فلاحة: التمور الجزائرية تصدر إلى أكثر من 90 دولة    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    غزة: مجزرة بيت لاهيا إمعان في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني ونتيجة للفيتو الأمريكي    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    أيام إعلامية حول الإثراء غير المشروع لدى الموظف العمومي والتصريح بالممتلكات وتقييم مخاطر الفساد    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    عميد جامع الجزائر يستقبل رئيس جامعة شمال القوقاز الروسية    منظمة التعاون الإسلامي: "الفيتو" الأمريكي يشكل تحديا لإرادة المجتمع الدولي وإمعانا في حماية الاحتلال    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    فلسطين: غزة أصبحت "مقبرة" للأطفال    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    يد بيد لبناء مستقبل أفضل لإفريقيا    التزام عميق للجزائر بالمواثيق الدولية للتكفّل بحقوق الطفل    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بحث المسائل المرتبطة بالعلاقات بين البلدين    حج 2025 : رئيس الجمهورية يقرر تخصيص حصة إضافية ب2000 دفتر حج للأشخاص المسنين    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    الجزائرية للطرق السيّارة تعلن عن أشغال صيانة    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن الالتزام العميق للجزائر بالمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الطفل    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    الجزائر تشارك في اجتماع دعم الشعب الصحراوي بالبرتغال    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    تكوين المحامين المتربصين في الدفع بعدم الدستورية    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم أداء المديرة التنفيذية الجديدة للأمانة القارية للآلية الإفريقية اليمين    سعيدة..انطلاق تهيئة وإعادة تأهيل العيادة المتعددة الخدمات بسيدي أحمد    أمن دائرة بابار توقيف 03 أشخاص تورطوا في سرقة    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    فايد يرافع من أجل معطيات دقيقة وشفافة    حقائب وزارية إضافية.. وكفاءات جديدة    القضية الفلسطينية هي القضية الأم في العالم العربي والإسلامي    تفكيك شبكة إجرامية تنشط عبر عدد من الولايات    انطلاق فعاليات الأسبوع العالمي للمقاولاتية بولايات الوسط    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أطفال يسترزقون من المزابل .. من اجل دنانير بخسة
نشر في الشروق اليومي يوم 19 - 08 - 2007

قد يحتار كثير من الأولياء ويثيرون الجدل في كل سنة حول اختيار مكان مفضل ومريح بشأن قضاء عطلهم الصيفية وعن إجازة تنسيهم تعب طول السنة وإجهاد النفوس، وتكون بداية التفكير على مشارف نهاية الموسم الدراسي بالنسبة لأبنائهم ليتم تحديد برنامج يحظى بتصويت أغلبية الابناء كمكافأة لهم على تفوقهم الدراسي أو للتخفيف عنهم من ضغوط السنة الدراسية وإرهاصات الإمتحانات الدورية الشاقة،
لا ريب في ان ميزانية التخييم باحد الشواطئ الخلابة، سفريات إلى مختلف ولايات الوطن، أو إلى دول خارجية.. مصحوبة بكثير من "الدلع والتبذخ والإفراط في الإنفاق" قد تكون معتبرة تثقل كاهل الجيوب لكنها لا تساوي شيئا أمام غبطة الاطفال وفرحهم على مدى ثلاثة أشهر من اللعب والإستجمام تكسب أجسادهم اللون البرونزي.
