مرت مؤخرا الذكرى الأربعين لوفاة عبد الحفيظ بوصوف الذي يعد من أبرز القيادات الفاعلة قبل وأثناء الثورة التحريرية، حيث توفي ابن ميلة يوم 31 ديسمبر 1980 في باريس إثر إصابته بنوبة قلبية مفاجئة، وقد خصص حينها رئيس الجمهورية الأسبق الشاذلي بن جديد طائرة خاصة لنقل جثمانه إلى الجزائر، ودفن في مربع الشهداء بمقبرة العالية. ورغم أن بوصوف يعد مؤسس المخابرات الجزائرية من دون منازع في عز الثورة والاستدمار، إلا أنه أرغم بعد الاستقلال على اعتزال السياسة، مفضلا التفرغ لحياته الاجتماعية وانشغالاته الخاصة. صنع عبد الحفيظ بوصوف الملقب ب"سي مبروك" الحدث قبل وأثناء الثورة التحريرية، بالنظر إلى المناصب التي تولاها منذ انخراطه في صفوف الحركة الوطنية، وهو في سن الشباب، مرورا بقيادته لأول جهاز مخابرات جزائري أنشأه في الولاية الخامسة، قبل أن يوسع نشاطه على كامل القطر الوطني وفي الخارج أيضا، تزامنا مع تعيينه وزيرا للاستعلامات والتسليح في الحكومة المؤقتة، في الوقت الذي تم تداول اسمه على نطاق واسع بخصوص اغتيال عبان رمضان، وهي اتهامات لا تزال تثير الكثير من الجدل وردود الأفعال، فيما ركز الكثير على تضحياته خلال الثورة ونضاله في عز الحركة الوطنية منذ مطلع الأربعينيات. وحسب العارفين بالرجل، فقد كان بوصوف يتميز بالذكاء والفطنة منذ الصغر، وله فضل كبير في تأسيس الأفواج الأولى للمناضلين بمدينة ميلة قبل أن يتحوّل إلى مدينة قسنطينة، حيث أسس فوجا من مناضلي حركة انتصار الحريات الديمقراطية، لكنه ظل على اتصال دائم بمناضلي مدينته. وكان يجتمع بمناضلي مدينة ميلة رفقه العقيد بن عودة والشهيد زيغود يوسف بحضور مجموعة كبيرة من الثوريين، إضافة إلى أعماله التي تميزت بالتخطيط والسرية والدقة. تدرّج في المسؤوليات ومن ميلة كانت البداية يعد عبد الحفيظ بوصوف من مواليد 1926 بمدينة ميلة، تربى في أجواء طبعها البؤس الشديد، ما اضطره إلى مغادرة المدرسة الابتدائية الفرنسية مبكراً، فبعد حصوله على الشهادة الابتدائية تولى الاشتغال في غسالة كانت ملكا لأحد المعمرين بقسنطينة عامي 1944 و1945، لينخرط بعدها في صفوف حزب الشعب بمدينة ميلة وعمره لا يتجاوز 16 سنة، وأسس بها خلايا تضم مجموعة كبيرة من مناضلي المدينة، ومنهم لخضر بن طوبال وعنان دراجي. وقد كان بوصوف يجتمع مع المناضلين بمنزله الذي كان ملجأ لمختلف الوجوه الثورية والسياسية التي ساهمت في تفجير ثورة الفاتح نوفمبر 1954. وقد تعرف على محمد بوضياف والعربي بن مهيدي وبن طوبال وغيرهم بعد انضمامه لحزب الشعب الجزائريبقسنطينة. وأصبح فيما بعد أحد إطارات المنظمة الخاصة في الشمال القسنطيني، حيث عين مسؤولا عن دائرة سكيكدة، ما جعله محل بحث من قبل الشرطة الاستعمارية بعد حل المنظمة الخاصة في 1950، فتحوّل إلى العمل السري، ليعود إلى مسقط رأسه لفترة قصيرة قبل أن تعيّنه قيادة حركة انتصار الحريات الديمقراطية في 1951 قائدا لها في وهران لمدة عام، حيث ساهم في إنشاء اللجنة الثورية للوحدة والعمل، وترأس عام 1954 الاجتماع السري الأول الذي سبق الاجتماع التاريخي لمجموعة 22 التي كان ضمنها. وبعد اندلاع الثورة الجزائرية عين نائبا للعربي بن مهيدي بالمنطقة الخامسة، مكلفّا بناحية