بين دموع الحزن والفرح.. الضغط النفسي والمهني.. وبين الحمد والسجود لله… والرضا بقضائه وقدره.. تقلب تحاليل ال "PCR" الخاصة بكوفيد 19، موازين الجزائريين والطاقم الطبي بإشارة واحدة "موجب أو سالب"، لتبين بعدها الخيط الأبيض من الأسود… "الشروق" عاشت هذه اللحظات الصعبة، وفترات التحدي والتصدي من قبل "الجيش الأبيض" وجهوده وتضحياته في الحرب المشروعة على كورونا، وخاطرت بدخول العلبة السوداء لمستشفى القطار، حيث يخضع المصابون بالفيروس ورافقت الأطباء في كل المراحل التي يمر بها المريض للانتهاء بإذنه تعالى بالشفاء والعودة إلى بيته. في بداية الأمر ترددنا في إنجاز هذا العمل ، لكن في الأخير قررنا المغامرة بعد أن توكلنا على الله، واستعنا بمن يضحي بنفسه من أجل حياة الآخرين، وحاولنا نقل كل صغيرة وكبيرة عن معاناة المصابين بوباء كورنا، وكذا الطاقم الطبي باعتباره في الصف الأول لمواجهة هذه الجائحة العالمية، غير آبهين بمخاطر العدوى أو ساعات العمل المرهقة، أو البعد عن عائلاتهم وذويهم لأزيد من شهرين. تحدي فيروس أرعب العالم ..؟ بعد عدة محاولات تمكنا من الحصول على الموافقة لإجراء هذا الربورتاج في أعرق مستشفى مختص في احتواء الأوبئة والأمراض المعدية، فمن حالات السيدا والتهاب السحايا، إلى أنفلونزا الطيور والخنازير، مرورا بفيروس "أتش1 أن1" والكوليرا، وصولا إلى كورونا… فبمجرد أن وطأت أقدامنا هذا المستشفى انتابنا الشعور بالخوف ، كيف لا ونحن على دراية تامة بأن الأمر يتعلق ب "كوفيد 19" الذي أرعب العالم بأسره إلى درجة أنه لم يجد له دواء إلى حد الساعة. تم استقبالنا من طرف مدير المستشفى عصام الدين بويوسف، الذي أكد لنا أن الأمور حاليا تسير بصورة جيدة، عكس الأيام الأولى لتسجيل حالات فيروس كورونا، وأوضح أن الوضع تم السيطرة عليه، وأن مؤسسته في حالة تأهب قصوى 24 ساعة على 24 ساعة للتصدي لأي طارئ وجميع الإجراءات التنظيمية والتدابير الاحترازية والوقائية قد اتخذت الحصر هذا الوباء، خاصة أن المستشفى الحمد لله لم يسجل إلى حد الساعة أي حالة وفاة. خوف.. والمهمة ليست مستحيلة بدأت رحلتنا رفقة مدير المستشفى بويوسف والدكتورة عقيلة موسى طبيبة منسقة بالمستشفى، التي كانت تبدو جد مرهقة وعيناها ذابلتان من قلة النوم، باعتبارها المشرفة الأولى منذ دخول المريض المصاب أو المشتبه في إصابته إلى المستشفى وتتابع جميع المراحل، من الفحص إلى التحاليل إلى إخضاعه للعلاج وصولا إلى لحظة شفائه وخروجه من المستشفى، أو تحويله في حالة ما زاد وضعه الصحي تأزما إلى مصالح العناية المركزة بالمستشفيات. وخلال دردشتنا مع هذه الطبيبة النموذجية، توضحت الأمور بعد أن أكدت لنا الدكتورة موسى أنها تابعت 432 حالة مشتبه في إصابتها ب "كوفيد 19″، 285 منهم خضعوا للعلاج عن طريق برتوكول كلوركين، 131 غادروا المستشفى بعد شفائهم، و19 تم تحويلهم إلى مصالح الإنعاش بمختلف مستشفيات العاصمة. ..