منذ الإعلان عن استقلال إقليم كوسوفو عن الجمهورية الصربية يوم 17 2 2008 والتساؤلات تطرح حول سر هذا الانحياز الأمريكي والأوروبي لصالح هذا الإقليم المسلم على حساب الصرب المسيحيين. وتزداد التساؤلات إلحاحا في الوقت الذي يلاحظ أن هذه القوى نفسها تقف حجرة عثرة أمام الشعوب التي تطالب بحقها في الحرية والاستقلال مثلما هو الواقع مع شعب فلسطين. والمؤكد أن أمريكا وحلفائها الأوروبيين دعموا استقلال كوسوفو من جانب واحد من باب الحفاظ على مصالحهم الإستراتيجية في تلك المنطقة الحيوية من العالم، حيث أن توسع حلف شمال الأطلسي "الناتو" باتجاه أوروبا الشرقية وروسيا التي ماتزال تحن إلى زمن مجدها الضائع لن يكون سوى بإقامة جدار من الدويلات الحليفة. ولم تقدم هذه القوى دعمها لاستقلال الإقليم من جانب واحد إلا بعد ما ضمنت أن هذا الكيان سيكون أوروبيا وأطلسيا قلبا وقالبا. وقد أظهر رئيس وزراء كوسوفو هاشم تاتشي هذا التوجه في بيان إعلان الاستقلال الذي قرأه أمام البرلمان في السابع عشر من الشهر الجاري.. وما يثير الانتباه في قضية كوسوفو هو أن القوة الأولى في العالم ومن ورائها الاتحاد الأوروبي الذي بات يعاني انقساما في مواقفه، استعملت نفوذها وقوتها مجددا من أجل تحقيق مصالحها لا غير، ضاربة عرض الحائط بأن هناك منظمة أممية يفترض أنها المخولة باتخاذ القرارات الدولية والفصل في النزاعات والخلافات الدولية.. وبغض النظر عن حق ألبان كوسوفو المسلمين في الاستقلال بعد سنوات التطهير العرقي التي عانوها على يد الزعماء الصرب، فإن هذا الاستقلال قد يؤدي في نظر العديد من المراقبين إلى فوضى تعم العالم، لأن شهية المطالب الانفصالية ستفتح أمام شعوب وأقليات في العديد من مناطق العالم، ولن تكون هناك سلطة دولية عادلة تحق الحق وتبطل الباطل. والمشكل الذي سيطرح ليس في مطالبة هذه الشعوب والأقليات بحقها في الاستقلال والانفصال إذا كان لها حق وإنما سيكون في معيار التعامل الدولي مع هذه المطالب. وبمعنى آخر فإذا كانت القوى المتحكمة في القرار الدولي لها مصلحة في استقلال طرف معين فإنها ستؤيده وتفتح له كل الأبواب لتحقيق هدفه بما في ذلك الدوس على قرارات الشرعية الدولية، أما إذا كانت مصالحها تتعارض مع ذلك فإنها ستقف ضده بالمرصاد. ولدينا مثال في ذلك النموذج الفلسطيني، حيث تعرقل الولاياتالمتحدة وحلفائها منذ سنوات حق الشعب الفلسطيني في نيل استقلاله وحريته، لأن هذا الاستقلال لا يخدم مصالحها ومصالح الحليف الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط. والكل لاحظ هذه الازدواجية عندما طالب المسؤول الفلسطيني ياسر عبد ربه منذ أيام بأن يقتدي الفلسطينيون بكوسوفو ويعلنوا استقلالهم من جانب واحد مادام أن المفاوضات الجارية مع الجانب الإسرائيلي تبدو بدون جدوى، حيث سارع الأمريكيون إلى الرد عليهم بقولهم أن الحالتين الفلسطينية والكوسوفية غير متشابهتين. وفي أمثلة أخرى: هل سيسمح للشعب الصحراوي بأن يعلن انفصاله من جانب واحد عن المغرب؟ ولماذا لا تستعمل القوة الأولى في العالم قوتها ونفوذها مثلما فعلت مع إقليم كوسوفو وتسمح بإجراء استفتاء حق تقرير مصير الصحراويين، وهو حق شرعي ومشروع باعتراف الأممالمتحدة وقراراتها؟ ما أصبحت تخشاه العديد من الدول ومنها العربية والإسلامية بعد تمرير استقلال كوسوفو هو أن تلجأ نفس القوى الدولية إلى استعمال سطوتها وجبروتها في تقسيم وتفتيت بعض الدول تحت أسماء ومسميات مختلفة، وخاصة أن التقاء المصالح الأمريكية والأوروبية وتململ الدور الصيني والروسي ينعكس بالسلب على بعض القضايا الدولية مثل قضية السودان المعرض للتقسيم.. ولا يستبعد أن يرفع أكراد العراق مجددا مطالبهم الانفصالية وتدعمهم الإدارة الأمريكية التي سبق لها وأن طرحت مشروعا لتقسيم العراق إلى كيانات طبعا من أجل تحقيق مصالحها في هذا البلد المحتل. والمفارقة أن نفس الإدارة تصنف أكراد حليفتها تركيا ضمن قائمتها للمنظمات الإرهابية في العالم، وقد قامت بالتنسيق والتعاون مع حكومة رجب طيب أردوغان من أجل توغل القوات التركية داخل الأراضي العراقية لمطاردة عناصر حزب العمال الكردستاني الذي يتخذ من شمال العراق موقعا له. ما تخشاه الدول العربية بعد الآن هو أن تجتاح المنطقة عدوى الانفصال وتطالب الكيانات الجغرافية والعرقية والدينية وبدعم من الخارج بأن تحذو هي الأخرى حذو إقليم كوسوفو. وربما هذه المخاوف هي التي جعلت الزعماء العرب يتريثون ولا يسارعون إلى الاعتراف باستقلال إقليم كوسوفو من جانب واحد رغم الضغوط التي تمارسها واشنطن على حلفائها في هذا المجال..