مقولة بن شنب الخالدة “أقدام اليتيم تجلب الطين حتى خلال موجة الحر”. هو وجهٌ من أوجه تاريخ الجزائر المعاصر وعالم من علماء الجزائر التاريخية، ترك بصمته بقوة في الأدب والفكر والقيم الإنسانية والثقافية والحضارية.. يجيد أكثر من لغة بالإضافة إلى لغته الأم العربية، وهي اللغات الأوربية كالفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية واللاتينية واللغات الشرقية كالفارسية والتركية وحتى العبرية. إنه بحق موسوعة للمعرفة. وهو أول طالب تقدّم لنيل شهادة البكالوريا ثم أول دكتور جزائري في الوطن العربي وعضو مجمع اللغة العربية بدمشق. هذا المفكر العظيم كان من الأشخاص النادرين الذين قدّموا للجزائر والعالم العربي والإسلامي أفكارا وقيما إنسانية بصدق وأمانة داعيا للحفاظ على تراث هذه الأمة من الزندقة والبدع والذي حاول المستدمر الفرنسي بكل الوسائل نشرها بين أبناء الأمة الجزائرية. وقد كان يتناول المواضيع الخاصة بالشريعة الإسلامية. لكنه عندما أصبح يدرّس في الابتدائي ثم بقي لفترة طويلة مرتبطا مع الأطفال بدت له أفكار جديدة في تقديم مفاهيم في التربية الإسلامية، ما جعله يترجم سنة 1897 “رسالة حول تعليم الأطفال” للفيلسوف الغزالي. وفي ذات يوم الثلاثاء 20 رجب 1286ه، الموافق ل 26 أكتوبر 1869 من القرن التاسع عشر، ازدانت مدينة المدية، أو لنقل حي تاكبو، بولد سيكون له شأن عظيم في المستقبل أطلقت عائلته عليه اسم محمد تيمُّنا بالرسول عليه السلام. واسمه الكامل هو محمد بن العربي أبي شنب ويُنسب إلى عائلة تجمع بين الأصلين التركي والجزائري. طلبه للعلم ونشاطه الوظيفي عنيت أسرته ذات الدخل المتوسط بتربية ابنها وتعليمه فبدأت أولا بإرساله إلى الكتاب فحفظ شيئا من القرآن الكريم عن شيخه أحمد بارماق، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية الفرنسية وتعلم اللغة الفرنسية بها. للإشارة كان الاحتلال الفرنسي يفصل التلاميذ الجزائريين عن أقرانهم الأوروبيين، إذ يتابعون دروسهم في مدارس خاصة بهم تُسمَّى بالمدارس الأهلية أو مدارس “الإنديجان” وهي عبارة كان يستعملها الاحتلال للتمييز المدرسي. وفي المدية حيث التحق ب”الكوليج” أي المدرسة الثانوية التي تسمى حاليا ثانوية بن شنب أنهى فيها تعليمه الثانوي، ثم انتقل عام 1886 إلى المدرسة العادية للمعلمين ببوزريعة، وبعد سنتين تخرّج فيها وعمره لا يتجاوزه 19 سنة فقط. كانت هوايته المفضلة هي حب المطالعة لِما لها من فوائد جمة ومتعة في وقت فراغه وزيادة في كسب المعلومات والأفكار، فكان بعد الظهر يأخذ حقيبته المدرسية ويجلس تحت شجرة عناب حيث ينغمس في لحظات طويلة من القراءة. بقي أستاذُنا الكبير طوال هذه الفترة يبدع في الفكر والثقافة، فهو طالب ومعلم في آن واحد يكدّ ويجتهد حتى نال شهادة الدكتوراه بدرجة (ممتاز) بكلية الآداب بالجزائر عام 1920، بعد أن قدَّم رسالتين بالفرنسية، الأولى عن حياة الشاعر العباسي أبي دلامة شاعر الخلفاء العباسيين الأوائل. والأخرى بحث بعنوان “الألقاب الفارسية والتركية الباقية في اللغة العامية”. وقد منحته الحكومة الفرنسية في نفس العام وسام جوقة الشرف (chevalier). انتخبه المجمع العلمي الاستعماري بباريس عضوا عاملاً به acadèmie science colonial paris ومن شدة حرصه وحبه للغة العربية فقد كان متبحرا فيها، يبحث عن خبايا علومها وآدابها والتدقيق في أصولها التاريخية، وقد منَّ الله تعالى عليه بموهبة الحفظ السريع فكان يحفظ أشعارها حتى وُصف بأنه “معجم يمشي