بدأنا بالتعرق وشعرنا بأن أنفاسنا محصورة إلى درجة "الضيق" عندما ارتدينا اللباس الخاص ووضعنا القفازات في أيدينا، والكمامات على وجوهنا، وغطاء للرأس والقدمين… وكانت وجهتنا الأولى القاعة المخصصة لمعاينة المشتبه في إصابتهم بالفيروس، وهي قاعة متواجدة بمدخل المستشفى معقمة، وهنا تشرح لنا الطبيبة موسى مراحل التشخيص وتقول: "بمجرد أن يصل المريض الذي تظهر عليه علامات ارتفاع درجة الحرارة، السعال والضيق في التنفس، يعاين من طرف طبيب عام، بعد أن يقوم بإخضاعه لقياس درجة حرارته، وفي حالة الشك يحول إلى طبيب مختص وهو أيضا يتواجد في القاعة المقابلة، أين يقوم هذا الأخير بأخذ أنبوبا بلاستيكيا رفيعا، يخرجه من أنبوب آخر كان موجودا فيه، قبل أن يدخله في أنف الشخص المشتبه في إصابته، ويحركه قليلا في أنفه قبل إخراجه وإعادته مكانه، ليرسل إلى المخبر المركزي المتواجد في المستشفى بدلا من معهد باستور، وهنا يحول المريض إلى قاعة متخصصة تحتوي على 17 سريرا، في انتظار نتائج التحاليل التي تستغرق من 12 إلى 14 ساعة، فإن كانت سلبية يطلق سراحه وإن ظهرت إيجابية يتم إبلاغ الشخص المعني منذ اللحظة الأولى، حفاظا على سلامته وسلامة عائلته ومحيطه وحصر الفيروس وعدم انتشاره ليحول مباشرة إلى الجناح المخصص لكوفيد 19 وتطبيق إجراءات الحجر عليه لمدة 14 يوما ثم إخضاعه للعلاج، حيث تم تخصيص 3 أجنحة "أ"، "ب"، "ج" للمصابين بهذا الفيروس. مصلحة "فيدال".. وجوه مرّت بالجحيم بالرغم من أن العالم يبحث عن الحماية من فيروس كورونا، يتواجد الأطباء والممرضين وجميع موظفي مستشفى القطار وباقي مستشفيات الوطن على الخطوط الأمامية لمحاربة هذا العدو الخفى.. "جنود" يعرضون حياتهم للخطر ويعملون ساعات طويلة ومتواصلة لإنقاذ حياة المرضى، حتى تغيرت معالم وجوههم وأصبحت بها علامات جراء ارتداء الكمامة لساعات طويلة من العمل.. إنهم فعلا أبطال يستحقون الثناء ورفع القبعة… دخلنا المصلحة.. نلتفت يمينا وشمالا وشعور ينتابنا بأن كورونا تحاصرنا… الخوف نزع منا كل الجرأة.. لكن هذه هي المهمة التي جئنا من أجلها.. ولسان حالنا يردد: "اللهم عافنا وأخرجنا من هذا المكان سالمين آمنين". الطبيبة فاطمة الزهراء زميت، رئيسة مصلحة فيدال المتخصص في معالجة المصابين بفيروس كورونا بالرغم من أن ملامح التعب بادية على وجهها، بسبب قلة النوم من جهة، وحرصها على أداء عملها بضمير مهني على أحسن وأكمل وجه، اتجاه المرضى الذين اعتبرتهم أمانة على عاتقها تتألم لمعاناتهم وتفرح لعافيتهم.. رافقتنا داخل المصلحة وكلها حيوية وأمل على خروج المرضى القابعين هناك جميعا سالمين معافين.. حيث شرحت لنا تفاصيل العلاج بدأ من إعادة التحاليل إلى إجراء الأشعة وصولا إلى اختيار العلاج المناسب وفقا لسن المصاب أو معاناته من مرض مزمن وغير ذلك. وفي جناح " فيدال" التقينا أفراد من الطاقم الطبي وسمعنا منهم تفاصيل يومياتهم مع مرضى "كوفيد 19″، وهاهي الطبيبة المقيمة نور الهدى قواسم التي لم تر عائلتها منذ شهر فيفري الماضي، تروي لنا وعيناها مغرورقتان بالدموع جميع لحظاتها في الإمساك بأيادي المرضى الذين يحتضرون وبعدت المسافات بينهم وبين ذويهم بسبب المرض، فكانت تحاول الوجود معهم حتى لا يكونوا بمفردهم في "زنزانة" المستشفى خلال فترة حجرهم وعلاجهم، وبالرغم من كل تلك الصعوبات واللحظات المؤلمة التي تمر بها، عبرت عن فخرها للوجود في صفوف محاربة كورونا، وتعهدت بمواصلة القتال، وقالت "هذا هو الوجه الذي سيستمر مهما كان الثمن". "محاربون" حرموا من مائدة رمضان فيما تؤكد لنا الطبيبة زميت أنها في هذا الشهر الكريم، حرمت من مائدة رمضان مع أفراد عائلتها وأنها لم تتمكن من التقرب إليهم ووضع حياتها على المحك لإنقاذ الآخرين، وتطلب من الناس البقاء في منازلهم حتى لا تزيد الإصابات، وتتمكن هي والفريق الطبي من الحصول على قسط من الراحة بعد هذه المعاناة التي يواجهونها في سبيل الحفاظ على حياة الجزائريين". وبالمقابل، فإن الطبيبة موسى قالت لنا وهي متأثرة بوضعها "أشعر بالتعب النفسي وكذلك زملائي الذين كانوا في حالتي منذ أسابيع، ولكن هذا لن يمنعنا من القيام بعملنا كما نفعل دائما، سأستمر في رعاية المرضى لأنني فخورة وأحب عملي، وما أطلبه من كل شخص يقرأ هذا الآن هو البقاء في المنزل وعدم إحباط الجهود التي نبذلها". دون أن ننسى الممرضين والممرضات وكل أفراد الطاقم الطبي، الذين التقينا بهم في عين المكان ووجوههم مرهقة ومصابة بالكدمات بسبب الضغط الناتج عن ارتداء معدات الوقاية الشخصية لما يقرب من 16 ساعة في اليوم، في محاولة منهم تقديم العلاج وكل الخدمات التي يحتاجها المريض في محنته، حتى يتعافى من هذا البلاء. وما سجلناه ونحن في مستشفى القطار، هو أن الطاقم الطبي يرفع من معنوياته بين فينة وأخرى، ويحاول بعضهم المزاح، ويتحدث آخرون عن أطفالهم وأقربائهم، وأن القادم أفضل وأجمل، وأوصونا بغسل ملابسنا بعد هذا العمل وتنظيف اليدين جيدا، حتى نستمر نحن بدورنا في تغطية الأحداث. رحلة بين الموت والحياة… يظن البعض أن إجراءات العزل الصحي نوعا من التضييق على الحريات، لكن هناك في ركن مصلحة "فيدال" أو "نيكول" أو "لومير" المخصصة لمعالجة المصابين بكورونا بمستشفى القطار، يمكث المعذبون في الأرض ويتجرعون كأس الآلام، ويشعرون بالضيق في التنفس، وأرواحهم تنتقل بين الحياة والموت ولسانهم يقول…" نستهل دفعت ثمن الاستهتار بالوباء ولم ألتزم للإجراءات، وهاهو أين وصل بي الأمر.."لا حبيب لا والي كما يقال"…. ولحسن حظنا عايشنا لحظات لم نكن نتصورها، إنها لحظات إخبار المريض بأنه تعافى تماما ويمكنه العودة إلى منزله ودفئ عائلته، بعد معركة ضروس مع فيروس لا يرى بالعين المجردة، أدخلهم "زنزانة المحكوم عليهم بالإعدام" وأخرجتهم منها مشيئة الرحمان. تطل علينا هدى من غرفتها وتنادي على رئيس المصلحة "فيدال" الدكتورة زميت وتقول لها " طبيبة.. كيفاش نتائج التحاليل بعد العلاج..؟ لترد عليها قائلة الحمد شفيت.. هدى لم تصدق .. يعني سأغادر المستشفى.. بطبيعة الحال.. تركع ثم تسجد لله والدموع تنهمر من عينيها… إنها نعمة من الله.. لتقاطعها: يعني فرحت لتقول لنا: كانت أياما عسيرة، كنت أكثر فيها الصلاة والدعاء لي ولكل المرضى وبقدر ما أروي لكم معاناتي لا يمكن لأحد أن يصف ما مررت به، كارثة بكل المقاييس.. الحمد لله ثم الحمد لله، ورسالتي لكم أيها المواطنون.. الفيروس سيقلب حياتكم رأسا على عقب.. الزموا بيوتكم". العودة من بعيد… من جهتها تطل مريضة أخرى أصيبت هي وابنها البالغ من العمر 6 سنوات وتم حجرهما في غرفة واحدة وبدورها تبشرها الطبيبة عن امتثالها هي وفلذة كبدها للشفاء.. لتطلق عنانها وتبكي بحرقة وتردد عبارات "الشكر والحمد لكي ارب في هذا الشهر الكريم".. مشهد تقشعر له الأبدان". وعاد مريض أخر إلى حالة القلق التي انتابته منذ إشعاره بنتائج التحاليل من معهد باستور بالجزائر العاصمة، قائلا: "كنت قلقا جدا على نفسي وعلى أفراد عائلتي، وكنت أواجه الوضع بكثرة الدعاء لي ولكل المرضى من أجل تجاوز هذه المحنة، وبعد مضي بضعة أيام جاءت نتائج التحاليل لعينات أرسلت من قبل المشرفين على مصلحة الأمراض المعدية إيجابية، خضعت للعلاج وشفيت تماما فعاد لي الأمل في الحياة مجددا، وشكرت الخالق على هذه النعمة". أنت ملزمة بالحجر.. تنزل عليا كالصاعقة ونحن نتواجد في مستشفى القطار كشفت لنا رئيس مصلحة رئيس المصلحة "فيدال" الطبيبة زميت عن وجود 4 أطفال من بين المصابين تتراوح أعمارهم بين 7 أشهر و6 سنوات، وأن جميعهم يمتثلون للشفاء بصورة جيدة، وأن بعض المرضى المصابين بكورونا والذين تعرضوا لصدمة نفسية، حاولوا الانتحار، إلا أننا تمكنا من إنقاذهم والرفع من معنوياتهم، عن طريق المرافقة والدعم البسيكولوجي من طرف مختصين في المستشفى، فيما ثمن البروفيسور مصباح أحد أعضاء اللجنة الخاصة بمتابعة كورونا والمعين من طرف رئيس الجمهورية في حديثه ل "الشروق"، أن القرار الذي اتخذه الوزير الأول والمتعلق بإعادة غلق المحلات قرار شجاع جدا… وإلا سنكون أمام كارثة حقيقية، بسبب عدم التزام المواطنين بتدابير وإجراءات الوقاية من فيروس "كوفيد 19". غادرنا المستشفى بعد أن طلب منا الطاقم الطبي بينهم رئيس مصلحة "فيدال" لمعالجة المصابين بفيروس كورونا، قاطمة الزهراء زميت، والمنسقة عقيلة موسى إلى جانب مدير المستشفى بويوسف، الالتزام بالحجر المنزلي لمدة لا تقل عن 5 أيام، بالرغم من الاحتياطات والإجراءات الوقائية التي خضعنا لها منذ الوهلة الأولى من دخولنا إلى المستشفى، وهو ما زاد قلقنا وتوترنا.. لكن أمنا بعد ذلك أنه" لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.."ولسان حالنا يردد: "اللهم ارفع عنا هذا الوباء عاجلا وليس آجلا".