.. هو نفسه اللون لكن اكثر عتمة وتقبيحا للوجوه وعلى مدى نفس العطلة الصيفية تسودّ اجساد أطفال بؤساء، وتفقدهم بريق الطفولة الحالم ليس تؤثرا بعليل البحر ومداعبة الرمال ولكن باشعة الشمس التي تلفح وجوه طالبي الرزق باي طريقة كانت، المهم انها تدر ولو القليل من الدنانير المعيلة على العيش المرّ ومأساة تتكرر كل سنة، لا يتم التحضير لها أو النقاش بشأنها وإنما تفرضها الظروف فرضا، دون أن يشفع لها سنّ الطفولة البرئ، هي حياة أولئك الأطفال التي فضلت "الشروق اليومي" أن تدنو منهم لتكشف عن حجم معاناتهم اليومية وقدر فاتورة الضياع التي تمضيها مفارقات البلد الواحد، من دون أن يأخذ أي إعتبار لمستقبل زمرة من البراعم التي تجهض يوما بعد يوم بأيدي اخطبوط الفقر والحرمان الذي خنق أوليائهم قبل ذلك. بقرية غير بعيدة عن مدينة "وادي ارهيو" التابعة لولاية غليزان، تدعى "دوار الشارة"، قد يكون هذا الاسم غير بعيد عن الذاكرة ولا يحتاج إلى فرك الشعر بالرأس لتذكره، لأن شهرته صنعتها جماعات دموية كانت تجوس خلال دياره ليل نهار وجعلته على كف عفريت طوال عشرية سوداء، واصبح الدوار يشبّه بجبال "تورا بورا" بأفغانستان ملجأ حركة طالبان، قد يرجع السبب في ذلك إلى المرتفعات التي يقيم عليها سكان "الدوار" أو إلى نواة الجماعات الإسلامية به التي كانت تمد تنظيم "الفيس" بأولادها، قبل أن تتحول المنطقة إلى وكر لمدمني المخدرات والمتاجرين بها كذلك فضلا عن اللصوص وقطاع الطرق لتنعت بعد إخماد نار الإرهاب ب"كولومبيا" نسبة لتفشي ظاهرة تعاطي السموم لدى سكان الحي وخصوصا لدى الاطفال بشكل غير مسبوق ومثير لجملة من التساؤلات عن الواقع والأسباب والمصير ؟. زيارتنا لهاته المنطقة كانت غير مقصودة لتناول هذا الموضوع بعينه وإنما كانت بناء على شكاوى من عدة سكان حول تأثرهم بتحويل مزبلة مدينة "وادي ارهيو" نحو مساحة بأعلى المرتفع لا تبعد سوى بأمتار قلائل من سكناتهم القصديرية وبناءاتهم الفوضوية ب"دوار الشارة" و ما ينجم عن ذلك من أمراض وتأثيرات جانبية، لكننا تفاجأنا حين وصولنا إلى المكان المقصود بمجموعة من الأطفال يحومون حول أكوام الزبالة ويفتشونها جيّدا بغية الحصول على شيء نافع يصلح للبيع أو الأكل !!
والده الذي يشتغل بشاحنة البلدية منحه صفة "الزعيم"
قبل أن ننطلق إلى المكان المقصود فضلنا أن نستعين بأحد العارفين بشؤون المزبلة وما يجري بها من مستجدات وقد تم توجيهنا إلى طفل يدعى "تشيكو" كدليل لنا، وبدا من خلال محاكاتنا به أنه مطلع على كل صغيرة وكبيرة عن المنطقة وما يتعلق بجمع النفايات كمصدر للرزق، وعلى بعد أمتار من وصولنا إلى المرتفع بشق الأنفس، لم تكن درجة الحرارة المرتفعة ولا تعب الطريق فظيعا بالقدر الذي أحدثته فظاعة مشهد زمرة من الأطفال، ذكورا وإناثا تتراوح أعمارهم من 3 سنوات حتى 18 سنة وسط مساحات واسعة من القمامة التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى مفرغة عمومية ترمى بها كل مجلوبات مدينة "وادي ارهيو" من القاذورات، ورغم إنبعاث الرائحة الكريهة من مكان غير قريب، لاحظنا انشغال "أطفال الزبالة" بمخفيات الأكياس والعلب المرمية وتركيزهم على تصنيف إنتقاءاتهم بين بلاستيك، حديد، نحاس، مواد مستعملة وكذا مأكولات..