"...لقد كانوا هنالك لا حول لهم ولا قوة، لم تُجد معهم الصلاة ولا الترانيم. كانوا في أوروبا التي غرقت فيها السفينة البشرية. يتوسلون دون جدوى، يسمع صراخهم وبكاؤهم وهم يسحبون إلى غرف الغاز، ليس ثمّة أحد للدفاع عنهم. لا أحد فكّر في منحهم اللجوء...النساء والأطفال وكبار السن والأطباء والموسيقيين والكتّاب والحاخامات...إنها صور مرعبة صاحبت عملية إبادة ستة ملايين من البشر بسبب الهمجية النازية. إنها مجزرة لا تغتفر ومن المستحيل أن تنسى! كيف يمكن تفسير هذه الكراهية القوية ضد شعب بأكمله؟ لماذا انتهكت الكرامة وحقوق الإنسان في القرن العشرين؟ لماذا تعاون الكثير منهم مع الشيطان، الذي عبّر بعنف عن قوى الشر الكامنة فيه؟ لماذا كان الله غائبا حين كان يباد شعبه المختار؟!". هكذا افتتح الكاتب "فريدي ايتان" (Eytan Freddy) إحدى مقالاته تحت عنوان المحرقة : "واجب الذاكرة حيال الإنكار" La Shoah : le devoir de mémoire contre négationnisme هكذا سخّر اليهود أقلامهم الصحفية وسخّروا كذلك التاريخ من أجل جعل المحرقة من بين الثوابت المقدّسة التي لا يجب التعرّض لها. كتبت عدة كتب حول الموضوع تؤرخ للمحرقة النازية ضد اليهود بشكل يختلف كثيرا عن عملية التأريخ المعتادة. لم يكتم الكتّاب تعاطفهم مع اليهود، ولم يبخلوا في توظيف عبارات تجعل القارئ يتعاطف بشكل عفوي مع الضحايا. كما أنهم نجحوا في إماطة اللثام عن العديد من شخصيات نازية كانت كهتلر في تعاملها مع اليهود، فها هي الفيلسوفة والمؤرخة ألكسندرا لافاستين (Alexandra Lavastin) التي ألّفت كتابا بعنوان: "الكتاب الأسود للمحرقة في رومانيا" "Le livre noir de la Shoah en Roumanie"، حيث اشتغلت الكاتبة، شأنها شأن الكثير من المؤرخين، على إرساء فكرة مفادها أن اليهود لم يكونوا ضحايا هتلر وحده، بل كانوا ضحايا الكثير من الدكتاتوريين من أمثال أيون انتينوسكو، الذي تحدثت عنه الكاتبة مؤكدة أنه قام بإعدام 350000 يهودي على الأراضي الرومانية والأوكرانية خلال الحرب العالمية الثانية. يعتبر الكثير من اليهود بأن هذا الكتاب ألف بالدموع والدم نظرا للتصوير البليغ ومحاولة إيصال الأفكار إلى القارئ بهز مشاعره قبل مخاطبة عقله، إذ تقول فيه الكاتبة: "تولى نظام الجنرال ايون انتونيسكو حليف ألمانيا وبنفسه سياسات معادية لليهود، وتعزيز فكرة معاداة السامية. وقد عم العداء لليهود في أوكرانيا وفي المناطق الواقعة تحت الإدارة الرومانية المجرية (شمال ترانسيلفانيا)، حيث تم ترحيل اليهود إلى معسكرات خصصتها القوات الرومانية لارتكاب مذابح ممنهجة ضد لليهود ...إنه الموت الممنهج بوحشية فظيعة. لقد تعرض اليهود للحرمان والإذلال وسط أعمال عنف مبتكرة خصيصا لمعاملتهم بتلك القساوة المفرطة." وكتب "باتريك ديسبوا" "Patrick Desbois" يصف معاناة اليهود عام 1941 على الأراضي السوفيتية في مؤلفه "حامل الذاكرة" "Porteur de mémoires" جمع الكاتب بين الأسلوب الشعري والتوثيق التاريخي كي يأسر قلب القارئ ويكسب تعاطف بشكل تلقائي مع اليهود. إنها طريقة ابتكرها اليهود لكتابة التاريخ حول المحرقة بأسلوب شاعري جذاب الى درجة أن الكثير من كتب التاريخ تتشابه في طريقة صياغتها مع الأشعار التي كتبت خصيصا من أجل الموضوع ذاته. فحتى الإشعار ذاتها اختاروا أن يكتبوها بأسلوب التأريخ للحدث فقد اشتغل إسحاق كاتزنلسون Isaac Katznelson وغيره من الشعراء على كتابة أشعار حرض اليهود من خلالها على تلقين أطفالهم مأساة أجدادهم على يد النازية. وجعل تلقين الأحداث المأسوية للأطفال ضرورة من أجل البقاء. قدّس اليهود الحديث عن المحرقة إلى درجة تبنّوا مقولة حول الموضوع تعبّر عن موقفهم من ضرورة التذكر:"ما أجمل أن تفقد الذاكرة من أجل أن يحيا كل أولئك الضحايا؛ ضحايا المحرقة النازية"، إنها إذن طريقة ابتكرها اليهود من أجل المحرقة فرسخوا للمعادلة التالية: كتابة التاريخ بشاعرية وكتابة الشعر وغيره من الفنون بطريقة التأريخ. هكذا اشتغل اليهود على إحاطة المحرقة بهالة من القداسة فأصبحت أقدس من التوراة نفسها. وأصبحوا يعبّرون عن الاضطهاد النازي لهم سواء أتيحت لهم الفرصة لذلك أم لم تتح. فأصبحت الكثير من الأعلام اليهودية تقترن بالاضطهاد، وهذا ما رسخ له مثلا فلاسفة مدرسة فرانكفورت الذين تحدوا ألمانيا وأنشأوا فيها مدرسة جعلت الفلاسفة من أمثال "أدورنو وماركيوز" ...تقترن أسماؤهم ومدرستهم بمجرد ذكرها باضطهاد النازي لليهود. فرض اليهود على العالم تقديس المحرقة وتمكّنوا من محاكمة روجيه غارودي، الذي أدين بتهمة التشهير العنصري لأنه اعتبر بأن ثمّة مبالغة من طرف اليهود في تصوير الإبادة الجماعية. أدين غارودي بمطرقة القاضي، وكان الأولى أن يفتح معه الحوار والنقاش بمقارعة الحجة بالحجة. وكانت محاكمة غارودي بمثابة إنذار مسبق لكل من تسول له نفسه مناقشة عدد ضحايا المحرقة أو محاولة تفسيرها على أساس أنها ترتبط بالعوامل الاقتصادية أو الدينية. فرض اليهود على العالم قانونا يتم إدانة كل مشكك في المحرقة فأخرجوا المحرقة من الحدث التاريخي إلى سياق المقدس الثابت الذي لا يناقش على الإطلاق. فأصبح بالإمكان التشكيك في وجود الله، لكنه لا يمكن التشكيك في المحرقة. هكذا فرض اليهود احترامهم على العالم، حتى بالطرق غير المشروعة في أغلب الأحوال. وأمام هذا الأمر الواقع نتساءل: لماذا لم نتمكّن نحن كجزائريين من فرض محارقنا، وما أكثرها التي ارتكبتها فرنسا ضدنا؟ ذاق أجدادنا كل أنواع التعذيب وبشتى الآلات المخصصة لهذا الغرض. عذّبوا نفسيا وجسديا وارتكبت ضدهم مجازر جماعية رهيبة ورغم ذلك صبروا وجاهدوا بطريقة تجعلنا لا نفيهم حقهم في الوصف ولهذا نستنجد ببيت شعري لمفدي زكريا: "لولا العقيدة تملأ قلبي ما كنت لأؤمن إلا بشعبي". لم نتمكّن من التأريخ لمحارقنا بالمستوى الذي يليق بها، ولكن كيف سنفعل ذلك فكتابة التاريخ تحتاج إلى الوثاق والأرشيف وأرشيفنا لم نستطع تحريره، ولهذا أصبحت كتابة تاريخ محارقنا في أغلب الأحيان كنزوات فظهرت عابرة مؤلفات هنا وهناك تؤرخ بلا وثائق على طريقة الأساطير. وكيف نفعل ذلك، بينما كتب بعض الروائيين من أمثال مولود معمري ومالك حداد وغيرهما بلغة فرنسا، وعبّروا عن رفضهم واستهجانهم لمجازر فرنسا، نجد أن البعض أصبح يكتب باللغة العربية يتغزل بفرنسا. فحتى الفن الذي قال عنه أندري مالرو بأنه الوحيد الذي يبقى في مواجهة الموت لم نتمكّن من توظيفه للارتقاء بمحارقنا إلى درجة مجازر حدثت ضد الإنسانية. لم يحمل أغلب المثقفين الجزائريين همّ التعريف بمحارقنا في دول العالم. وقد يقول قائل بأن اليهود فرضوا سيطرتهم على العالم وهذا بالفعل صحيح، لأن اليهود عندما انتشروا في العالم كان هدفهم الأساسي تهويد العالم بأسره. لقد أصبح أي سياسي أو رئيس بلد ما يزور إسرائيل عليه أن يرتدي اللباس اليهودي ويبكي أمام النصب التذكاري للمحرقة وينطق بعظمة لسانه أمام العالم ويعترف بأن اليهود عانوا من المحرقة على يد النازية. هكذا يفرض اليهود على قادة العالم الاعتراف بمحرقتهم ومن لا يفعل ذلك فهو ممن لا يرحب بهم في إسرائيل، بينما نحن استقبلنا كوشنير الذي تطاول على شهدائنا ومجاهدينا وأتى يمشي على أرض الشهداء بطريقة تؤكد تحقيره لنا، لأننا لم نفرض احترامنا، ولم نتجرأ لنقول له : إن الجزائر أرض مقدّسة معطّرة بدماء الشهداء والشهداء كرمهم الله تعالى بالحياة الأبدية ونحن لا نستقبل من يهين من كرمهم الله عز وجل. إن المسألة تتعلق بالإحساس بالمسؤولية بالدرجة الأولى، وكذا بالرغبة في التعريف بمحارقنا في سائر العالم. فلو أردنا ذلك لنجحنا، لكن للأسف لم يقل الكثير من نخبنا في الخارج ما قاله ادوارد سعيد حين هاجر إلى أمريكا:"لقد أتينا إلى هنا وحملنا معنا حلم الدفاع عن قضيتنا والتعريف بمأساتنا...". سافر البعض منا إلى فرنسا وهو يحلم بفرنسة الجزائر مجددا. ويسعى البعض الآخر لتبسيط الأمر والاستخفاف بمحارقنا وتقزيمها، فبينما يحصل اليهود على تعويضات على ضحاياهم بحجة تعويض الإنسانية نسعى نحن للحصول على تعويض كأن ضحايانا عبارة عن تماثيل من الفخار تم تحطيمها وحرقها. لقد فشلنا في إيصال معاناة أجدادنا والمحارق التي حدثت ضدهم إلى مستوى المحرقة اليهودية. لم نتمكّن من ذلك للأسف الشديد. ولكن كيف سنفعل، فبينما يهمس اليهود في آذان أطفالهم بان ألمانيا إبادتهم نهمس نحن في آذان أطفلنا ونحرضهم على حب فرنسا ونصورها كملاك مجنح فتقول الأم لطفلها: أدرس يا ولدي جيدا كي تسافر إلى فرنسا! وتقول الفتاة للشاب القادم من وراء البحر: سأقبل بك إذا كنت تعيش في فرنسا! وأصبح البعض يقول : فرنسا جلّت جلالتها! إنها بالدرجة الأولى مسألة الوعي بالتاريخ كما يقول الفيلسوف هيجل. ونحن أصبحنا نفتقر للوعي بالتاريخ، ولهذا فقدنا الوعي حتى بأنفسنا فأصبحنا نعيش حالة الاغتراب والاستلاب، ويسعى البعض لنكون عبيدا لدى فرنسا بينما أجدادنا حرّروا أنفسهم منها وحررونا كذلك. لقد خذلنا أجدادنا وخذلنا أنفسنا كذلك. لقد آن الوقت لنعتذر لهم قائلين: سامحونا أيها الأجداد، لقد خذلناكم، فأصبح البعض يراكم مجرد جرذان أبيدت في مغاراتها. سامحونا لأننا لم نكن نعم الأحفاد. سامحونا ولكم التأسي في قول الله عز وجل :"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين". سامحونا أيها الأجداد، وناموا قريري العين في قبوركم، واكتفوا بدرجة علياء رفعكم الله إليها، ومن كرمه الله لا يمكن إذلاله حتى لو اجتمع العالم بأسره لإذلاله. جيجيكة إبراهيمي