عندما كتبت الأسبوع الماضي "لهذا لا أهتم بما قال فركوس!" لم يكن يعنيني الرد على أقواله بتاتا؛ لأن ما كان يهمني في الموضوع هو لفت الانتباه إلى مَنْ وراء مثل هذه القضايا التي تثار بين الحين والآخر من غير مبرر موضوعي لبعثها؟ ولأنني أعتقد اعتقادا جازما أن إثارة الخلافات بين المسلمين –في أي مجال- على حساب ثوابتهم، من غايات الحراك الدولي، لا سيما عندما يكون المختلف فيه شأن ديني، ولا يمثل في الموضوع الأخ محمد علي فركوس إلا ضحية من الضحايا شنه في ذلك شأن من يركض وراءه. على أن هذه المسائل قديمة قتلت بحثا عند القدامى.. فكلامه موجود في بطون الكتب، والردود عليه موجودة أيضا في بطون الكتب، وهي مسائل لا تهم الجمهور في شيء، ومن أراد أن يُضَيِّع عمره فيها على حساب واجباته الدينية والدنيوية –إن لم يكن من أهل البحث العلمي- فعليه بكتب القدامى سيجد الكثير مما قاله فركوس وغيره. ذلك أن الغرب في صراعه مع الشعوب الفقيرة والمستضعفة، يستعمل جميع الوسائل من أجل تشتيتها وتمزيقها؛ لأن وحدة كل أمة ومجتمع وشعب هي التي تُجمِّع جهود الأفراد فتثمنها وتضعها في مواقعها اللائقة، وبها تتصدى للمكائد والمزالق والخيانات. ولست مضطرا هنا لموازنتها بغيرها من القيم..، حتى لا يستدرجني أحد إلى أمر لا أقصده.. فيقول لي: أهي أولى أم التوحيد؟ أهي أولى أم الاجتهاد الفقهي؟ أهي أولى أم إزالة الطواغيت من وجه الأرض؟ وهلم جرا. والناظر في واقع الأمة الإسلامية عامة بأقطارها المترامية الأطراف يلاحظ بجلاء حجم التمزق الذي تعاني منه، فهذا السودان أصبح سودانين، والعراق كدولة متماسكة أصبح في خبر كان، وما بقي منه سيبقى يعيش تمزقا مزمنا، سنة وشيعة وصابئة ويهود ونصارى وعرب وأكراد...إلخ، وفي سوريا نظام يواجه شعبه، ثم دخلت عليه القوى المستكبرة لتصفي حساباتها على أرض دمشق الطاهرة، وعلى حساب الشعب السوري المسالم، باسم حماية النظام وباسم حماية العلويين وباسم الحفاظ عن مصالح النخب الفاسدة، ولا أحد يدافع عن الشعب إلا قلة قليلة وجدت نفسها في إطار كماشة أكبر منه ومن النظام نفسه، واليمن الذي كان سعيدا لم يبق فيه من السعادة، إلا اسمها ورسمها على الأوراق...، وقل مثل ذلك في وحدة الخليج العربي والقضية الفلسطينية… وما بقي من الشعوب التي استعصت على التمزيق المباشر أو أنها تنتظر دورها، فإن العمل على تمزيق وحدتها الاجتماعية والثقافية والفكرية على قدم وساق، وأفضل المؤثرات على هذه الوحدة استعمال المسائل الشرعية الدينية في تقسيم المجتمع إلى فرق وطوائف ينعت بعضها بعضا بكلّ ما يحلو لهم من نعوت التبديع والتكفير والتحقير. ومن فضل الله على الجزائر أنها إلى حد الآن مبرأة من كل هذه الانقسامات.. وهي مرشحة -لا قدر الله- للتمزيق بمثل هذه الطروحات التي يقوم بها الأخ فركوس وغيره ممن يدخلون المعركة من مناصريه وخصومه؛ لأنهم حققوا المطلوب "وهو النقاش العلمي خارج أطره الطبيعية"، فيصبح هراء تختفي بسببه الحقائق. فغرضي من الكاتبة إذا لم يكن للرد على الأخ محمد علي فركوس، وإنما كان من أجل التنبيه إلى خطر