غابت تركيا عن مؤتمر "وارسو"، وإن كان لها حضورٌ رسمي، على مستوى موظف في سفارتها بالعاصمة البولونية، ضمن مقعده إلى جانب الشركاء في حلف شمال الأطلسي "ناتو"، وغيابها المحسوب بميزان العلاقات الدبلوماسية المختلّ مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، يعطي معنى الرفض المطلق لسياسات الرئيس دونالد ترامب الرامية إلى اعتماد إستراتيجية جديدة في الشرق الأوسط . تركيا التي مازالت تعالج تداعيات الانقلاب العسكري الفاشل في جويلية 2016، لم تنس ما تراه دورا أمريكيا داعما لقيادات عسكرية مناوئة لنظام الطيب رجب أردوغان، حركت آلياتها على غير هدى، قبل أن تقف أمام حراكٍ شعبي لم يكن منتظرا. لم تشهد العلاقات التركية– الأمريكية، توترا في تاريخها كما تشهده الآن، برغم الشراكة الإستراتيجية السياسية والعسكرية بين الطرفين في الشرق الأوسط، هذا التوتر الذي دعا أردوغان إلى إحياء مبدإ توازن العلاقات مع القوى الكبرى، والاتجاه نحو روسيا وعقد الصفقات التسليحية معها. نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس لم يُخف غضب واشنطن إزاء هذا التوجُّه الذي لا يحقُّ ممارسته من قِبل الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، وعبَّر عنه في كلمته التي ألقاها في مؤتمر وارسو، محذرا فيها من اعتماد صفقات تسليحية مع من وصفهم بالأعداء، قاصدا تركيا التي أبرمت صفقة مع روسيا لشراء منظومة الصواريخ الدفاعية المتطورة في ديسمبر 2017، ستحصل بموجبه تركيا على بطاريتي "أس-400″ على أن يتولى تشغيلهما العسكريون الأتراك، وسيتم التسليم وفق ما أعلنته الحكومة الروسية، بداية العام الحالي. تدرك تركيا أن واشنطن وضعت قانون عقوبات يمنع الدول من شراء السلاح الروسي، سُمي ب"كاتسا" أو "قانون مواجهة أعداء أمريكا عبر العقوبات" ، لكن يبدو أنها لا تأبه بهذه العقوبات، وربما لديها وسائل للإفلات منها، فهي ترى أنه مجرد قانون ينطوي على التهديد، ولم يتم تفعيله بآليات تنفيذية. ولا يُبدي أردوغان رغبة في التراجع، ويجدِّد التزامه في كل مناسبة بتنفيذ هذه الصفقة، التي تعزز لديه سياسة الاكتفاء السياسي والاقتصادي، بعيدا عن هيمنة الولاياتالمتحدةالأمريكية، لكنه يلعب على ورقة مدارات خاطر البيت الأبيض بإعلان رغبته شراء منظومة صواريخ "باتريوت" الأمريكية، وهي رغبة ستصطدم بجدار الكونغرس الأمريكي، الذي سيمنع الموافقة على إبرام هذه الصفقة. لم تكن أمريكا وحدها من يعارض صفقة أس 400، فحلف شمال الأطلسي، هو الآخر يعمل على منع أنقرة من اعتماد منظومة الصواريخ الدفاعية الروسية، باعتبارها لا تتوافق مع منظوماته الدفاعية المعتمدة. قذائف الغضب لم تكن أمريكية فقط، فحلفاء الأطلسي هم أيضا أطلقوا قذائفهم، التي لم يصل مرماها الهدف التركي المقصود، طالما تحصَّن الطيب رجب أردوغان بخندق إقليمي يضحى هو اللاعب الفاعل فيه، في الزمن الراهن.