ستة أيام بلياليها مرت، على اختفاء 21 شابا، حاولوا الهجرة السرية، وأبحروا من شاطئ واد الصابون ببلدية فلفلة التابعة لولاية سكيكدة، بينهم خمسة جمعتهم الصداقة، منذ أن كانوا أطفالا دون سن الدراسة. "الشروق"، زارت صباح الثلاثاء بيوت هؤلاء الأصدقاء بمدينة القل حيث لمست عائلاتهم بعض الأمل القادم من مدينة سوسة التونسية، إذ وردت أخبار، بأن حراس السواحل قبضوا في اليومين الفارطين على نحو عشرين "حرّاقا" جزائريا، وهم حاليا في السجن. وهم في انتظار على أحرّ من الجمر، صور وأسماء الحراقة على أمل أن يكونوا هم المفقودون، إن صحّت أصلا هذه الرواية. "الحرّاقة" الخمسة، يقطنون بكل من حي أحمد بوالطمين المعروف سابقا بالطهرة، وحي بولخصايم محمود وحي عمار شابور بوسط المدينة وهم جميعا من أسر فقيرة، أو متوسطة الحال، ومستوى تعليمهم يتراوح ما بين الرابعة متوسط إلى غاية الثالثة ثانوي. تتحدث والدة المفقود الطاهر بوعسلة، صاحب ال25 سنة بحرقة عن ابنها الذي لم يجد عملا ولو كحارس بمدرسة، رغم العديد من طلبات العمل التي قوبلت جميعها بالرفض، كان يحلم بالاستقرار والزواج، وبعد أن تعب من البحث عن إبرة في صحراء من الرمال، قرّر أن يقترض مالا ليتمكن من الحرقة، لتحسين وضعه الاجتماعي بعد أن حرمته ظروفه المادية من الزواج والاستقرار. أما شقيق ناصر بوسيس وهو حراق في ال35 سنة وأعزب وبطال فلا همّ له حاليا سوى صحة أخيه المفقود وسلامته، وروى لنا كيف ألقي القبض على ناصر قبل ثلاث سنوات، بعد أن وجهت له النيابة تهمة تسهيل الخروج من أرض الوطن بطريقة غير شرعية، بعد أن ألقى حرس السواحل القبض على حراقة، واعترف بعضهم بأنه هو من نظم الرحلة ولكن تمت تبرئته من هذه التهمة. لكن سقوطه في جب البطالة والفقر، على مدار سنوات طويلة، شجعه على الحرقة لأنه كما قال للمقربين منه: "أنا لا مستقبل لي هنا.. نحن أموات لم ندفن بعد". "الحراق" الثالث الذي طرقنا بابه هو إلياس بوعسلة 22 سنة، ورغم شهادات التخصص التي يملكها في عدة مهن إلا أنه عجز أن يجد وظيفة أو يتمكن من ممارسة مهنة حرة تسمح له بتدبير شؤونه اليومية، فكان يتنقل بين البلديات وولايات الشرق الجزائري لا همّ له سوى العمل، ما جعله يفكر في الهجرة دون علم أسرته، فقد خرج يومها من المنزل كالعادة مؤكدا بأنه سيتوجه إلى سكيكدة لزيارة أحد أقاربه لتتفاجأ العائلة بابنها الهادئ الطباع ضمن قافلة الحراقة، التي غادرت قبل ستة أيام وانقطعت أخبارها. ويشترك معهم في البطالة والطموح صديقهم فؤاد مخبي صاحب ال25 سنة ابن حي الطهرة العتيق، الشاب المرح ابن عائلة متوسطة الحال عمل في عدة مهن ليتمكن من تدبير حاجياته وحتى لا يعتمد على عائلته ففي هذه السن من غير المعقول أن تبقى عالة على أبويك، هكذا كان يقول لأصدقائه، ولا حياة لمن يمد يده لوالده ليعطيه مالا، فكانت فكرة الحرقة تراوده لأنه يريد أن تتحسن أحواله المادية، لا سيما أن لا مستقبل له في مدينة القل التي غابت عنها التنمية وأغلقت مصانعها حتى مهنة الصيد والتي كانت مصدر رزق له ولأغلب السكان بدأت تضمحل بعد تقلص الثروة السمكية والعراقيل الكثيرة التي تواجه الصيادين وأصحاب هذه الحرفة. الحراق الخامس هو بلال غضبان، وهو أكبرهم سنا إذ بلغ 36 سنة كان عقل المجموعة وناصحهم، أعزب كان يبيع الهواتف النقالة المستعملة لكن في ظل الظروف الاقتصادية وتراجع نشاطه، لم يجد ضالته فعمل مؤقتا في بيع السمك، وكان ناصحا للشباب الحراق، قبل أن يدخل مرحلة اليأس، ليقرر الحرقة خاصة أن أمنيته هي أن يوفر لوالدته حياة كريمة وهي التي تعبت وشقيت لأجل تربيته كما تقول هي. وأن يكسب المال ليتزوج ويُفرحها. لكن لا أحد من هؤلاء الأصدقاء كان يظن بأن المغامرة قد تنتهي بدراما حقيقية، لا سيما أنه لحد كتابة هذه السطور لا معلومة واحدة مؤكدة عن مصير 21 حراقا الذين عاشوا إلى جنب في أحياء مدينة القل الساحلية، وفقدوا إلى جنب، وتركوا أكباد أسرهم الذين يعيشون في قلق ما بين أمل أن يكونوا أحياء، وهاجس لفظ أمواج جثثهم.