تلمسان. وبعد مؤتمر الصومام أصبح عضوا في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، كما عين قائدا للولاية الخامسة برتبة عقيد. وفي عام 1957 عين عضوا في لجنة التنسيق والتنفيذ بعد استشهاد العربي بن مهيدي. وحسب بعض العارفين، فإن بوصوف كان يبدي شخصية بسيطة لكنها مؤثرة في محيطها، ما مكنه من قيادة الولاية الخامسة باقتدار، حيث قسمها إلى 8 نواحي وبنظام يضاهي نظام الإشارة الذي تملكه السلطات الاستعمارية، واستطاع نقل عملياته العسكرية إلى غاية آفلو مطاردا عناصر بلونيس. أسّس مخابرات الثورة وساهم في تجنيد فرنسيين وأجانب يجمع الكثير على الدور الفعال لعبد الحفيظ بوصوف في تأسيس جهاز مخابرات الثورة التحريرية عام 1957، حيث أنشأ أول مركز تكوين أعوان الإشارة في العام 1956، وأول مدرسة للإطارات عام 1957، وأطلق على أول دفعة منها اسم شهيد المقصلة أحمد زبانة. كما استطاع جمع 8 ملايير فرنك فرنسي قديم في عهد الثورة الجزائرية، مقابل تجارته في الاستعلامات الدولية، حيث باع معلومات للولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والصين واليابان، وهي معلومات كانت تخص شؤوناً دولية. وكانت لهذه البلدان مصلحة فيها، ومن إحدى عملياته البارعة أنه كشف أحد عملاء المخابرات الأمريكيةبالجزائر إبان الثورة. وبعد استنطاقه تحصل منه على معلومات مهمة تتعلق ببعض الوزراء العرب العملاء لهذه الوكالة، فأخبر حكوماتهم العربية بذلك، وتأكدت من صحة هذه المعلومات بعد تحقيقاتها حول الأشخاص المشار إليهم. ومن العمليات الناجحة لجهاز المخابرات الجزائرية في وقت الثورة الجزائرية. هو تجنيد سكرتيرة فاتنة تعمل لدى جنرال كبير في حلف الناتو للقيام بتجنيده، وقد كان الهدف هو إيصال أجهزة اتصال حديثة لجهاز الإشارة لجيش التحرير الوطني، بغية الاتصال بين الوحدات، وقد تمكنت مجموعة بوصوف من الحصول على الأجهزة، والتجسس عدة مرات على الاتصالات بين الوحدات الفرنسية، ما سمح باكتشاف الكثير من أسرار الجيش الفرنسي، وفي السياق ذاته، تمكن من تجنيد بعض الوزراء في الحكومة الفرنسية لصالح ثورة الجزائر، من بينهم ميشال دوبري الذي كان رئيس الوزراء في حكومة شارل ديغول، ووزير الاقتصاد فوركاد ووزير الفلاحة إيدغار بيزاني، وشخصيات أخرى لها صلة بالحكومة الفرنسية. إضافة إلى المليونير اليوناني أوناسيس الذي تزوج فيما بعد بأرملة الرئيس الأمريكي الراحل جون كيندي. أنشأ معملا لصناعة الأسلحة في الحدود من دون علم المغرب وتعد وزارة التسليح والاتصالات العامة التي أشرف عليها عبد الحفيظ بوصوف بصورة مستمرة في السنوات (1958 -1962)، من أكثر الدواوين الوزارية أهمية ونفوذا، وكانت الوزارة الوحيدة التي تمتلك مقرات في كل من تونس وليبيا والمغرب، وسمح تولي بوصوف إدارة هذه الوزارة بمدّ دفع مهم في جمع كم معتبر من أجهزة اتصال منذ صيف 1956، وحين أشرف على قيادة الولاية الخامسة خلفا لبن مهيدي، فقد سمح له ذلك بالتوجه نحو تكوين فريق تقني أشرف على شبكات الاتصالات في القواعد الغربية لجيش الحدود. وقد حرص بوصوف على تجنيد عدد معتبر من الطلبة الجامعيين والثانويين ابتداء من مارس 1957، وتوالت الدفعات التي أشرف على تكوينها، ليزداد تجنيد العناصر في صفوف