لم أستغرب أسلوب الشيخ فركوس في النقاش والمجادلة، عندما قرأت ما جاء في كلمته الشهرية الأخيرة في موقعه على الإنترنت لما أعلمه من طريقة كتابات عامة شيوخ ودعاة السلفية القدماء والمعاصرين ومن محاضراتهم ودروسهم التي يلقونها على الطلبة وعلى عامة الناس في المساجد. وربما كان أسلوبهم في الردّ على المخالفين لهم من أهم ما يميزهم، فلا يتورعون في ادعاء انفرادهم باتباع الكتاب والسنة في العقائد والعبادات والمعاملات وبفهم مراد كلام الله في القرآن ومراد كلام رسوله في الأحاديث دون غيرهم، أما مخالفوهم فيتهمونهم بالاحتكام إلى عقولهم أو فلسفاتهم أو أهوائهم، كما ينظرون إلى اجتهاداتهم على أن الدافع إليها والقصد منها هو معارضة أو تحريف معاني نصوص الكتاب والسنة ورفض مدلولاتها. وربما يدفعون أحيانا بالنقاش في قضايا شرعية اختلف حولها المسلمون منذ زمن طويل للقول بأن لخصومهم (دينا) يتبعونه، ألم يرتق هذا المرتقى الخطير الشيخ فركوس عندما قال: (الأصول التي بَنَوْا عليها دِينَهم تُناقِض منصوصَ الكتاب والسُّنَّة… وردُّوا نصوصَ الوحي وألغَوْا مدلولَهَا) ألم يصف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بأنها تحارب التوحيد ما يستلزم دعوتها للشرك بكل ما أوتيت من وسيلة علمية أو تربوية بقوله عنها هي: (الجمعيَّة الحزبيَّة الجزأريَّة التي تحارب عقيدةَ التَّوحيد) واتهم كل من انتقده لتبديعه غالبية أهل السنة بأنهم (لا يقصدون بحملتهم المسعورةِ هذه إلَّا تنفيرَ النَّاس عن التَّوحيد). وهكذا وبصريح العبارة يعتقد الشيخ فركوس أن لمخالفيه دينا خاصا بهم ما يستلزم دخولهم في من خاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله (لكم دينكم ولي ديني). ألا يُفهم من كلامه الذي مرّ على أنه تكفير للمسلمين الذين سماهم أو أشار إليهم في مقاله؟ ألا يُفهم من اتهامه لهم بردّ نصوص الكتاب والسنة ومحاربة التوحيد الذي هو أصل الإسلام وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوة كل الأنبياء والمرسلين هو إخراج لهم من الملة ومن أهل القبلة بحكم أن هذه الأوصاف هي الكفر والشرك نفسه ويستحق أصحابها التكفير؟ وكيف بإمكاننا بعد هذه الأوصاف التي رمى بها خصومه وهم بلا شك مسلمون بل ومن أهل السنة تبرئته من ممارسة التكفير ولمجرد قوله: (وإنِّي أبرأ إلى الله تعالى مِنْ تهمة التَّكفير)؟ وهل بعد كل هذه العبارات الصريحة في التكفير بالمعنى يتهم خصومه بحمل كلامه (على غير وجهه وبخلاف مُرادِ صاحبِه وقائلِه) و(بتحريف ألفاظه وتغيير معانيها) كما قال. إن الشيء الوحيد الذي تجنّبه الشيخ فركوس هو استعماله لفظ التكفير، أما أهم ما يجعل المسلم يعتبر كافرا أو مشركا فقد وصفه به، وهو في هذا المقام يشبه الشخص الذي يصف مشروبا بأنه عصير تمر ويحتسى في الكباريهات وأنه مسكر، إلا أنه يرفض تسميته خمرا، فهل امتناعه عن تسمية هذا الشراب خمرا يمنعنا من اعتقاد حرمته شرعا؟ إن عامة دعاة السلفية وللأسف أخذوا هذه الطريقة في النقاش من كتب لا يقرؤون غيرها بل يحرّمون على أتباعهم النظر في غيرها وتربوا عليها على أيدي مشايخهم. فمشكلتهم تصورية تربوية وشرعية وعلاجها يكون على هذه المستويات. وإذا اضطروا أحيان وعلى مضض إلى الاعتراف باعتماد المخالفين لهم كالمنتمين إلى الأشاعرة أو الماتريدية أو الصوفية أو كانوا من أهل الحديث المؤولين لبعض الصفات المسماة بالصفات الخبرية على نصوص الكتاب والسنة لتأكيد صحة تفسيرهم وصواب تأويلهم فيتحوّلون إلى اتهامهم بتحريف مراد كلام الله وكلام رسوله عما قصداه وتغيير معاني كلامهما، قال الشيخ فركوس: (والمرادُ بالتّحريفِ: تغييرُ معاني الكتابِ والسّنّةِ بتأويلِهما إلى معانٍ أخرى تنتفي دلالتُهما عليها، سواء كان التّحريفُ في الآياتِ الشّرعيّةِ: في اللّفظِ كتبديلِ بني إسرائيلَ «حطّة» ب«حنطة» في قولِه تعالى: (وَقُولُوا حِطَّةٌ) أم في المعنى كتحريفِ معنى «استوى» في قولِه تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ب«استولى»، أم