، وقبل أن نقترب أكثر التقينا بأحد الراجعين من "التسوق" بمركز الزبالة المجاني وهو طفل لا يتجاوز عمره 15 سنة يجر كيسا بلاستيكيا معبئا لا يكاد يقوى على حمله من شدة ثقله، وهو يعانقه شمالا ويمينا وكأنه مستعجل ليوصل غنيمة الصباح إلى البيت القصديري الذي يقيم به بمكان غير بعيد، ويعاود الكرة قبل أن تحضر شاحنات البلدية المكلفة بالإفراغ، لكنه تردد في أن يكمل مسيره حين ارتد طرفه ولمح الشاحنة المعنية قادمة، وفضل أن يضع الكيس جانبا ويشارك البقية عملية التنقيب، لكن دليلنا "تشيكو" أشار إلى أن هذه المزبلة لديها قوانينها أيضا، إذ يتواجد بالمكان زعيم صغير يكبر الجميع سنا "18 عاما" يدعى "الخباز" وهو سيد الأمر هناك إذ لديه السلطة في الحيازة على محتويات شاحنة بكاملها لوحده دون أن يجرأ أحد أن يقترب منه، وقد همس لنا أحد أتباعه أنه منح هذه الشرعية باعتبار أن والده يعمل رجل نظافة باحدى شاحنات البلدية، وهو من يعطيه الحق في السيطرة على كامل محتواها بمفرده، حتى إذا ما فرغ من ذلك ينسحب نحو كومة اخرى، ليهرع البقية إلى ما تفضل "الزعيم" وتركه لهم، وبلهجة متذمرة أشار لنا من يعرفونه إلى أنه طرد من مقاعد الدراسة في السنة الأولى متوسط العام الماضي بعدما حصل على معدل 2 من 20، وضبط متلبسا في سرقة حنفيات الإكمالية، ليقوم ببيعها فيما بعد باعتبارها من مادة النحاس، وبعكسه تماما علمنا أن أحد مرتادي الزبالة ذي ال 17 ربيعا متفوق في الدراسة، ولا يحصل على أقل من معدل 12 من 20، وعلمنا أن اسمه كمال ويلقب ب "الطنجرة"، مثلما يلقب كل الاطفال المتواجدون بالمكان بأسماء غريبة ك"أحمد الطاكسي، سفيان الصومالي، حكيم عدالة .."، كمال حملته ظروف عائلته السيئة وتخبطها في براثين الفقر على مدى كامل أشهر السنة على المساعدة في مصروف البيت وتوفير مصروف الدخول الإجتماعي للعام المقبل بالتعاون مع إخوته الذين يصغرونه سنّا، وبما أن الحصول على عمل يشكل حلما يصعب تحقيقه لدى الكبار قبل الصغار ب"وادي ارهيو"، لجأ كمال للزبالة علّه يوفر مدخولا جراء بيعه للبلاستيك والحديد المستعمل..
يقيم بيتا قصديريا وسط الزبالة ويشغل كل أفراد عائلته
الظروف القاسية التي تعيشها العائلات بهذا الدوار فاقت كل الحدود وأزمة الفقر المدقع التي تحتجزهم داخل بيوت قصديرية إلى جانب حيواناتهم التي يربونها كمصدر للرزق، جعلت كبارا في السنّ ينافسون الأطفال في سوقهم اليومية، حيث لم يكن مستغربا تواجد عدد من الرجال وسط أكوام الزبالة، ينقبون و يجمعون مثلما يفعل الأطفال، وقد ثارت ثائرتهم حين شاهدوا عدسة كاميرتنا تتجه صوبهم، وقد لاحظنا بعين المكان رجلا يعقد صفقات مع الأطفال وهو يقف على جانب الزبالة، ليقوم بشراء الغنائم منهم بأثمان بخسة ويقوم ببيعها فيما بعد، ربما قد تكون الأنفة قد حملته أن يفضل دفع دنانير قليلة على أن يتوغل بالداخل مثلما يفعل البقية، خصوصا وأنه يحصل على كمية أكبر في وقت قصير، ويفضل الأطفال التعامل معه تجنبا لمشقة نقل النفايات إلى بيوتهم، في حين أشار لنا دليلنا إلى المنطقة أن سيارات نفعية غالبا ما تتردد على المكان قصد شراء البلاستيك والحديد من نقطة البيع الأولى، وقد أثار انتباهنا وجود بيت قصديري في نفس المكان لا ماء به ولا كهرباء، وتحيطه العشرات من الكلاب، قيل لنا أنه لصاحبه المسمى "قدور الزوبية"، الذي لا شغل له إلا جمع القاذورات، ويبدو أنه لقن حرفته هذه لكامل أفراد عائلته حيث أن زوجته وأمه وأولاده من دون استثناء لا يفارقون الزبالة يوما، وتعد مصدر رزقهم، وبدا كوخه الزنكي محاطا بالأكياس المملوءة، في البداية ظهر لنا أن الرجل فقير ولا يملك قوت يومه لكن مداخيل عمليات بيعه للبلاستيك والحديد وقارورات "البيرة" ساعدته أن يكتسب ما يفوق ال 60 رأسا من الغنم وسيارة كذلك !!، ما جعلنا نستفسر عن أسعار البيع والشراء، إذ بلغنا أن سعر الكيلوغرام الواحد من النحاس يتراوح ما بين 800 دج و120 دج، والحديد المستعمل ما بين 3 إلى 10 دج أما عن قارورات "البيرة" الفارغة فهي المفضلة لدى الاطفال، ويكون ذو حظ وافر من يجمع أكبر عدد منها، حيث تباع بسعر 5 دج للقارورة الواحدة.