المصالح المختلفة التي تم استحداثها فيما بعد، وفي 1959 بلغت الإطارات التي نجح بوصوف في جمعها وتأطيرها في وزارته عددا يتجاوز 300 بين إداري وتقني. حنكة.. ذكاء حاد ويقظة نادرة من صفات سي مبروك ويجمع كل من يعرف بوصوف عن قرب، أنه كان يتمتع بذكاء حاد ويقظة نادرة مكنته من إحباط محاولات مكاتب الاستخبارات الاستعمارية، فموازاة مع صعوبة اقتناء الأسلحة بين عامي 1958 و1959، بسبب تغطية الحدود مع المغرب وتونس بخطي شال وموريس المكهربين والملغمين، وهو ما جعله ينشئ معملا صغيرا لصناعة الأسلحة في ضيعة موجودة في الحدود مع المغرب، وهذا من دون علم السلطات المغربية، حيث تم إنجاز طابق سفلي داخل عمارة لهذا الغرض، ونجحت العملية بعدما تم توزيع الآلاف من البنادق في المنطقة الغربية بينما صدّرت كميات أخرى مقابل دعم جبهة التحرير الوطني ماليا، حيث كان "سي مبروك" يعتمد على مهندسين روس وتشيكيين ومتعاطفين مع الثورة التحريرية. وكان بوصوف حسب الذين عرفوه عن قرب يجمع بين الحنكة السياسية والقيادة العسكرية، إضافة إلى قوة شخصيته، ويعتبر في نظر بعض الملاحظين من بين أكبر القادة العسكريين للثورة، حيث استطاع تدعيم الحراسة على جميع القطر الوطني وفي هيئات الثورة وشهد له الأصدقاء والأعداء بذلك. خصومه يحمّلونه مسؤولية إعدام عبان وعميرة ولعموري.. في المقابل، كان عبد الحفيظ بوصوف عرضة لعديد الاتهامات الموجهة له من بعض الأطراف التي انتقدته بحجة الانفرادية في اتخاذ القرار، خاصة حين كان في لجنة التنسيق والتنفيذ، وأكد آخرون أنه كان وراء قرار إعدام بعض القيادات الثورية، وفي مقدمتهم عبان رمضان، وحسب بعض المؤلفات والدراسات التاريخية، فقد أورد مصطفى هشماوي في كتابه "جذور أول نوفمبر 1954" ما يوصف لدى بعض المتتبعين بالدور السلبي الذي لعبه بوصوف أمام باقي القيادات الأخرى، بعد أن كان لقرارات الاجتماع الثاني للمجلس الوطني للثورة الجزائرية في شهر سبتمبر 1957 بالقاهرة تأثيرها الكبير على موازين القوى داخل القيادة، من ذلك أن كريم بلقاسم أصبح يحتل المركز رقم واحد في الثورة الجزائرية بعد أن أبعد منافسه العنيد عبان رمضا، فيما تبوّأ بوصوف وبن طوبال مركزا لا يستهان به، كما أن قرار توسيع القيادة أعطى لمن كانوا يلقبون بالعسكريين مكانة مرموقة. ويرى بعض المتتبعين والمهتمين أن "الباءات الثلاثة" كانوا يتميزون بالوحدة المظهرية فقط في حين أن كل واحد كان يبحث عن السلطة، وقد أورد محمد عباس في كتابه "نصر بلا ثمن" مقولة كريم بلقاسم في هذا الصدد: "هناك وحدة مظهرية بين الثلاثة، ذلك أن كل واحد منا كان يتطلع إلى رئاسة الحكومة، بل يعتقد أنه هو الحكومة، بل يعتقد أنه يشكل قوة قائمة بذاتها وأنه هو الحكومة". كما أورد الدكتور إبراهيم لونيسي في كتابه "الصراع السياسي داخل جبهة التحرير"، أن النزوع نحو الحكم الفردي وطغيان المصلحة الشخصية على المصلحة العامة تتضح من خلال تنصيب الباءات الثلاث كمجموعة متحكمة في كل شيء رغم تنافرهم، وكل تصرفاتهم الجماعية تتمسك فيها المصالح الشخصية، وكل طرف يتكون من الآخر، فكريم بلقاسم كان يحاول الانفراد بالسلطة شاهرا في وجه الجميع، والشعور بالتعالي قد قوبل بآخر يختلف عن العقيدين بوصوف وبن طوبال. وتعد