ربما شدّ انتباهنا تلك الملحوظة التي يضعها أصحاب العمل السينمائي "الشخصيات من نسج خيال المؤلف، وإن كان هناك تطابق في الشخصيات في الواقع فهو محض صدفة"، تلك العبارة التي عادت تنطبق طباقا تماما على ما يطلق عليهم "مؤثري العالم الافتراضي". شخصيات مثالية ذات أجسام رشيقة، وأخرى رياضية، وبشرات لا تشوبها شائبة، وحياة مترفة لا تخلو من الكماليات، أسر وأزواج سعداء، وظائف مثالية حياة تدور في فلك المطاعم، المقاهي، الفنادق، المحلات الفاخرة، والملابس ذات الماركات، والهدايا التي يغدق بها المعجبون عليهم. هذا باختصار ما يتراءى بالعين عن عالم سوشيال ميديا، ولكن لا تصدق كل ما تراه، فخلف تلك الشاشة يقبع عالم المؤثرين المزيف، فالترف ما هو إلا مظهرية اجتماعية لحياة يطمح الوصول إليها وليس الحياة كما هي، والوجوه الجميلة تختفي أبشع الأحزان، والسلوكيات. وكثيرات ممن يبعن الأوهام تحت اسم مساحيق التجميل والوصفات المجربة، لتركض أخريات لاقتناء مالا حاجة لهن به، وما قد يضرهن في بعض الأحيان، فليس كل ما ينصح به يستحق التجربة، حتى أن أطباء الجلدية يحذرون من إتباع نصائح من يسمون مؤثرين، ووصفاتهم السحرية التي تحتاج لرأي خبير لتجربتها، وخاصة أن بعض من الشركات تستخدم من يحظون بقاعدة جماهيرية على مواقع التواصل الاجتماعي، ويتابعهم الملايين كواجهة، ووجه إعلاني للترويج لمنتجاتها وتمريرها، ولقاء ذلك يتلقون مقابلا ماديا. وفي وقت لم يعد للبيوت أسرار، ولا للجدران آذان، لكن عاد كل شيء مكشوفا، وبكبسة زر على مرأى العين، لتتجول الكاميرا في أرجاء البيوت. ولتفقد الحياة خصوصيتها، فتلك الأضواء الكاشفة عرت العلاقات الشخصية والاجتماعية، تلك الخصوصية باتت تعرض مقابل ربح مادي يروي ظمأ أولئك المتعطشين للشهرة، واللاهثين وراء المال، فهؤلاء يقتاتون من بيع حياتهم الشخصية. فالاهتمام بالجسم، والظهور بشكل مثالي هو ما يسترزق منه هؤلاء. وكما أن هناك الكثير ممن يتاجرون بمشاكلهم، حتى أنهم يتصنعون في مواقف كثيرة لدرجة اختلاق القصص وفبركة الأحداث لاستمالة الجماهير، والتعاطف وإثارة الجدل لرفع نسبة المشاهدات، ليظهروا في فيديوهات متباكين من حدث ما في محاولة منهم لانتزاع الدمع من الجماهير نزعا. مؤثرون ولكن ما معيار التأثير؟!! كثيرا ما نتساءل على أي أساس يؤثر مثل هؤلاء؟ ولم يتابعهم ملايين المشاهدين؟ وما القيمة المضافة التي يقدمونها؟ لنصدم من الجواب، مع أنه متوقع، وهو: لا شيء. فهؤلاء لا يقدمون شيئا، غير عرض خصوصياتهم، وحياتهم اليومية مع إضافة توابل التنميق والترفه، والحياة الوردية السعيدة التي لا تعتريها لا مشاغل ولا منغصات. حياة أقصى أن تكون غير طبيعية، وأقرب أن تكون مثالية. وليتجج أحدهم، ويتفاخر من خلال التصريح بما يتلقاه من مبالغ مقابل الفيديو الواحد أو الإشهار لمنتوج معين. لتعكس تلك الأرقام المبالغة فيها والمهولة صعود اقتصادي سريع في ظرف قياسي خاصة انتشار إعلانات الشركات وافتتاح المطاعم والمحلات والمشاريع الخاصة، وحفلات الفنادق وغيره التي يتم استدعاء هؤلاء المشاهير الذين لا يتقاعسون في التودد لجهات معينة، والتغزل بأخرى لاستمالتها، وكسب جماهيرية أكبر. وبينما يعيش هؤلاء حياتهم المزيفة ينسلخ رواد مواقع التواصل الاجتماعي وغيره من واقعهم المعيش، وهروبا منه يعيشون حياتهم متتبعين لحياة هؤلاء اليومية لدرجة الهوس بهم، وحتى الرغبة في تقليدهم. فتلك الحياة التي تدغدغ مشاعر المواطن العادي، وتثير سخطه على واقعه بل تجعل الكثير من الشباب يطمحون لعيش نفس الحياة، وخاصة أنها تضمن ربحا سريعا وبأقل مجهود. ومع التصدع المستمر الحاصل في الطبقات الاجتماعية اليوم، بات الصعود الاجتماعي، وتعزيز المكانة الاجتماعية للفرد لا تحتاج لشهادات، ولا عبقرية خارقة فقط إنشاء مدونة، وقناة عاليوتيوب، وتقديم أي محتوى مهما كان نوعه سواء يرقى أو لا يرقى، المهم بيع حياتك الخاصة، ونشر ثرثراتك الكلامية. لتحظى بقاعدة جماهيرية واسعة. وإن كانت لهذه تبعات نفسية، فغالبا ما يعاني مشاهير العالم الافتراضي من اضطرابات نفسية، واكتئاب. لما تفرضه أضواء الشهرة وضغطها، كما ووجب الظهور الدائم في أبهى حلة. فهناك جمهور يقتنص الأخطاء والهفوات لينتقد أو يتنمر، فإذا وجد بثرة أو ظهرت مجهدا، أو بلا ماكياج هاجمك الكثيرون، ونعتوك بالقبيح وتنمروا عليك. فهذا الجمهور في لحظة حاسمه قد يرفعك للسماء أو ينزلك للأرض. ليبقى هؤلاء رهنا لتقلبات مزاج الجمهور الافتراضي. وكما أن الكثير ممن ولد لديهم ضغط انتهى بانتحار. وبغض النظر عما يقدمونه فهم يحظون بقاعدة جماهيرية كبيرة، وخاصة من قبل المراهقين الذين يسعون جاهدين للمشي على خطاهم، وولوج عالم التواصل الاجتماعي لما يدريه من أرباح، صعود اقتصادي سريع في ظرف قياسي.