الآن يقفز الناس من سفينة المزايدات والتخوين إلى سفينة الحوار. لقد انتهت على ما يبدو الطروحات “العدمية”، وحضر ولو متأخرا العقل مشفوعا بتوابل المنفعة. هذا جيد.. لكن علينا أن نثبت تقنية الVAR مع القافزين من السفينة الغارقة، بغرض اللحاق بسفينة الشعب والوطن.. وأن نسأل هل تحرك القوم بناء على قناعات.. أم فقط بحثا عن الامتيازات؟ هل رضخوا أخيرا لصوت الحكمة إيمانا واحتسابا لله والوطن، أم أن أوامر سيد الإيليزيه ماكرون كان لها الوقع الأكبر؟. لنعيد الشريط قليلا إلى الوراء.. ونشاهد أن بعض الذين بادروا بقبول الحوار اليوم، كانوا بالأمس يرفضون بشدة كل دعوات الحوار، وكانوا يرددون شعارات تخوين المؤسسة العسكرية، وكانوا يقسمون جهد أيمانهم أن الانتخابات لن تتم حتى ولو أنزلوا الدبابات. من بين القافزين من السفينة التي تغرق، أطراف كانت تتفاخر بالتدخل الأجنبي وتسعى إليه، وأخرى تحرض على الناخبين وتدعو لحرق صناديق الاقتراع، ومنهم من كان يدفع دفعا إلى الاعتداء على الشرطي والصحفي والشيخ والمرأة، فقط لأنهم لم ينخرطوا في لعبة التخوين والسفاهة. الآن يبدو أن الانتخابات التي تمت مع “العصابات” كما كانوا يتوهمون، قد جعلت من “العصابات” شركاء سياسيين مقبولين، بعد أن اتضح أن موسم الهجرة نحو المكاسب والمغانم قد فتح، وعلى “الشُطار” أن لا يضيعوا فرصة التموقع داخل قطار، تبين أنه انطلق وسار إلى محطته. والحاصل، أن هؤلاء هم “الفرامجية” الحقيقيون، هم رأس فكرة الكاشيريست التي ظلوا ينددون بها، هم أولئك الذين أكلوا في كل قصعة وضعها بوتفليقة لهم في الماضي، وما تأخروا عنها يوما، وهم الذين شاركوا من قبل في كل الاستحقاقات الانتخابية المزورة، لكنهم انتبهوا أخيرا إلى الحراك الذي فاجأهم، فأرادوا اكتساب عذرية مزيفة بالركوب فوق ظهره، لكن سرعان ما سقطوا مجددا، وقد لاحت في الأفق بوادر مرحلة الامتيازات التي اعتادوها، فتركوا ما حملوه من مبادئ مزيفة، وراحوا يبحثون عن نصيبهم في الكعكة. سوف لن نسمي هؤلاء، فهم يعرفون أنفسهم جيدا، هؤلاء الذين وصل بهم الحمق في أثناء فورة الحراك الشعبي، إلى درجة مطالبة السلطة بالتفاوض معهم، باعتبارهم ممثلي الشعب الحصريين، والكل يعلم أنه ليس للتفاوض من هدف سوى اقتسام السلطة، وكذلك كانوا يحلمون. اليوم، سقط الحلم في التفاوض، كما سقط الطمع بالأمس في المرحلة الانتقالية، والحصول على المناصب بالتعيينات، لكن الطمع في الحوار، الذي يبدو أنه يسيل اللعاب، سيكون كبيرا في تعويض كل ما ضاع، وعلى هذا ينتقل البعض من النقيض إلى النقيض، دون حياء أو تأنيب من ضمير. إن سياسة “ليّ الذراع” التي مارسها البعض، شهورا طويلة، سقطت اليوم سقوطا مدويا، لقد كانوا يقولون إنهم يخشون عودة نظام بوتفليقة، ولذلك رفضوا المشاركة في الانتخابات، فما الذي يمنعنا نحن من القول بأننا أيضا نخاف في عودة الدولة العميقة، ولذلك نرفض أن نشاهدكم في الحوارات. وإلا كيف قبلتم الآن بمحاورة العصابات كما تقولون؟ هل القضية قضية وطن، أم هي قضية وزارات وسكنات ووظائف في السفارات والقنصليات والمطارات، والشركات الكبرى مثل سوناطراك وغيرها؟. إن سياسة “الكوطة” التي فطم عليها البعض، لا يمكن أن تستمر اليوم، فقد خرج الشعب أصلا ضد سياسة “المحاصصة” المناطقية، و”المحاصصة” اللغوية، و”المحاصصة” الحزبية، وأصبح من اللازم من الآن فصاعدا، أن تكون المناصب للكفاءات وحدها، بعيدا عن الولاءات، وإلا فإن أول من يخون مبادئ الحراك، هم هؤلاء الذين يدعون تمثيله اليوم. لذلك نقول، من كان يريد حوارا من أجل الجزائر، والجزائر فقط، فالجزائر لا ترد أبناءها المخلصين، لكن أن يكون الحوار من أجل المنصب والدينار، فإن قطار الوطن كما قلنا سابقا، قد انطق وهو لن يتوقف في المحطات الصغيرة.