برز الدكتور محمد الأمين بحري خلال شهر رمضان بمتابعاته الجادة والدقيقة لما عرض عبر القنوات الجزائرية خلال شهر الصيام سواء كانت أعمالا درامية أو سلاسل فكاهية، ومثلما عوّدنا الدكتور بحري على أنه متابع جاد وناقد للأعمال السردية الجزائرية، يؤكد أيضا أنه ناقد فني جاد ويجزم أنه لا فرق بين الناقد الأدبي والناقد الفني طالما أن الفنون تأخذ من بعضها. ماهي المسافة بين الناقد الأدبي والناقد الفني؟ من الناحية المعرفية وثقافية لتكوين الناقد، لا أومن بوجود أي مسافة بين فروع النقد سواء النقد الأدبي أو السينمائي أوالمسرحي، ببساطة لأن هذه الفنون صارت تتبادل التقنيات فيما بينها، فيمكن أن نجد رواية تستخدم تقنية مشهد سينمائي، أو تقنية حوار مسرحي (والحوار في الرواية آت في الأصل من المسرح وليس من صلب البناء الروائي)، كما يمكن أن نجد عملاً مسرحياً يستعير تقنيات روائية أو سينمائية. وقد صار تداخل الفنون فيما بينها سمة رائجة بشكل يقتضي من الناقد الاضطلاع بكل فنون الكتابة والعرض، من أجل تقييم العمل وفق معيار كل تقنية بمعيارين (معيار الفن الذي استعيرت منه، ومعيار توظيفها في بالعمل الفني الذي استعملها، ومدى المسافة الجمالية والتجريبية التي أضافتها أو المطبات التخريبية التي ألحقتها به)، فكيف يكون ناقداً للرواية وهو لا يعرف تقنيات المسرح والسينما التي صارت توظفها الرواية؟ وكيف يكون ناقداً سينمائياً وهو يجهل التعامل مع تلك الأعمال التي وظف أصحابها تقنيات روائية، أو كتبت ضمن السينما الروائية؟ وكيف نتصوّر ناقداً للمسرح وهو يجهل مدى استفادة وتداخل هذا الفن مع الأدب والسينما وفنون العرض الأخرى؟؟ لذا وجب على الناقد من الناحية المعرفية والاحترافية، أن يضطلع بفنيات كل تلك الفنون التي صارت تتفنن في توظيف تقنيات بعضها في تبادل حر وعلى أوسع نطاق، من أجل أن يقيم واحداً منها. وذلك لكي يرسم المسافات الإبداعية والأسلوبية، والتجريبية أثناء قراءته النقدية لما يعرض أمامه سواء أكان نصاً أم عرضاً مسرحياً أم منتجاً سينمائياً أو تلفزيونياً. لهذا أنا لا أومن بالناقد المتخصص المنغلق على فنّ وحيد ولا تعجز أدواته ومعارفه خارج مدار تخصص فني واحد، بل لا يكون ناقداً إلا إن كان متكامل المعرفة في النقد الفني بمفهومه الشامل، في عصر يتميز بتداخل الفنون وتبادل التقنيات بينها. ماهو تقييمك لأعمال رمضان هذه السنة؟ كثير من التجريب وكثير من التخريب أيضاً. أعتقد بصورة عامة أن الدراما عندنا ماتزال في ذهن أصحابها ذات هدف محلي محض، ما دمنا نرى ذلك الشحن الأخلاقي لأعمالهم (la morale)، وهنا أتكلم عن أخلاق المجتمع التي تم حشوها بشكل مفرط في تلك الأعمال، لا عن أخلاق الفن (l'éthique) التي يفترض أن يحكم فيها البناء الفني البناء الأخلاقي للعمل ويسيره، لا العكس كما نراه لدينا. إن طغيان فائض الدموع والصراخ والفجائعية المفرطة هي ما سميناه الحشو الأخلاقي الذي يصنف العمل ضمن (درامة الحالة الاجتماعية) القائمة على الاستهلاك المحلي، والوعضيات الاجتماعية، التي قال فيها مؤسسو الدراما إنها ما دخلت فناً إلى أفسدته وطمست معالمه. وأخرجته عن مسارات الانفتاح وتجاوز حدود المحلية الضيقة. وكثيراً ما تسبب هذا التوجيه الأخلاقي للعمل بدل التوجيه الفني في ضياع حبكة الأحداث ونمو الشخصيات، مثلما رأيناه في مسلسلات: (مشاعر-الجريح-وأولاد الحلال) بصورة خاصة، حينما صارت جل مشاهدها عبارة عن متاهات حقيقية تدور حول نفسها ولا تسمح لعجلة الأحداث بالتقدم، بينما صارت أدوار الشخصيات تكرر نفسها وخطابها فصرنا أمام شخصيات مدورة وظيفياً ومشلولة خطابياً، وليست شخصيات نامية الأداء وحيوية الخطاب. وهاتان السقطتان هما النتاج المباشر للحشو الأخلاقي