لم يكن الرجال وحدهم من إعتادوا الذهاب إلى المكان يوميا وإنما حتى العجائز من النساء فضلن الاسترزاق من القاذورات وقصدنها لجمع الأغراض النافعة لشيء أو لآخر، حيث قيل لنا أن إحداهن لا تكتفي بجمع الحديد المستعمل، النحاس والبلاستيك وإنما تأخذ كذلك المأكولات المرمية والملابس لتقوم بغسلها، تقطيعها ثم بيعها بالسوق الأسبوعية على شكل كرات من القماش تستعمل في النسيج، وذكر لنا مجموعة من الأطفال أنهم شاهدوها تجمع فضلات اللحوم ، منها "بوزولوف" قامت بغسله وطبخه، ورغم كبر سنّ هاته العجوز إلا أن حملها لا يقل عن 50 كيلوغراما يوميا، وهي في كل الحالات تتجه إلى بيتها محملة بشيء ما فإذا ما كان يومها مفلسا تقوم بجمع الأخشاب والمواد القابلة للإشتعال حتى تستعملها في فرنها التقليدي لإنضاج خبز الدار أو ما يعرف ب "المطلوع".
يحتالون على تاجر للحصول على دنانير إضافية
بحثا عن الربح السريع وجمع المال كشف لنا أحد العارفين بحال "أطفال القمامة" عدة طرائف تحدث لهم يوميا، حيث ذكر لنا أنهم لجأوا إلى الإحتيال على صاحب محل تجاري ب"الدوار" كان يتعامل معهم باستمرار، إذ يبتاع منهم ما يجمعونه ليقوم هو الآخر ببيع مشترياته بأثمان مرتفعة وقد تفطن في إحدى المرات إلى خدعة كانوا يستعملونها، حيث إكتشف ثقل الكيس الذي أراد أن يزنه، ولما فتحه وجد علب مصبرات مملوءة بالحجارة، تم غلقها حتى يأتي الميزان بربح أكبر، واستمر ذلك عدة مرات إلى أن إكتشف غشهم له ليقرر بعد ذلك رفض شراء علب المصبرات ومعاينة كل كيس قبل أن يدفع ثمنه، وبما أنه لا يملك مستودعا يضع فيه أكوام الحديد كان يتركه خارج بيته، إلا أن مكر الاطفال فاق الحدود وهموا بسرقته عدة مرات ثم يقومون ببيعها له مرة ثانية وثالثة ورابعة إلى درجة انه صرح أنه "صار يرى نفس القطعة الحديدية عشر مرات أو أكثر تقترح عليه للشراء" !.