قضية التصفيات الجسدية من أهم النقاط التي كانت محل انتقاد من قبل خصومه ومعارضيه، واصفين ذلك على أنه خرق واضح للقوانين الداخلية للثورة، ومن ذلك تصفية عبان رمضان بضواحي تيطوان، كما حمّلت بعض الكتابات التاريخية بوصوف مسؤولية مقتل عميرة علاوة، وذكر فتحي الذيب في كتابه أن عميرة كان يجاهر برأيه في الحكومة، وكان قريبا في ذلك من رأي عميروش بالداخل. وفي السياق ذاته، تشير الكتابات التاريخية أن له علاقة بمؤامرة لعموري، حيث يؤكد فتحي الديب أن لعموري عاد إلى تونس رافضا قرار تخفيض رتبته وإبعاده إلى جدة، وكان يهدف إلى اجتماع يقضي على الثلاثي كريم بلقاسم وبوصوف وبن طوبال بكيفية أو بأخرى، وكانت الحكومة المؤقتة تتابع تحركات لعموري على امتداد الطريق من القاهرة إلى تونس، ما جعلها تباغت المجتمعين قبل الشروع في دراسة جدول الأعمال، وتلقي عليهم القبض بمساعدة الحكومة التونسية بتهمة التآمر عليها. وقد استمر التحقيق في القضية شهرا تلته المحاكمة التي استغرقت أسبوعا لتنتهي في 28 فيفري الموالي، حيث صدر حكم الإعدام على العقيد لعموري، ومعه العقيد أحمد نواورة الذي كان قائد الولاية الأولى، والرائد عواشرية قائد القاعدة الشرقية، والنقيب علي زغيداني، وقد نفذ حكم الإعدام ضد لعموري ورفاقه الثلاثة مساء يوم 16 مارس 1959. نال اعتراف ديغول في الثورة وأرغم على الاعتزال بعد الاستقلال ومهما قيل من سلبيات عن الرجل، إلا أن مواضع الاتهام التي وضع فيها عبد الحفيظ بوصوف وضعت لها تبريرات في الكتابات التاريخية، ففي مقتل عبان رمضان لم يكن المسؤول الأول والأخير، فعبان رمضان عرف حسب بعض المقربين بتعاليه وحبه للسلطة، وهذا ما أشار إليه أحمد توفيق المدني في كتاب عمار بوحوش في كتابه التاريخ السياسي للجزائر قائلا: "إن اغتيال عبان رمضان يعود إلى تصادمه مع أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ، بسبب تعوده على العمل الشخصي، والفردي وفرض إرادته على غيره، ويعتبر نفسه الزعيم المطلق للثورة، أما بقية القيادة فكانوا يتمسكون بمبدأ الجماعة". ومهما قيل عن الباءات الثلاثة (بوصوف، وبن طوبال وكريم بلقاسم) إلا أنهم كانوا حسب بعض الرفقاء من قادة مركبة الاستقلال، مثلما أشار إليه علي هارون في كتابه "خيبة انطلاقة" قائلا: "من جهتي، كنت أرى أنه ليس من الحكمة إزاحة 3 رجال كانوا هم القادة الحقيقيين للثورة طوال هذه السنوات الأخيرة، ونبعدهم عن الإدارة الأولى للجزائر المستقلة، وهذا خطا فادح له عواقب وخيمة على صلابة الأسس التي ننوي على أساسها بناء جزائر الغد، وبدا لي من الضروري إضافة كريم وعبد الحفيظ وبن طوبال إلى قائمة الخمسة، فهم على الرغم مما تعرضوا له من انتقادات، فقد قادوا مركبة الجزائر إلى ميناء الاستقلال رغم كل الصعوبات". ورغم أن بوصوف أدهش ديغول في عز الثورة، إلا أنه في ظل أزمة 1961- 1962 بين الحكومة المؤقتة وقيادة الأركان فقد أرغم على اعتزال السياسة، مفضلا الانشغال بأعماله الخاصة، كما أبقى بوصوف على العلاقات القوية التي أنشأها مع قادة سياسيين وعسكريين في تونس والمغرب، وكان يتردد على الرئيس السوري السابق حافظ الأسد والرئيس العراقي صدام حسين بحيث أصبح مستشارهما في مجال تجهيز القوات المسلحة.