بقلم: د/ محمد العربي الزبيري يعتقد النوفمبريون الجدد أن مؤتمر وادي الصومام، وضع وثيقة بمقدورهم توظيفها من أجل التنكر للعروبة والإسلام. إن مثل هذا الاعتقاد قد وجد تدعيما له في موقف بعض مؤسسي جبهة التحرير الوطني الذين جعلهم حب الزعامة لا يعترفون بشرعية المؤتمر، ويلصقون به كثيرا من العيوب أفظعها أنه لم يكن جامعا، وأنه أدار الظهر للأهداف الأساسية التي وردت في بيان أول نوفمبر وخاصة منها ذلك الذي يحدد مواصفات الجمهورية الجزائرية المزمع بناؤها بعد استرجاع الاستقلال الوطني. كانت تلك مغالطة لا تقل خطورة عن مغالطة الشعب هو البطل الوحيد. وإذا كان أصحابها، من كبار المسئولين في الثورة، يهدفون من خلالها، إلى التقليل من أهمية الإنجاز التاريخي، قصد التقليل من عبقرية الذين أشرفوا على تحقيقه، فإن النوفمبريين الجدد قد أحاطوها بهالة من التقديس باعتبارها حقيقة تنم عن التحول الأيديولوجي للثورة في الاتجاه المعاكس، مركزين على علمانية الوثيقة وإلحاد من زعموا أنهم محرروها الأساسيون، والذين يأتي في مقدمتهم الشهيد رمضان عبان والمرحوم عمار أوزغان. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن اعتماد الاسمين المذكورين يدل، بكل وضوح، على أن هؤلاء »النوفمبريين الجدد« ينقسمون إلى نوعين: أحدهما يضم في صفوفه أعداء جبهة التحرير الوطني من مناهضي مشروع المجتمع الذي بشرت به ليلة أول نوفمبر وهم، في معظمهم، من بقايا الجزائريين الأهالي، ومن دعاة الانفصال والتشرذم الوطني. ويشتمل النوع الثاني على الشيوعيين وأنصارهم ممن تخلف أسلافهم عن ركوب قطار الثورة في مختلف محطاته إلى غاية وقف إطلاق النار، وبدا لهم أن استغلال هذه المغالطة حصان قادر على تمكينهم من اللحاق والاندماج في الركب، دون انتباه الحرس، ودون التوقف عند ضرورة الحساب عن الفصل الوارد في وثيقة وادي الصومام والموسوم: »الشيوعية غائبة«. فالنوع الأول لم يقرأ وثيقة وادي الصومام، لكنه، مع ذلك، مقتنع ويريد إقناع الناس بأنها مغايرة لبيان أول نوفمبر خاصة فيما يتعلق بشكل نظام الحكم بعد وقف إطلاق النار. وهو يعزي ذلك لكون مهندسي المؤتمر وفي مقدمتهم رمضان عبان كانوا ضد »الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية"، وذلك غير صحيح لعدد من الأسباب أهمها ما يلي: 1 - إن الثورة، في أي زمان و مكان، لا يمكن أن ينظر لها شخص واحد أو شخصان، وإلا، فإنها تفقد معناها كعمل شامل يرمي إلى تغيير صورة المجتمع القائم بما هو أفضل. وبالنسبة للثورة الجزائرية، فإن منظومة الأفكار المعبر عنها بوضوح في نداء أول نوفمبر إنما كانت حوصلة ذكية لأدبيات الحركة الوطنية بجميع أطرافها. و كان من الطبيعي جدا أن تكون وثيقة وادي الصومام امتدادا لها ووعاء لإثرائها انطلاقا من تقييم المرحلة المقطوعة واعتمادا على الإمكانيات والمستجدات بجميع أنواعها. ولقد كانت الوثيقة معبرة عن كل ذلك بالفعل. لكن إهمالها، مدة طويلة، ترك المجال واسعا لبقايا الجزائريين الأهالي ولمؤرخي الثورة المضادة، بجميع أنواعهم، فراحوا يوظفون كل صغيرة وكبيرة لفصل مؤتمر وادي الصومام عن ما سبقه من محطات حاسمة مثل بيان أول نوفمبر ولحظات الانطلاقة وخاصة منها هجومات العشرين أوت 1955 التي أعطت للثورة نفسا جديدا وشكلت، في العمل الثوري، نقطة اللارجوع على حد تعبير السيد جاك سوستيل. 