حلويات فاسدة من المزبلة تدخله المستشفى 20 يوما
من جانب آخر، تحول المكان إلى مصدر لأمراض خطيرة قد لا تظهر على المدى القصير لكن ضحاياها هم الأطفال المترددون على الزبالة باستمرار دون مبالاة بالرائحة الكريهة المنبعثة من على بعد أو التسممات الغذائية التي يصابون بها جراء تناولهم أغذية فاسدة يعثرون عليها وسط القمامة، حيث ذكر لنا أحدهم على إنفراد بعدما استطعنا أن نكسب ودّه "أنهم يقتاتون غير ما مرة من المأكولات التي يصادفونها أثناء تفتيشهم للأكياس، ولا يبالون بتواريخ صلاحيتها أو تعفنها إذ يكتفون بإزالة الأوساخ عنها وأكلها وتكون فرحتهم كبيرة إذا ما عثروا على علب ياغورت أو شكولاطة أو جبن.."، وقد أصيب أحدهم بآلام حادة في بطنه بعدما تناول قطعا من الشكولاطة دون أن يتصل بالطبيب وإكتفى بتناول بعض الأعشاب المداوية، غير أن حبات من الحلويات الفاسدة كانت كفيلة بإدخال طفل آخر يبلغ من العمر 13 سنة يسمى "جيلالي" إلى مستشفى "أحمد فرانسيس" بوادي ارهيو مدة 20 يوما، في حين كشفت لنا مصادر طبية ان عدد الحالات المستقبلة من نفس الدوار مصابون بتسممات غذائية، وأمراض صدرية بالدرجة الأولى، ويرجح الإصابة بمرض الربو لدى جميع الساكنين بالقرب من مكان الزبالة إلى الدخان الناجم عن حرقها والذي يؤدي إلى ضيق في التنفس بشكل مرعب لدى الكبار والصغار خصوصا مع إرتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف، إذ يعمد الاطفال إلى حرق أكوام القاذورات بعد الإنتهاء من تفتيشها وأحيانا يفعل ذلك عمال البلدية للتقليل من حجمها وانتشارها، فضلا عن الإنتشار الفظيع للحشرات والبعوض الذي أصبح مقلقا تبعا للتفريغ الذي باشرته البلدية بالقرب من "الدوار"، وقد استدعت إحدى مخلفات ذلك إجراء عملية جراحية لطفل عمره 11 سنة يسمى "أحمد" بعد ان دخلت بعوضة بداخل عينه. وفي فصل الشتاء تكتسح الأكياس البلاستيكية البيوت القصديرية بفعل الرياح.
أثناء استطلاعنا للمكان لفت إنتباهنا قطيع من الأغنام وبقرات عجاف يرعون بنفس القاذورات حيث تتجمع طيور النورس المسترزقة هي كذلك، وحين استفسارنا عن ذلك قيل لنا أن هذا الأمر معتاد بصفة يومية حيث أن فقر المنطقة بالنباتات والأعشاب خاصة مع حلول موسم الصيف يجعل الرعاة يفضلون الرعي بالمزبلة على التنقل لمسافات بعيدة بحثا عن الكلأ، وقد بدت لنا شاة منعزلة عن القطيع يظهر أنها مصابة بمرض ما.
قد لا يقدر الرعاة خطورة ذلك كونهم يضربون عصفورين بحجر واحد، الرعي بأغناهم والظفر بغنائم من القمامة، لكن مصير هاته الأغنام يكون حتما بيعها بالسوق الأسبوعية، لتذبح وتستهلك، ولا يستبعد أن تكون مصابة بأمراض تنتقل إلى مستهلكها، خصوصا إذا علمنا أن أصحابها يذبحونها في الأعياد والمناسبات من دون اللجوء إلى طبيب بيطري.
يجمعون "النوخة، الزعتر، الدوم" وكل ما يباع
بعد ساعات قلائل ضاق صدرنا بالرائحة الكريهة وسط الدخان وارتفاع درجات الحرارة وقبل أن نقرر العودة أدراجنا شاهدنا بالجهة المقابلة ثلاثة أطفال مطأطئين وكأنهم يجمعون شيئا ما، فاقتربنا منهم حتى نستطلع الأمر، وبدا أن سن أكبرهم 7 سنوات، يسمى "محمد" وأما الإثنان المتبقيان فهما "خالدية" 5 سنوات و"يوسف" 3 سنوات، حاولوا الفرار منّا بمجرد أن دنونا منهم، ولولا أننا كنا نحمل حبات من الحلوى أكسبتهم الثقة بنا لقدم أوليائهم الذين كانوا يراقبونهم من بعيد بمجرد صرخة واحدة من أصغرهم، وقد لاحظنا أنهم يجمعون نوعا من النبات يسمى "النوخة" ويضعونها في قفة صغيرة، وحين سألناهم عن ذلك قال لنا "محمد" أنهم بعدما يجمعون أكياسا كبيرة منها يقومون بتربيطها والتجوال بها لدى سكان المدينة، يطرقون الأبواب لبيعها مقابل 10 دج للربطة الواحدة، ويستعمل هذا النوع من النبات كأعشاب طبية تحضر وتشرب كالشاي، مضيفا أنه بمجرد ظهور نبات "النوخة" بالمنطقة يهرعون لجمعه وتخزينه، ويقومون بذلك في الفترة المسائية بعد إنتهاء دوام الدراسة، بينما يتفرغون لذلك بمجرد حلول العطلة الصيفية، وعن سؤالنا عما يفعلون بالأموال التي يحصلون عليها، ذكر لنا "محمد" بكل عفوية ان "مدخوله يصل إلى 150 دج في اليوم الواحد يدخرها ليشتري خروفا يرعى به"، وهكذا حتى يكون قطيعا بحاله، ولم تأتي مستلزمات الدراسة على لسانه لامبالاة منه رغم أنه يدرس بالسنة الثانية، وكان كل تفكيره محصورا في كيفية جمع المال وإعالة عائلته الفقيرة، المتكونة من 5 أفراد.