على الأرض”. وكانت له طريقة خاصة في التدريس استطاع من خلالها أن يبعث في طلابه المحبة والإعجاب باللغة العربية وجمالها وكنوزها. وقد استطاع أن ينهل من الثقافتين وأن يجمع بينهما. أنشطته العلمية كانت مشاركته الأولى عام 1905 في المؤتمر الدولي الرابع عشر للمستشرقين بالجزائر العاصمة جعلته يعرف نفسه كخبير في التربية والعلوم، يكشف عن قدراته العلمية وينسج الروابط الثقافية والأدبية مع الأدباء والمثقفين في العالم الخارجي. وكان من أشهر مراسليه العلامة أحمد تيمور باشا من مصر وأعضاء المجتمع العلمي العرب بدمشق ومنهم الرئيس محمد كرد علي ومن تونس حسن حسني عبد الوهاب وعلماء مستشرقون منهم: الإسباني Miguel Palacios. والمستشرق الروسي Krachkovsky الذي ترجم معاني القرآن إلى الروسية وآخرون من علماء أوروبا وغيرهم. ثقافته الواسعة وعلاقته الجيدة مع هذا العدد الهائل من العلماء العرب جعلته ينال احترامهم وتقديرهم، وفي سنة 1920 انتخِب في المجمع العلمي العربي بدمشق عضواً به. ومن الطرائف العجيبة التي عاشها عالمنا الجليل، أنه من شدة محافظته على تقاليده الجزائرية، كان يلبس اللباس التقليدي الجزائري أينما حلّ. من ذلك أنه عندما دُعي إلى جامعة السربون المشهورة في باريس للإشراف على مسابقة في امتحان درجة الأستاذية وكان يرتدي هذا الزي فكان البعض يستغربون ويسخرون عندما يرونه في هذه الحالة ويتساءلون: أهذا هو العالم الجزائري الذي يرأس لجنة تحكيم علمية؟! وكان عالمنا الجليل يفتخر بهذا الزي الذي يدل على مقاومته للاحتلال بطريقته الخاصة ذات المدى البعيد كما يصفه ابنه الأصغر جعفر ابن بن شنب، وكان رحمه الله يرد عل كل استفزاز من الأوربيين. وكان يمثل جامعة الجزائر في عدة مؤتمرات علمية عبر العالم في الدول العربية والأوربية. آخر مشاركاته العلمية كانت في أكسفورد في المؤتمر السابع عشر العالمي للمستشرقين سنة 1928 وقدّم بحثا رائعاً وممتعاً في الأدب الأندلسي. وفي هذه المدينة العلمية التقى عالمُنا عدداً لا بأس من العلماء العرب أمثال محمد كرد علي مندوب الدولة السورية ورئيس المجمع العلمي العربي بدمشق والدكتور طه حسين مندوب الدولة المصرية وأساتذة من جامعة السوربون الرائدة كالأستاذ M.Massè والمستشرق Margoline. ومن خلال هذه اللقاءات المختلفة حاول أستاذنا أن ينسج صلة وصل بين علماء الشرق والغرب والربط بين البحث الأكاديمي الفرنسي والبحث الأكاديمي العربي. ولهذا كان ابن شنب يعلم جيدا أن الاستشراق يؤدي عاجلا أو آجلا إلى الاستعمار ويجب مقاومته بكلّ الأشكال. وفي الختام أود أن أشير إلى أن من بين الشخصيات التي درست بشكل جيد مسار حياته وأعماله هو أستاذنا وشيخنا الجليل عبد الرحمان جيلالي في كتاب “ذكرى الدكتور محمد ابن أبي شنب 1933”. والآن ما كتبنا عن هذا العالم الجليل في ذكرى مرور 150 سنة على ميلاده يعدُّ غيضا من فيض، ولم نعطِه كل ما يستحقه من تقدير واحترم كبيرين. يجب علينا أن نعترف أن الجامعات الجزائرية وخاصة جامعة المدية قد قصَّروا في حقه ولم يعطوه المكانة اللائقة به والاعتراف بمزاياه العلمية والعالمية وإسهامه الكبير في الثقافة العربية وحتى الفرنسية فكريا وثقافيا. وهل هذه القامة والموسوعة العلمية تستحق فقط زقاقا من أزقة القصبة أو ثانوية في المدية تحمل اسمه؟ ولو كانت جائزة نوبل للآداب موجودة في ذلك الوقت لأخذها عن جدارة. وبعد سنوات من العطاء فكريا وثقافيا ودفاعا عن الأمة ومبادئها تعرَّض إلى مرض خطير فتوفي في 5 فبراير 1929.