استعمال ما هو خلاف مزمن واجتهاد محتمل في معارك وهمية يوجهها عدو الأمة وخصمها إلى خدمة مصالحه وإفساد عقولنا، ولمن يشك في هذا الاستنتاج أو التحليل، فليقرأ كتاب "السياسة الثقافية الفرنسية في الجزائر أهدافها وحدودها 1830-1962" للدكتورة كميل رسلير الكندية وترجمة الدكتور نذير طيار، الصادر في مطلع هذا العام 2018، ويقرأ أيضا كتاب "الصرع الفكري في البلاد المستعمرة" للأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، ويستمع إلى تصريح جديد لولي العهد السعودي ابن سلمان الذي قال: فرض علينا الغرب الوهابية في إطار الصراع مع الاتحاد السوفييتي، بهذا التصريح الذي فيه شيء من الحقيقة وكثير من الباطل، سيحقق الغرب مكاسب كثيرة، أولها القضاء على التجربة الوهابية التي نشأت كما نشأت الكثير من حركات الإحياء في العالم الإسلامي، والتحضير للمشروع الجديد الذي سيفسد المنطقة بكاملها إذا كتب له النجاح. ولكن بعض قرائي الكرام –وأنا أحترمهم جميعا وما أقدمه هنا هو نزول عند رغبتهم- كانوا ينتظرون مني أن أسجل موقفا علميا في الموضوع؛ لأنهم شعروا أن الرجل ظلم وكان ينبغي أن يناقش علميا، وأنا مع علمي المسبق بأن أي رأي موافق للأخ محمد علي فركوس أو مخالف له، لن يحسم الموضوع لصالح أحدهما؛ لأنه موضوع خلافي منذ القدم ولا يقبل الحسم لهذا الطرف أو ذاك وما دام الأمر كذلك، فلا بد من النظر إلى الأسباب والمآلات، أي الأسباب التي تدعو إلى إثارته، والنتائج المتوقعة بعد إثارته. أما الأسباب في مثل هذه القضايا فقد ذكرت أهمها، وعلمت من بعض الفضلاء أن هناك مراكز بحث في الخليج أنشئت لمثل هذه الأغراض حيث أنشئت للبحث عن المسائل الشاذة في الفكر الإسلامي وإعادة بعثها!! وأما النتائج فهي الغاية التي يريد الوصول إليها الأخ محمد علي فركوس وخصومه من داخل الدائرة وخارجها، وأظنها البحث عن الحق وإيصاله للناس حفاظا على الدين، وبحكم أن ما يقومون به في مجمله من الإجتهاد الذي فيه سعة، وللناس فيه أراء ومذاهب فينبغي أن يراعي جملة من المبادئ في التبليغ والدعوة والإرشاد. 1. ضرورة مخاطبة الناس بما يدركون ويفهمون، وكل خطاب لا يدركونه أو يفهمونه يكون حتما لهم أو لبعضهم فتنة. فالكلام اليوم عن مدارس كلامية مثلا لا وجود لها في الواقع، تحميل للناس لما لا يطيقون. فالناس اليوم موحدون بالفطرة، ولا يحتاجون إلى مدارس كلامية لتفهمهم توحيد الله سبحانه، وما هو متداول بين العلماء وطلبة العلم ليس لا يقتضي بالضرورة إعلامهم به. وقد أدرك الأستاذ الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله هذا المعنى فوضع المقرر لطلبته في التوحيد، العقيدة الإسلامية من القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد طبع الكتاب بإشراف الشيخ محمد الصالح رمضان أحد طلبته رحمه الله. وذلك لا يعني تسفيه المناهج السابقة الكلامية وغيرها، وإنما لأن حاجة العصر في هذا المجال تختلف عن حاجات العصور السابقة. 