2 - إن وثيقة وادي الصومام قد انطلقت من نداء أول نوفمبر 1954 لتذكر من جديد بالضوابط التي تتحكم في نشاط جبهة التحرير الوطني والتي ينبغي أن تكون بمثابة المنارات التي تهتدي بها سائر قيادات الثورة في كل ما يمكن أن يصدر عنها من قرارات. و تتلخص هذه الضوابط فيما يلي: أ - الاعتراف بالشعب الجزائري، شعبا واحدا لا يتجزأ. معنى ذلك أن خرافة »الجزائر الفرنسية« و»الشعب الفرنسي المسلم«، و»الأمة التي في طور التكوين« والتقسيم العرقي الذي ما فتئت الإدارة الكولونيالية توظفه لإبقاء الشعب الجزائري في حالة التبعية الدائمة. كل ذلك يجب أن يزول من القاموس الاستعماري. ب - الاعتراف بالسيادة الوطنية على كافة الميادين بما في ذلك الدفاع الوطني والسياسة الخارجية. وهذا يعني أن الحلم الذي كان قد بدأ يراود فئة من المستعمرين وعددا ممن يسمون بالمعتدلين الجزائريين يجب أن يتبخر، لأن أي نوع من الاستقلال الذاتي لا يمكن إلا أن يكرس الهيمنة الأجنبية ويثبت الاستعمار الجديد. ج - الاعتراف بجبهة التحرير الوطني كممثل وحيد وشرعي للشعب الجزائري، لها وحدها حق التفاوض وحق الأمر بوقف إطلاق النار. إن استرجاع السيادة الوطنية، على هذا الأساس، سيمكن من إلغاء الواقع الاستعماري الذي من المفروض أن تزول بزواله كل علاقات العسف والتبعية، و تنبني من جديد، على قواعد ثابتة ومتينة، أركان الدولة الجزائرية المتخلصة، نهائيا، من الرواسب التي من شأنها تسهيل عودة الاستعمار الجديد. 3-فالسيادة الوطنية التي ترمي جبهة التحرير الوطني إلى استرجاعها لا تخص ميدانا دون آخر، بل إنها تشمل جميع مجالات الحياة وتمتد على كافة التراب الوطني حسب الحدود الرسمية والمتبناة من قبل السلطات الاستعمارية نفسها. لأجل ذلك، فإن ميثاق وادي الصومام قد عالج مسألة التفاوض مع العدو بكيفية دقيقة ومفصلة لا تترك أي منفذ للتحايل وللمناورات، علما بان المعالجة، في مضمونها لم تخرج عن الإطار الذي ضبطه بيان أول نوفمبر 1954 . وعندما ينظر الدارس بتمعن إلى الأهداف المذكورة أعلاه يجد أنها مترابطة فيما بينها ومتكاملة، ذلك أن السيادة الوطنية تفقد كل معناها إذا كان الشعب مطعونا في وحدته مصابا بداء التقسيم والفرقة اللذين يكونان نتيجة لفتح المجال لأطراف أخرى تتحدث باسم الشعب الجزائري. مع العلم أن التمثيل مطلقا في مثل هذه الحالة لا يكون مجديا إلا إذا كان الممثل قويا ويملك بين يديه وسائل حقيقية للضغط لتوجيه الأحداث في الاتجاه الذي يقطع على العدو خطوط الرجعة، ويفرض عليه الالتزام بالإطار المرسوم للتفاوض. ولأن مؤتمر وادي الصومام حدث طبيعي في مسار الثورة، كان يمكن أن ينعقد بتسمية أخرى وفي مكان غير الذي نعرفه، ولأنه جاء بناء على توصية أصدرتها القيادة التاريخية الأولى عشية الإعلان عن إشعال الفيل، فإنه من غير المعقول إسناده لهذا أو ذاك من المسئولين الذين كان لهم شرف الإشراف على التحضير بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. وإذا كان لابد من ذلك، فإن المنطق يجعل السبق للسيد محمد العربي بن مهيدي و للسيد بلقاسم كريم من بعده باعتبارهما من القيادة السداسية أو التساعية التي تحملت مسئولية الانتقال إلى مرحلة الكفاح المسلح، وليس لا لرمضان عبان ولا لعمار أوزغان. 4 – إن هذين الأخيرين لم يكونا مناهضين للإسلام، يدلنا على ذلك ما نشراه على أعمدة الصحافة من دعوة إلى تحصين الدين وتخليصه من هيمنة الإدارة الكولونيالية. وعلى سبيل المثال، فقط، نورد الفقرة التالية من افتتاحية المجاهد في عدده الأول، بقلم رمضان عبان: »لقد كان الغرب المسيحي، منذ الحروب الصليبية، ينظر إلى الجهاد الذي أعطانا مصطلح »المجاهد« على أنه رمز لعدوان ديني. إن هذه النظرة يفندها كون الإسلام هو دين التسامح، خاصة بالنسبة للمسيحية واليهودية، تشهد على ذلك المعاملة الحسنة التي كانت تحظى بها الديانتان المذكورتان...