارية " . هذا النوع من المواطنين ممن وصفناهم بالأتباع والأذناب هم الذين يقولون عن الاحتلال الفرنسي الذي خرب البلاد وقضى على ما فيها من مآثر الثقافة والحضارة :" الوجود الفرنسي " ويسعون بكل الحيل لإضفاء أنواع من الإيجابية عليه . أما الصواب ، في التسمية ، فهو إلى جانب الذين يقولون إنها ثورة بأتم ما في الكلمة من معنى . ذلك أنها لم تأت فقط لتحقيق الانفصال عن فرنسا ولكنها جاءت لتمكن الجزائر من استرجاع سيادتها المغتصبة سنة 1830 . ولم تندلع بسبب تزييف الانتخابات أو جور الإدارة الكولونيالية. فذلك اعتقاد غير صحيح لأن الشعب الجزائري لم يعترف بالأمر الواقع الناتج عن الاحتلال بل لم يتوقف عن المقاومة بجميع أنواعها في سبيل استعادة السيادة والاستقلال . وبهذا الصدد نعود بالقارئ الكريم إلى سنة 1946 ونقتطف فقرة من خطاب الدكتور محمد الأمين دباغين أمام البرلمان الفرنسي . ولمجرد التذكير نعيد إلى الأذهان أن الدكتور كان من أقطاب حزب الشعب الجزائري الذين كان نشاطهم في أساس ثورة نوفمبر . قال الدكتور دباغين يومها : إنه لمن الخطأ الفادح الاعتقاد بأن رغبة الاستقلال لدى الشعب الجزائري متأتية فقط من كون الاستعمار لم ينجح ماديا .معنى ذلك ، على سبيل المثال، لو أن الاستعمار تجسد ماديا في تحسين معاش السكان المسلمين لكان يمكن أن يقودنا الأمر إلى النظر بعين الرضا لضياع شخصيتنا و سيادتنا و ثقافتنا .كل ذلك غير صحيح حتى و لو تمكنت فرنسا من إنجاز العجائب فيما تسميه بمستعمرة الجزائر ، وحتى لو كانت حقيقة كل الأكاذيب التي تروج لصالح الاستعمار، و حتى لو أن الشعب الجزائري يكون قد أصبح بفضل السيوف الفرنسية الشعب الأكثر سلامة و الأكثر ثقافة و الأكثر ازدهارا . وبقطع النظر عن الحقائق التاريخية التي لا تكفي، لتعدادها، المساحة المخصصة لهذا المقال ، فهناك دليل قاطع على أنها كانت ثورة وليست حربا نستخرجه من تسمية قيادتها العليا المنبثقة عن مؤتمر وادي الصومام وهي : المجلس الوطني للثورة الجزائرية . ولو كانت حربا لما كان صعبا على المؤتمرين ، حينها ، أن يثبتوا : المجلس الوطني لحرب التحرير أو لحرب الاستقلال . إذن ، كفى عبثا بالتاريخ ودعونا نسمي الأشياء بأسمائها.