تأويلِ معنى «اليدِ» في قولِه تعالى: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) ب"القوّةِ". ولكثرة ما يقرأون في كتب الإمام ابن تيمية والرجوع إليها تسرّب إليهم أسلوبه في الرد على علماء الأشاعرة وعلى غيرهم، فهو يكرّر باستمرار اتهامهم بتحريف معاني كلام الله ورسوله لشدة الصراع الذي كان بينهما كقوله عنهم: (فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على غير ذلك. والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردّها كيف أمكن ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول بل أن يدفع منازعه عن الاحتجاج بها) مجموع الفتاوى 13/59. وهكذا، دون تحفظ، يرمون أغلب علماء أهل السنة الذين أوّلوا بعض الصفات التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم بتحريف كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي اعتمدوا عليه في النقاش ويكرّرون ذلك كوسيلة تأكيدية تربوية حتى يرسخ المعنى في نفوس أتباعهم، ألم يستعمل هذا الأسلوب الشيخ فركوس نفسه عندما يقول: (فهذا غيضٌ مِنْ فيضٍ مِنْ شُبُهاتهم العقليَّة التي عارضوا بها الوحيَ المنزَّل، وفارقوا صحيحَ المنقول، وأوَّلوه على غير تأويله، وحرَّفوا معانيَ ألفاظِ الكتاب والسُّنَّة) ألم يقل أيضا: (وذَهَب إلى رأيهم في اتِّباع المتشابه والاستدلالِ به على مقالاتهم الباطلة تحريفًا لنصوص الوحي). إن أخطر "مرض" علق بالسلفيين المداخلة هو اعتقادهم أن فهم العلماء الذين اختاروهم للرجوع إليهم في مسائل العقيدة لنصوص الكتاب والسنة هو نفسه ما قصده الله وقصده رسوله صلى الله عليه وسلم منها والحقيقة التي من واجبهم إدراكها هي أن هناك فرقا شاسعا بين الأمرين ومسافة كبيرة بينهما كالمسافة بين السماء والأرض. وبسبب غبائهم حتى لا أقول شيئا آخر في عدم تفريقهم بين فهم المخاطَب وقصد المخاطِب يسارعون إلى اتهام المخالفين لهم بردّ ومعارضة الشارع والنصوص الشرعية مع أن خصومهم لا يعارضونها بل يعارضون فهوم علمائهم للنصوص الشرعية بفهوم علماء آخرين لتلك النصوص. ففي مسائل وقع فيها خلاف بين أهل السنة والجماعة كل العلماء أكفاء بعضهم لبعض فليس لبعضهم الذين وطن السلفيون أنفسهم على الأخذ منهم مزية على آخرين في فهم النصوص والاجتهاد. وفي هذا السياق، قد يردّ علي أحد الجهال من أتباع الشيخ فركوس فيقول: (من أنت؟) (فهو أعلم منك في العلوم الشرعية) وقد وقع بالفعل ولا يعلم هذا المسكين أني لا أنتقد الشيخ فركوس من منطلق كوني كفؤا له أم لا بل مما تعلمته من الإسلام وما تعلمته من علماء السلف والخلف وهم بلا شك أعلم منه ولا هو كفؤ لهم. وقد انتقد هذا الأسلوب في النقاش حتى الإمام ابن تيمية وهو مرجعهم فقال: (وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد (لخصمه): أنت أعلم أم الإمام الفلاني؟ كانت هذه المعارضة فاسدة لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة ولستُ أعلم من هذا ولا هذا… فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع… فكذلك موارد النزاع بين الأئمة) مجموع الفتاوى 20/215. ثم من واجب دعاة السلفية ألا يغفلوا أنهم كغيرهم من أتباع المدارس الأخرى من أهل السنة كالأشاعرة والماتريدية والمذاهب الفقهية كالمالكية والشافعية والحنفية والأحزاب السياسية والجماعات الدعوية والحزبية غير معصومين في فهم الكتاب والسنة، فقد يكون فهمهم في ما اختلف فيه أهل السنة هو مراد الله ورسوله وقد يكون فهم غيرهم هو مراد الله ورسوله. فما توصلوا إليه من عقائد وأحكام عملية ليست قطعية أو معلومة من الدين بالضرورة أو ثبت فيها إجماع للمسلمين يحتمل أن تكون صوابا أو خطأ. فلا يجوز لهم ولأي مسلم اعتقاد عصمة أحد في الفهم حتى ولو كان من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، فكم هي الأمثلة التي أخطأ فيها الصحابة في تفسير آية أو حديث وكم قضية اختلفوا فيها بسبب اختلافهم في فهم آية أو حديث؟ وربما لاحتمال أن يخطئ حتى الصحابي في حكم الله نهى النبي صلى الله عليه وسلم أميره بريدة أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله قائلا له: (فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك) رواه مسلم. كما لا يصح منهم اعتبار أنفسهم أصحاب الحق المطلق والصواب دون غيرهم، وقد فضلت لتأكيد خطإ تصورهم هذا الاستعانة بالإمام ابن تيمية وهو الذي يسلمون لكل أقواله فقد انتقد بحق الإمام الجويني الذي كان له هذا التصوّر قائلا: (فإنه دائما يقول: قال أهل الحق، وإنما يعني أصحابه، وهذه دعوى يمكن كل أحد أن يقول لأصحابه مثلها، فإن أهل الحق الذين لا ريب فيهم هم المؤمنون الذين لا يجتمعون على ضلالة، فأما أن يفرد الإنسان طائفة منتسبة إلى متبوع من الأمة ويسميها أهل الحق، ويشعرَ بأن كل من خالفها في شيء فهو من أهل الباطل، فهذه حال أهل الأهواء والبدع… فليس الحق لازما لشخص بعينه دائرا معه حيث دار لا يفارقه قط إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم) التسعينية ص 245. ونصيحتى إلى إخواني دعاة السلفية في مسائل خلافية بين علماء أهل السنة ألا يردوا حقا وصوابا قاله خصمهم بحق وصواب آخر يقرّ به، كردّ تأويل بعض الصفات بتفويض معناها أو العكس، فهذان قولان يأخذ بهما عامة أهل السنة كما ذكر ذلك الإمام النووي وغيره، فقد نهى الإمام ابن تيمية عن هذا الأسلوب في النقاش (للعلم ابن تيمية يرفض التأويل والتفويض) فقال: (ففي هذا الحديث ونحوه مما ينهى فيه عن معارضة حق بحق، فإن ذلك يقتضي التكذيب بأحد الحقين والواجب التصديق بهذا الحق وهذا الحق. فعلى الإنسان أن يصدق بالحق الذي يقوله غيره كما يصدق بالحق الذي يقوله هو، ليس له أن يؤمن بمعنى آية استدل بها ويرد معنى آية استدل بها مناظره، ولا أن يقبل الحق من طائفة ويرده من طائفة أخرى) درء التعارض 8/404. والملفت للانتباه، أن دعاة السلفية لا يريدون الإقرار بأن الاختلاف بين علماء أهل السنة والجماعة في بعض العقائد والكثير من أحكام العبادات والمعاملات يرجع إلى اختلافهم في بعض قواعد فهم خطاب الله وخطاب رسوله التي حواها علم أصول الأحكام المسمى بعلم أصول الفقه باعتباره العلم الذي يحدد ويضبط قواعد فهم خطاب الشارع الحكيم وليس الاختلاف حول وجوب اتباع الكتاب والسنة والاستدلال بهما. فعليهم الرجوع دائما إلى هذا العلم حتى يعصموا أنفسهم من تضليل وتبديع وربما تكفير من خالفوهم بسبب قلة المعرفة بقواعد وأصول فهم خطاب الله وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم وطرق الجمع والترجيح في حال ما بدا ظاهريا متناقضا بين النصوص الشرعية. * بصريح العبارة، يعتقد الشيخ فركوس أن لمخالفيه دينا خاصا بهم، ما يستلزم دخولهم في من خاطبهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- بقوله: (لكم دينكم ولي ديني). ألا يُفهم من كلامه الذي مرّ، أنه تكفيرٌ للمسلمين الذين سماهم أو أشار إليهم في مقاله؟ * الشيء الوحيد الذي تجنّبه الشيخ فركوس هو استعماله لفظ التكفير دون خصائصه ومعانيه، وهو في هذا المقام يشبه الشخص الذي يصف مشروبا بأنه عصير تمر ويُحتسى في الكباريهات وأنه مسكر إلا أنه يرفض تسميته خمرا، فهل امتناعه عن تسمية هذا الشراب خمرا يمنعنا من اعتقاد حرمته شرعا؟ * (… أما أن يفرد الإنسان طائفة منتسبة إلى متبوع من الأمة ويسميها أهل الحق، ويشعرَ بأن كل من خالفها في شيء فهو من أهل الباطل، فهذه حال أهل الأهواء والبدع… فليس الحق لازما لشخص بعينه دائرا معه حيث دار لا يفارقه قط إلا رسول الله- صلى الله تعالى عليه وآله وسلم-) التسعينية. ص * من واجب دعاة السلفية ألا يغفلوا أنهم كغيرهم من أتباع المدارس الأخرى من أهل السنة كالأشاعرة والماتريدية والمذاهب الفقهية كالمالكية والشافعية والحنفية والأحزاب السياسية والجماعات الدعوية والحزبية غير معصومين في فهم الكتاب والسنة، فقد يكون فهمهم هو مراد الله ورسوله وقد يكون فهمُ غيرهم هو مراد الله ورسوله.