بعيدا عن الأضواء الإعلامية يتمّ وأد مشروع "صفقة القرن" كما وُلد وسط تكتم تام، كان يفترض أن يشكل قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس المحتلة ما يحاكي "الصدمة والترويع" التي تجبر الدول والشعوب العربية على القبول بالأمر الواقع، وإضافة النكبة إلى باقي نكباتهم منذ غرس الكيان الصهيوني في قلب جغرافية العرب. مصادر دبلوماسية وإعلامية غربية وإسرائيلية أكدت رفض خادم الحرمين الملك سلمان أغلب تدابير ما سمي ب"صفقة القرن"، ومنها التسليم في القدس كعاصمة موحدة لكيان الاحتلال، وتجاهل الشرطين اللذين قامت عليهما مبادرة السلام العربية بالتمكين لقيام دولة فلسطينية على حدود 67 وعاصمتها القدس، يتبعها تطبيعٌ عربي كامل مع الكيان الصهيوني. الملك سلمان يكون حسب نفس المصادر قد بلغ إدارة ترامب بقرار الرفض، كما يكون قد حرَّض بعض حلفائه العرب على توسيع جبهة الرفض، والامتناع عن التجاوب مع المشروع الذي علق بشأنه لوكالة رويتر أحدُ الدبلوماسيين العرب بالقول: "الولاياتالمتحدة ارتكبت خطيئة حين عوَّلت على نجاح ممارسة الضغط على بلد لتليين مواقف بقية الدول العربية، إذ لا يمكن لأي زعيم عربي أن يسلم في القدس". الخبر أكدته صحيفة "هآريتز" الإسرائيلية التي أشارت إلى "دعم الملك سلمان للموقف الفلسطيني بشأن رفض الوساطة الأمريكية، كما أبلغ القادةَ العرب بتمسك السعودية بمبادرة السلام العربية" بما يعني إن تأكَّد الخبر أن الملك سلمان يكون قد لجم وليَّ العهد محمد بن سلمان، الذي بدأ يتراجع حضورُه الرسمي والإعلامي في الأشهر الثلاثة الأخيرة. القرار السعودي له ما يبرِّره على الصعيدين الداخلي والخارجي مع استياء السعودية من تراجع موقف الولاياتالمتحدة في الملف السوري الذي أقصِيت منه السعودية ودولُ الخليج، فيما يُسوَّق لدور إيراني وتركي كقوتين معنيتين مستقبلا بإدارة الشرق الأوسط بالشراكة مع إسرائيل، بما يعني أن السعودية ترى أن الولاياتالمتحدة لم تسدِّد ثمن الصفقة وعلى رأسها إخراج إيران من الإقليم العربي. وعلى مستوى آخر، تكون السعودية قد استأنست برفض كثيرٍ من حلفاء الولاياتالمتحدة دعم قرارها نقل السفارة إلى القدس، وامتناع كثير منهم عن دعم الموقف الأمريكي داخل مجلس الأمن والجمعية العامة، وتسجيل حالة من العزلة الدبلوماسية لم تعهدها الولاياتالمتحدة من قبل. عربيا وإسلاميا تكون السعودية قد أدركت أن تمرير صفقة القرن برعاية سعودية سوف يضعف لا محالة مكانة السعودية عربيا وإسلاميا، ويقوِّي بالضرورة الزعامة التركية والإيرانية للمنطقة، كما سيشكِّل ضربة قاصمة إلى قوتها الناعمة، وإلى حضورها الديني الذي أنفقت عليه الكثير، بل ولها أن تخشى داخليا على تماسك العائلة الحاكمة، المتذمرة أصلا من سلوك ولي العهد مع بعض أبرز وجوهها، ثم مع المؤسسة الدينية التقليدية ومع رؤوس القبائل، فضلا عن النزيف الذي تسبب فيه بإدارة حربٍ عبثية مكلفة عسكريا وماليا وإعلاميا في اليمن. وكيفما كانت الأسباب، فإن امتناع السعودية عن تزكية الصفقة سوف يثبط بقية الدول العربية التي اقتربت منها الإدارة الأمريكية ومنها مصر والأردن، كما سيساعد سلطة محمود عباس على الصمود أمام الضغوط الأمريكية، وربما يفتح المجال أمام مبادرة عربية بديلة تُسقِط نهائيا استفراد الولاياتالمتحدة بملف المفاوضات، وتعيدها إلى الأممالمتحدة، الملزَمة في الحد الأدنى بالوفاء بالقرارين 242 و194 اللذين يوفران حقوقا أفضل للفلسطينيين من مبادرة السلام العربية ذاتها!