ولقد كان لإسلام، في الجزائر، الملجأ الأخير لقيمنا النبيلة التي ما فتئ المستعمر الغاشم يعمل على تدنيسها والقضاء عليها". أما النوع الثاني من النوفمبريين الجدد فيتمثل في بقايا الشيوعيين الجزائريين ومن والاهم من أدعياء الديمقراطية. فهذا الصنف من الجزائريين يسعى، بكل الحيل، لفصل مؤتمر وادي الصومام عن باقي المحطات الأساسية في تاريخ جبهة التحرير الوطني. ويرفضون الاعتراف بأن الوثيقة الصادرة عنه ليست سوى إثراء لنداء أول نوفمبر1954، ونتاج لأدبيات الحركة الوطنية، ولا تحمل، كما يدعي بعضهم، آثار أي قلم متشبع بأيديولوجية أخرى. ويكمن الدليل القاطع على ما نقول في كون جميع أجزاء الوثيقة جاءت تعبيرا صادقا عن الانشغالات الوطنية التي كانت تتضمنها سائر اللوائح الصادرة عن المؤتمرات التي كانت تعقدها أطراف الحركة الوطنية خاصة في العقد السابق لميلاد جبهة التحرير الوطني. ونكرر، هنا، أن الحزب الشيوعي، في الجزائر، ليس من أطراف الحركة الوطنية لأنه، منذ نشأته، يرفض النشاط في سبيل إعادة بناء الدولة الجزائرية المعتدى عليها سنة ثلاثين وثمانمائة وألف، ويدعو، على العكس من ذلك، إلى التموقع في خانة " الاتحاد الفرنسي" والعمل، من بعيد، على مبايعة الإتحاد السوفييتي كزعيم وقائد للقوى الشعبية في العالم. من هنا، فإن التأمل في سائر المراحل التي قطعتها أطراف الحركة الوطنية، في جميع ميادين الحياة اليومية، والمتفحص، بموضوعية، لمختلف نصوصها الأساسية، التي كانت دائما نتاج رؤية جماعية تتبلور من خلال مؤتمر أو ندوة أو اجتماع طارئ، يرى بكل سهولة أن مجرد اللقاء بين الحزب الشيوعي والتشكيلات الوطنية في الجزائر كان، ومازال، مستحيلا لأنهما كانا، ومازالا، يسلكان طريقين متوازيين، ويستعملان آليات للعمل وللفهم السياسي متناقضة في جميع الحالات. وذلك لأن أطراف الحركة الوطنية كانت، في ضبط مرجعياتها وتحديد أهدافها، تنطلق من مفاهيم ومصطلحات مأخوذة من الواقع المعيش ومتلائمة مع متطلبات الحقيقة التاريخية، أما المفاهيم والمصطلحات المعتمدة لدى الحزب الشيوعي الجزائري فمستوردة جاهزة من مخبر الحزب الشيوعي الفرنسي، ومطعمة ببعض تطلعات الحركة اللائكية التي كانت، ومازالت، نتيجة اقتلاع جذورها من التربة الجزائرية، تبحث دائما عن حليف يرفع معها راية الإلحاد في دار الجهاد. ومازال في مقدمة المفاهيم التي يستحيل الاتفاق حولها بين اللائكو/شيوعيين والوطنيين في الجزائر، كون الأخيرين يؤمنون بأن الدولة الجزائرية كانت قائمة بذاتها، كيانا مستقلا ونافذا في عالم ذلك الوقت، أساسها العروبة والإسلام وقوامها العدل والإحسان كما تشهد بذلك كتب التاريخ، ثم تكالبت عليها قوى الإمبريالية المسيحية فغيبتها. ولأن الأمر كان كذلك، فإن النضال الوطني استهدف، منذ بدايته استعادة السيادة واسترجاع الاستقلال الوطنيين. أما اللائكو/شيوعيون فينطلقون من كون »الجزائر إبداع فرنسي« كما عبر عن ذلك الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي السيد موريس توريز، ومن ثمة فهم يرفضون عروبتها وإسلامها، ويدعون إلى التعامل مع دولتها وكأنها كيان حديث لم يظهر إلى الوجود الدولي إلا بعد وقف إطلاق النار سنة 1962. لأجل ذلك، فإن النوفمبريين الجدد، في جميع المناسبات، يتحدثون عن الاستقلال وليس عن استرجاع الاستقلال، وعن حرب التحرير، أو حرب الجزائر، أو حرب الاستقلال، وليس ثورة التحرير.. فهم يؤمنون بأن الجزائر انفصلت عن الكيان الفرنسي لأنها لم تكن كيانا قائما بذاته قبل عدوان عام ثلاثين وثمانمائة وألف. ومن هنا، فإنهم يفتقرون إلى الرؤية الوطنية الواضحة التي تمكنهم من التشبع بما ورد في بيان أول نوفمبر 1954 ، وتمكنهم، تباعا، من إقامة الأرضية التي ينبني عليها الشرط الأول الذي يجب أن يتوفر فيهم لكي يكون لهم الحق في ادعاء النوفمبرية...