هذه الحياة الدنيا لمن تأمّلها وتدبّر أمرها مليئة بالغرائب والعجائب، ومليئة أيضا بالأضداد والمتناقضات، ولعلّ من أظهر متناقضاتها اختلاف معادن الناس كما قال نبيّ الهدى صلّى الله عليه وآله وسلّم: (النّاس معادن كتراب الأرض)، تجد مَن معدنه ليس ذا قيمة، لا هو في العير ولا في النفير، لا هو أصلح دينه ولا هو أصلح دنياه، عبد ذليل لنفسه وهواه، لا يرفض لنفسه الذليلة طلبا، لا همّ له في هذه الحياة إلا مطعم ومشرب وملبس ومنكح، همّه ملتصق بالتّراب، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، ويرضى لنفسه بحياة ربما تكون أهون من حياة الجعل، سفاسف وترهات وأهواء وشهوات يتبع بعضها بعضا. وتجد في المقابل مَن معدنه من ذهب، أصلح دينه ودنياه، طائع لله، محسن إلى عباد الله، كالغيث أينما وقع نفع، ألجم نفسه وخالف هواها، فلا تراه إلا شامخا أبيا متعففا متعاليا على السفاسف والترهات، همّته ترفرف في الأعالي تطلب المعالي، لا يرضى لنفسه بالدنية، لا يبيع دينه بعرض من الدنيا قلّ أو كثر، ولا يدنس كرامته وعزته لأجل حطام زائل فان. إنّها الهمم والهموم التي يحملها كلّ إنسان في هذه الحياة، هي من تصبغ حياته وتحدد وجهته ووزنه ومعدنه، تماما كما هي الحال مع كل المخلوقات؛ تجد العنكبوت ينسج لنفسه بيتاً ولا يقبل مِنَّة من مخلوق آخر، أمّا الحية فإنها تطلب ما حفَر غيرها، إذ طبعها الظلم.الغراب يتبع الجيف، والصقر لا يقع إلا على الحي، الأسد لا يأكل إلا من فريسته، والفيل يتملق حتى يأكل. وهكذا هي الحال بين البشر، يقول الله جلّ وعلا: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)، ويقول الشاعر: على قدر أهل العزم تأتي العزائم * وتأتي على قدر الكرام المكارمُ وتعظُمُ في عين الصغير صغارُها * وتصغُرُ في عينِ العظيمِ العظائمُ. فرق كبير بين من يتربى وينشأ ويترعرع في هذه الحياة من دون هدف ولا وجهة ولا همّ يحمله سوى همّ بطنه وفرجه، وبين من يتربى وينشأ ويترعرع وهو يحمل هما متقدا وهدفا نبيلا يسعى للوصول إليه. وربما يتنازل عن كثير من حظوظ النفس لأجل أن يبلغ غايته، بل ربما يستعذب الابتلاءات التي تصقل معدنه، ويألف العوائق والحواجز التي تجعله يرتقي عاليا على ظهرها. قيمة الإنسان في هذه الحياة هي بقيمة المعدن الذي صاغ منه شخصية، قيمة المرء ليست في ملبسه ومسكنه ونوعية سيارته ولون نظارته، إنّما في الهمّ الذي يحمله في هذه الحياة، فتعس عبد الدينار والخميصة، وتعس عبد الشهوة والشهرة، وتعس عبد المنصب والمرتب. أبعد الله امرئً غاية همّه * من الدنيا أن يلقى لبوسا ومطعما. لأجل هذا ينبغي لنا معاشر المسلمين أن نكون أصحاب أهداف نبيلة في هذه الحياة.. ورمضان فرصتنا لنعلي هممنا ونرقى بهمومنا؛ نريد أن نتحرّك لديننا، وننظر إلى العالم من حولنا بمنظار الإسلام، نريد لقلوبنا أن تتحرّك للإسلام وأن تحزن لهذا الدّين وتحزن لمصائب المسلمين.. نريد لهمومنا أن تتعالى قليلا عن حظوظ الدنيا الزائلة، فحرام أن يعيش الواحد منّا في هذه الدنيا لا هم له إلا المنصب والمرتب والعلاوات والسكن والسيارة، همه لا يتعدى المستقبل الدنيوي الفاني، لا مكان في قلبه ولا في روحه ولا في حياته لهمّ مستقبل هذا الدين ومستقبل هذه الأمة، بل ربما لا مكان في مساحة همومه لحاله مع الله، لا يحزن لفوات طاعة ولا يكترث لوقوعه في معصية، ولا يأبه لقسوة قلبه وغفلة روحه. إنّ الجوع في صيام أيام رمضان والنّصب في قيام لياليه، من أنجع الأدوية لتعرف النّفس أنّها ما خلقت لتأكل وتشرب وتنام، وإنّما خلقت لغاية نبيلة في هذه الحياة ((وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون)).