الذي عرقل المسارات الفنية للمشاهد وأدخل الأحداث والشخصيات معاً في نمطية وتكرارية أحادية التوجه والخطاب والأدوار. لأن الفن تعدد ونمو وهندسة، بينما الأخلاقيات هي ثبات للفكرة، وأحادية للخطاب والتوجيه. ما يقتضي ثباتاً موازياً على مستوى الأداء والمشهدة. وهذا التوجيه هو ما يمنع الحشو الأخلاقي من تقديم أعمال تنافسية على المستوى العربي والدولي. لأنه يحجب الهندسة والرؤية الفنيتين للعمل، في حين كنا نتمنى أن يطغى الفني على الأخلاقي ويؤطره بمعاييره، إن كان هذا العمل ينسب نفسه إلى الفن. ويهدف إلى منتج تنافسي يتجاوز شعبويته ومحليته. قلت إن ثمة أزمة نصّ واضحة في الأعمال الرمضانية، هذه السنة، كيف ذلك وفي الجزائر عشرات الروايات والقصص ومئات الكُتّاب؟ هذا هو لبّ المشكلة: فمن زاوية أولى: أعتقد بأن المنتجين والمخرجين الجزائريين لا يطلعون على المنجز السردي، وهو كنز غزير للاقتباس أو حتى لاستلهام أفكار والاشتغال على إعادة أفلمتها وتخطيبها درامياً، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، يظن كثير من منتجي الدراما بأنه إن لم يكن النص موجه بالأساس للدراما أو التلفزيون لا يتم اعتماده، وهذا ما وسع الهوة بين المنجزات السيناريستية وبقية المنجزات في فنون السرد، ما جعل الأولى تعاني افتقاراً وأحيانا احتقاراً من طرف المنتجين، الذين يعيدون كتابتها أو يستوردون سيناريوهات أجنبية للاشتغال عليها (رغم أن هذا ليس عيباً بل أمر معمول به في كل الدول تحت عنوان الشراكة أو الاستيراد) لكن فقط المشكلة في قيمة هذه النصوص المستوردة، التي لا ضرر فيها سوى أنها تهمّش السيناريو المحلي وتكرس ثقافة تجاوزه. والوجه الثالث لهذه الأزمة، هو الارتجال الذي يكن في اعتماد السيناريوهات المحلية مهما كانت قيمتها، حيث يشعر المشاهد بأن الغرض منها المشاركة من أجل المشاركة، أو محاولة للقول بأن هذا هو النص المتوفر في السوق، وعلينا تمريره كما اتفق، إلى درجة أن بعض أعمال دراما رمضان الحالية اعتمدت نصوصاً لكتاب سيناريو حديثي التجربة، ويمارس الكتابة لأول مرة في حياتهم. وكان لهذا الارتجال أثره المباشر على الفرجة والمستوى، مما يجعل مساءلة قيمة المنجز النصي ومستواه ودواعي أزمته أكثر من ضرورية. في ضوء هذه الإشكالات الثلاثة. مضافاً إليها إشكال رابع بات يفرض نفسه وهو التكوين (المحترف والهاوي) لدى كتاب النصوص والسيناريو. هل تعاني الجزائر من أزمة مخرجين أو أزمة ممثلين؟ هناك تبادل للتهم، وتحميل المسؤولية بين المخرج والممثل؟ لا هذا ولا ذاك.. بل إن المشكل الجوهري يكمن في إدارة العلاقات بين عناصر العمل التي يفترض أن تكون احترافية، ولا أحبذ الزج بالأشخاص حين يكون المشكل فنياً، لأن هناك عدة مغالطات قد تلقي بمسؤولية الإخفاق أو الخلل على طرف ليس المسؤول عنها على الإطلاق. فحين يكون الارتجال على مستوى الإنتاج، بجلب نصّ غير قابل للترجمة المشهدية لخلل في كتابته أو في إمكانيات الإخراج، سينعكس ذلك مباشرة على الممثل الذي سيجد نفسه بين مطرقة الشاهد وسندان المنتج الذي يلقي له بالنص وعليه أن يتدبر أمره، ليجد نفسه في الواجهة أمام المشاهد الشعبي أو البسيط الذي ينسب كل اختلال إلى الممثل الذي أمامه. باعتباره العنصر الذي يقف في الواجهة، بينما يلقي الممثل اللوم على المنتج الذي لم يدرس حالته ولم يؤطره أو يساعده في تبني الدور؟ ومن حق كل طرف من هذه الأطراف أن يقذف كرة الاتهام نحو الآخر وله مبرراته المقنعة في ذلك. بينما قد يكون الإشكال في اختيار النص أو طريقة الاشتغال عليه وتكييفه مع الرؤية الإخراجية من جهة، وفي اختيار الممثلين المناسبين لطبيعة الأدوار ونوعيتها. وهذا الإشكال التقني هو في اعتقادي الذي تسبب في ماشاهدناه من انفصام جلي بين طبيعة الممثل وطبيعة الدور الذي كلف به، مما يحرم المثل من تفجير قدراته ويعطل تفننه في أداء دوره، وهو غير مسؤول عن هذا الخلل الذي قد يجعلنا نرى برودة وبهوتاً عجيبين في ممثلين نعرف قدراتهم وقيمتهم في أعمال سابقة أحسن مسؤولوها دراسة توظيفهم فيها. وما لم نغص في هذه التفاصيل التقنية لتحديد جوهر الخلل الذي يستسع ويتحوّل إلى مغالطات كالتي تروج اليوم، من انفصام أدائي وتصنع في التقمص، وعدم ملاءمة الدور والنص والحركة المصاحبة، وعدم استقرار المستوى بين حلقة وأخرى، ووصول كل هذا إلى المشاهد الذي لا يملك إلا أن يعلقها على الممثل وهو بريء منها، ولا ذنب له إلا كونه الطرف الأخير في السلسلة، والذي مهما كان مستواه الفردي رفيعاً. فإن خللا في الخلفية، أو في الاستراتيجية الاختيارية للنص أو الممثل في الكواليس، قد يتجسد فادحاً أمام الملأ. ويؤثر على قيمة العمل والجهد بأسره. ويدخله في مغالطة يتحمل فيها الطرف البريء سوء تدبير أو عدم احترافية الطرف المسؤول على إدارة علاقات عناصر العمل. لذلك أجد بأن مسؤولية المنتج هي الأكبر من بين عناصر (النص والإخراج والتمثيل). كيف يمكن أن تستفيد دراما رمضان من المسرح، حيث ظهر هذه السنة تميز أبناء الخشبة في أداء أدوارهم؟ لقد استفادت الدراما الرمضانية فعلاً من قدرات ممثلي المسرح الذين شكلوا في تقديري ما نسبته 60%، من الممثلين، غير أن هناك بعض الأعمال التي صعب على أصحابها ذوي الخلفيات الركحية أن يتأقلموا مع واقع السيتكوم أو السلسلة الدرامية، حيث لاحظ المشاهد أن وحدة المكان مثلا وهي مقوم ثابت وقهري، لا مفر منه في المسرح، ينتقل إلى سلسلة دقيوس ومقيوس. على الرغم من أن فضاء التمثيل هناك متحرر ويسمح بإمكانية التمثيل فيه أثناء الحركة والتنقل عبر الأمكنة، وقد شاهدنا في حلقة (الحافلة) مثلاً بأن الحافلة تنتقل ظاهرياً من محطة إلى أخرى ويصعد المسافرون إليها في كل محطة، بينما لم تغادر في الحقيقة مكانها عند الشجرة التي يراها المشاهد من نافذة الحافلة، وهو ما شوش ذهني كمشاهد ودفعني للتساؤل هل سبب العجز: هل هو في إمكانيات التصوير المتنقل لحافلة تسير؟ أو في قدرات الإخراج التي عمدت إلى تثبيت وحدة المكان على الرغم من اتساعه ورحابته؟ وكأن المخرج لا يزال يتخيل نفسه على خشبة العلبة الإيطالية للمسرح. ونفس الكلام يقال في حلقة (الحرقة) من السلسلة نفسها، حيث نرى البطلان يجدفان في قارب متوقف، وفي عرض البحر يخرج لهما غواص من تحت المياه الراكدة أصلاً نظراً لعدم تحرك القارب من مكانه؟؟ مما يلغي دور الغواص ومفهوم الحرقة ودلالة الرحلة بأسرها، وذلك بسبب خلل في توظيف المكان الذي بقي ضمن حدوده المسرحية الجامدة، رغم اتساعه وتحرره وتوفر إمكانيات الحركة في فضاء العمل التلفزيوني. مع انتفاء فرضية أن يكون ذلك فعلاً كوميدياً متعمداً لأنه لو تجسد الخطاب الحواري والأدائي أثناء حركة الحافلة والقارب، لشاهد المتفرج فرقاً شاسعاً بين الحيوية التي كان يمكن تحقيقها والبرودة التي أنجز بها المشهد الذي تم عبر وسائل نقل متحركة تم تجميدها بتلك الطريقة التي نراها في المسرح، فتزيد من تعميق دلالته وجماليته، بخلاف رؤيتها مجمّدة في الفضاءات التلفزيونية التي تكرس حقيقة الشلل التنفيذي للمشهد. لأن نقل بعض التقنيات من فن للآخر قد يكون مدمراً إن لم يكن في محله. وبغض النظر عن هذه الهفوات التقنية التي شابت بعض الأعمال الرمضانية إلا أن اجتياح الممثل المسرحي للدراما التلفزيونية، يبرهن على ضرورة استثمار التبادل بين فنون العرض من جهة، وعلى قوة المسرحي الجزائري المتعدد الاختصاصات من جهة ثانية، ويعزز فرضية أن كل فنان مسرحي هو فنان درامي بالضرورة. وأتمنى أن يكون العكس صحيحاً.