2. إن تلك المدارس الكلامية التي نشأت في تاريخ الأمة، وأخرجها الأخ فركوس من دائرة أهل السنة والجماعة، إنما نشأت لأسباب موضوعية وأدت دورها، ولا تزال قادرة على ذلك في بعض الجوانب، وذلك معروف عند الأكاديمين، ولا تليق إثارة الموضوع بتفاصيله في أوساط الجماهير؛ لأنها لا تستطيع استيعابه، مثل سائر العلوم، فلا يليق بالطبيب مثلا أن يتكلم مع مرضاه عن تفاصيل المرض، ولا الصيدلي عن تفاصيل الأدوية ومؤثراتها الجانبية، ولا البناء عن تفاصيل البناء وتقنياته، وقل مثل ذلك في جميع التخصصات؛ لأن الناس في عمومهم لا يريدون من صاحب التخصص إلا الخدمة بمقدار الحاجة بما في ذلك التدين، بدليل أن الصحابة كانوا يسألون عن أحب الأعمال إلى الله –سؤال واحد-، فيجيبهم النبي صلى لله عليه وسلم بالكثير من الأجوبة، فيقول لأحدهم الجهاد في سبيل الله، ويقول لآخر بر الوالدين، ولآخر لا تغضب، ولآخر الصلاة لوقتها…إلخ. 3. إن خطاب المقاصد الشرعية متعلقة بما يليق بالجمهور كما يقول الإمام الشاطبي رحمه لله، وكل شيء لا يليق بالجمهور فهو من مهام أهل الإختصاص ولا يجوز إثارته مع العامة، ولذلك منعت الفتوى من على المنابر، ومنع تفصيل الكلام في الصفات في الدروس العامة، ومنع إثارة المسائل الخلافية مع العامة؛ لأن كل ذلك يحمل من المبررات والموانع على عدم جواز تعميمها، فالفتوى قد تكون لشخص ولا تصلح لشخص آخر، وتفاصيل الكلام في الأمور الخلافية يتطلب مستوى علمي وفكري أعلى من مستوى العامة، ولذلك لا يقال للعامي أنه مالكي أو شافعي أو ماتريدي أو أشعري أو ما إلى ذلك؛ لأن مذهبه مذهب من يفتيه ويلقنه من مبادئ وكيفيات التدين. 4. إن القضايا التفصيلية هي الساحات التي يستظل فيها الشيطان، ولذلك نجد أن الاهتمام بالخلافات على حساب الثوابت والأمور المتفق عليها في التاريخ من اشتغال المبتدعة والمتخلفين عن الركب. أما الذين هداهم الله إلى الحق والصواب، فمنشغلون دائما بالأساسيات والكليات، وبالحرص على تقليص مساحات الخلاف والتفرقة، وفي ذلك ما يشغل حقا عن الخلاف والاهتمام به وبالترويج له. 5. إن مهمة الداعية ليس الاشتغال بالحكم على الناس وعلى مستوى تدينهم، وإنما همه هو كيف يدخل الناس في دين الله ويبعدهم عن مداخل الشيطان، والدخول في دين الله والابتعاد عن مداخل الشيطان، لا يكون بالاشتغال بالمسائل الخلافية أو التخيير بينها، ولذلك لما سأل ذلك الأعرابي عن فعل يدخله الجنة أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بقواعد الإسلام الخمس، فقال الأعرابي والله لن أزيد عنها شيئا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أفلح إن صدق". 6. لا شك أن التدين مستويات ومراتب، والبعض منا ومنهم الأخ فركوس نعتقد أنهم يريدون تنبيه الأمة إلى المستويات الأرقى والمراتب الأعلى، ولكن "ليس من طلب الحق كمن أدركه"، كما يقول الإمام علي رضي الله عنه، وذلك لا يتحقق إلا بترتيب الأولويات في المجتمع، أما الإطار العام فلا ينبغي الخوض فيه بما لا يليق بجمهور الناس وسوادهم الأعظم وترك المستويات الأخرى إلى الجامعات والمعاهد والطلبة والمجالس الخاصة. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل