أمام إفلاس السياسات السياحية الجزائرية في الشمال، حيث خسرت شواطئنا الممتدة على مسافة أكثر من ألف كيلو متر بالضربة القاضية ضد الجيران، فسقطت وهران وعنابة وبجاية أمام ما تقدمه شواطئ طبرقة والحمامات وأغادير.أمام هذا الإفلاس لم يجد الأوربيون واليابانيون والأمريكيون سوى الصحراء العذراء وخاصة منطقتي تمنراست وإليزي لممارسة عشق السياحة البرية المتوحشة. حيث الطبيعة والحيوان وحتى الإنسان مازالوا جميعا في حالتهم العذراء. وبرغم بعض اللمحات "الإرهابية" التي ظهرت في الجنوب الجزائري، إلا أن السياح مازالوا يتوافدون وتتضاعف أعدادهم بمتتالية هندسية، وبقليل من الجهد ستصبح المنطقة منافسا لمنطقة الجيزة في مصر ومعالم أثينا ومساجد اسطنبول حتى وإن كانت السياحة إلى الجنوب قد أخذت في المدة الأخيرة أشكالا اجتماعية بحثا عن نوع من البشر النادر وهو الرجل الأزرق، أو دينية في محاولة لزرع بذور المسيحية تكملة لما قام به الأب "فوكو"... وقد أشار وزير الشؤون الدينية وأيضا زعيم الأرسيدي سعيد سعدي إلى أن عمليات التمسيح تنتشر بقوة في الجنوب الجزائري بعيدا عن الأنظار ويجري الحديث عن تمسيح قبائل كبرى في غياب دور معاكس أو رد فعل لتوقيف هذه الحملات. ويعود عشق الأوربيين لمنطقة الإليزي إلى بدايات الاستعمار الفرنسي، وتبقى أشهر المغامرات وصول فيالق من اللفيف الأجنبي من نخبة الجيش الفرنسي إلى منطقة الإليزي في منتصف القرن الماضي، حيث تم اكتشاف حضارة إنسانية جديدة وساحرة. ومن أشهر الحكايا الواقعية زواج جندي بلجيكي كان ضمن اللفيف الأجنبي من امرأة ترقية عند وصوله إلى إليزي وقبل الحرب التحريرية ومازال أبناؤه "2 ذكور وبنت" يعيشون لحد الآن في إليزي وأحدهما يدعى "جون بيار" يشتغل سائقا ومرشدا سياحيا ما بين ورقلة وإليزي. ويروى في المنطقة عن قوة السحر "الترقي" الذي جعل هذا البلجيكي يعلن الطلاق بالثلاث من بلده ويرفض العودة إلى درجة أنه عندما توفي والده رفض التنقل إلى بروكسل إلى أن بعثوا له الأموال التي ورثها عن أبيه، وعند وفاته عام 1976 تم دفنه في الموطن الذي عشقه "إليزي" وبقي أبناءه الثلاث "جنسية جزائرية" وارثين عشق منطقة التوارق ويرفضون العودة إلى بلجيكا. وحتى الأفارقة من السنغاليين والنيجيريين ينبهرون بالمنطقة، ومعروف لدى عامة الناس أن آخر تمساح تم القضاء عليه في صحرائنا كان على يد جندي سنيغالي في منطقة وادي اهرير عام 1936 "كان هو أيضا ضمن اللفيف الأجنبي" مصطحبا معه معزته التي التهمها التمساح فقضى عليه فانقرض التمساح نهائيا من الصحراء الجزائرية، ومع ذلك تزوج هذا السنيغالي المسلم من امرأة ترقية... يذكر أن التمساح يسمى في منطقة "التوارق" بالغوهاف ويمكن مشاهدة صوره في رسومات الطاسيلي، كما تزوج الكثير من التوارق من حسناوات أوربيات وهو ما يشرح وجود أصحاب البشرة البيضاء والعيون الزرق بكثرة وسط قبائل التوارق، لكن في المدة الأخيرة تغيّرت الأوضاع وأخذت أشكالا علنية مباشرة وتحولت أغاني الحب لخوليو وجاك بريل تحويرات يغنيها بعض السياح بإضافة علامة عشقهم للرجل الأزرق حتى أن بعض الوفود السياحية تكاد تكون نسائية بالكامل، وكما تبحث الهولنديات والألمانيات عن مواقع سياحية لأخذ صور تذكارية أمامها، تبحثن أيضا عن رجل ترقي لأخذ صورة إلى جانبه، خاصة أنها لن تجد مثيلا لذلك في كل دول العالم... وهكذا انقلبت السياحة عندنا حيث يحج إلى الشمال وفود الأقدام السوداء التي لا يقل أعمار أفرادها من الفرنسيين "فقط" عن السبعين سنة وهم من مواليد الجزائر قبل 1962 بينما تحج الوفود السياحية الشابة إلى أقصى الجنوب الجزائري وكلهم من دول أوربية متقدمة جدا مثل سويسرا وألمانيا والدول الأسكندنافية، إضافة إلى اليابانيين والأستراليين والأمريكيين، وتبقى ميزة المسافر إلى الجنوب الجزائري أن عودته مضمونة خاصة مع ظهور وكالات سياحة أجنبية لا وجهة لها سوى منطقة التوارق، حيث تعرف العديد من وكالات السفر والسياحة الأوربية خاصة ببلجيكا وفرنسا، خلال هذه الفترة حركة نشيطة للسياح الراغبين في زيارة الجنوب الجزائري، إذ سجلت أرقام الحجز لديها ارتفاعا محسوسا، في نسبة السياح باتجاه تمنراست وجانت بولاية إليزي، مع تزامن عطل نصف السنة الأوربية مع موسم الربيع بالجنوب الذي يستمر من شهر ماري إلى شهر ماي. كما كان لقرار بابا الفاتيكان "بونوا 16" تشريف الأب "فوكو" الناسك المتعبد الذي تخلى عن الخدمة في الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى، ليستقر ويبني ديرا بأعالي جبال الأسكرام بالهقار، أين كرس حياته لخدمة التوارق بمنطقة تمنراست لغاية وفاته، أثر كبير في ظهور نوع جديد من السياح هم "الحجيج المسيحيون" الذين يقصدون بيت ودير الأب "فوكو" للترحم والتعبد، يرافقهم الكثير من السياح من الكهول المتقاعدين الباحثين عن اكتشاف فضاءات جديدة والتمتع بسحر الصحراء. ورغم أن هذه الشرائح من السياح تمثل أغلبية المواطنين الأوروبيين الذين يقصدون وكالات السفر والسياحة للحجز باتجاه الجنوب الجزائري، يتردد في أوساط مهنة السفر، خلال الأشهر الأخيرة ظهور فئة جديدة من السياح، من الأوروبيات متوسطات السن، بين 30 و40 سنة، أغلبهن موظفات في قطاعات اقتصادية وخدماتية لهن مركزهن الاجتماعي لا بأس به، تقصدن وكالات السفر بفرنسا وبلجيكا وهولندا وألمانيا، للحجز باتجاه تمنراست وجانت، في رحلات تطول في بعض الأحيان لأكثر من شهر. وبين الذاهبات إلى تمنراست وجانت والعائدات من هذه الرحلات، تدور أحاديث وقصص، تتداولها موظفات الوكالات السياحية، حول زبونات جربن السفر إلى "تام" مثلما يحلو للجميع تسميتها، وعدن مجددا للحجز مرات ومرات، وبين الرحلة والأخرى، همسات، حول لقاءات حميمية جمعت بعضهن مع "الرجال الزرق" وهي التسمية التي تطلق على التوارق بمنطقة "تام". السائحات العاشقات وأغلبهن من بلجيكا وهولندا، روين لصديقات لهن، تفاصيل الرحلة السياحية إلى "تام" والتي تحولت مع مرّ الأيام، بعد لقائهن رجال التوارق، إلى مغامرة عاطفية، كلها شغف وتعلق "برجال التوارق" الذين ذاع صيتهم رغما عنهم، ورسمت لهم صور مثيرة في مخيلات السائحات العاشقات حول "فحولتهم ورجولتهم" إلى جانب صفات أخرى مثل الحنان، الجموح والنزعة إلى الحرية والوفاء للخليلة... وكلها صفات افتقدتها الأوروبيات في رجال مجتمعاتهن العصرية المتسمة بالجفاف في العلاقات الإنسانية والنزعة الفردية الأنانية التي فرضها نمط المعيشة ووتيرة الحياة الاستهلاكية الأوربية، وهو ما يفسر الرغبة الجامحة لكثير من السائحات في البحث عن الحب والدفء بين أحضان الرجل الترقي، منهن من يقمن "علاقات عاطفية عابرة" والبعض الآخر يسقطن في بحر مغامرة رومانسية جامحة مع رجال من تمنراست وجانت انتهى البعض منها باستقرار عدد منهن وتزوجن فعلا من ترقي. وحتى وإن كان نمط المعيشة في الصحراء، والمستوى التعليمي للتارقي، عوامل تصعب على الكثيرات من السائحات العاشقات اختيار العيش والاستقرار بالجنوب والتخلي تماما عن مستقبلهن المهني بأوروبا وما يرافقه من مزايا وكماليات، فتكتفين "بمغامرة عابرة"، تتذوقن خلالها "طعم الحياة والحب على الطريقة التارقية"، إلا أن بعض السائحات، ممن يوصفن بقويات الشخصية والمثابرات، استطعن كسر كل الحواجز الجغرافية والاجتماعية لتقمن علاقات شبه دائمة مع "رجل ترقي" تتخللها سفريات إلى بلدهن في أوروبا، وهو ما حدث لإحدى السائحات الفرنسيات التي يتردد بشأنها في إحدى وكالات السفر المتواجدة بباريس، بأنها تزوجت فعلا من رجل ترقي بتمنراست إلا أنه رفض مرافقتها إلى باريس، ولشدة تعلقها "برجلها الأزرق" قررت الإبقاء على العلاقة الزوجية بينها وبينه وتكيّفت مع الموقف بشكل أصبحت لا تطيق فراقه، إلا لأسابيع تتنقل خلالها إلى باريس لقضاء شؤون تجارية وإدارية، وتعود مجددا إلى تمنراست لترتمي في أحضان رجلها الترقي. وحتى وإن أجمع كل المتتبعين لمثل هذه "الزيجات السياحية" على أنها لا تدوم طويلا، إلا أن شغف الأوروبية الجامح لمعاشرة "الرجال الزرق"، لايزال يوقع كل سنة عددا من السائحات الأوروبيات الباحثات عن الرومانسية والحب بين كثبان رمال الصحراء وفي أحضان الرجل الترقي الذي يبدو أن سحر فحولته ورجولته قد أصبح "ماركة سياحية تجارية" تجذب كل سنة المزيد من السائحات العاشقات إلى وكالات السفر الأوروبية.. فهل هي بداية عصر السياحة الجنسية الذي بدأت راحة تهب على بلادنا في ظل تهاوي السلطات عن أداء واجبها؟ نورالدين بوكراع/ ناصر