"محمد" لم يكن كبير إخوته وإنما تعلم هو أن يجمع "النوخة" ويبيعها، في حين يختص أخ له يدعى "كمال" بجمع نبات آخر مشابه يعرف في المنطقة ب "الزعتر" الذي يباع هو الآخر مقابل 10 دج للربطة الواحدة، ويكونون بذلك قد ساهموا في مصروف البيت على حساب حاجياتهم الخاصة، وبدا ذلك ظاهرا من خلال نعال ممزقة يرتدونها غير مبالين بخطر العقارب والأفاعي التي تنتشر بالمكان ولا زجاج القمامة المبعثر هنا وهناك، تلفح وجوههم أشعة الشمس لتحول ملامح البراءة بوجوههم إلى أخرى موسومة بالبؤس والشقاء والغبن، دون أن تكون ثيابهم المرقعة والمتسخة قادرة على حماية أجسادهم اللينة.
ويبدو أنها ليست أعمالهم الوحيدة في فصل الصيف، حيث يقطع آخرون مسافات أطول نحو جبال ومرتفعات خطيرة بعلوها وبالحيوانات الشرسة المتواجدة بها كالذئاب من جانب وبالجماعات الإرهابية التي كانت إلى زمن غير بعيد تتخذ كهوفا لها بالمنطقة كمخابئ وأوكار من جانب آخر، وذلك من أجل الحصول على نباتات تعرف باسم "الدوم" شبيهة بأغصان النخلة، تستعملها أمهاتهم في صناعة كناسات تقليدية يحبذها سكان المدينة، إذ أنهم يتجولون بها على ظهورهم رغم ثقلها لبيعها بأسعار تترواح بين 20 و30 دج للمكنسة، وبما أن نزعها يحتاج إلى قوة رجل وضربة حادة بمنجل، تراهم مدججين بالمناجل رغم ان ذلك يمثل خطورة عليهم نظرا لصغر سنهم وسوء استعمالهم لآلة حادة مثل هذه، لكنهم يستأنسون غالبا بمجموعة من العجائز والشيوخ يتناثرون حيثما وجد نبات "الدوم" لنفس الغرض، ليعود الجميع آخر النهار محملين بحزم كبيرة على ظهورهم تكفي لصنع 20 مكنسة.
ونظرا لإرتفاع درجة الحرارة وبعد المسافة يستعين أطفال "دوار الشارة" رفقة آخرين من دواوير مجاورة على الجوع والعطش بزاد قليل يأخذونه معهم في الصباح الباكر لا يتجاوز حبة طماطم وحبة بطاطا مغلية وقارورة من الماء مجلدة حتى تحافظ على نسبة من البرودة، وغالبا ما يلجأون إلى بركة من المياه المتجمعة بواد يقصده الجميع بغرض السباحة والتخلص من حرارة الجو، رغم أن هذا الماء راكد منذ آخر قطرات الشتاء، غير مبالين بعواقب ذلك على صحتهم، بل تشاركهم في بعض الأحيان أغنامهم وكلابهم السباحة في نفس البركة !!.
من دون أي إعتبار لأي خطر يسعى أطفال الدوار طيلة أيام السنة وراء كل شيء قد يدر مالا، حيث ذكر لنا من إلتقيناهم أنهم يلاحقون أسراب النحل ويبحثون عن أعشاشها وسط الكهوف وبجوانب الجبال ليقوموا بأخذها إلى بيوتهم، إضافة إلى ذلك يطاردون الأرانب البرية التي تشكل وجبة لذيذة لعائلاتهم وكذا الطيور القوارض وعلى رأسها طير يعرف ب"الساف" يصل ثمنه إلى 2000 دج، ولا يزال محدثونا يتذكرون حادثة سقوط شاب في العشرين من العمر في السنوات الأخيرة من حافة جبل يتجاوز إرتفاعه 1000 متر يعرف ب "كاف العبادية" المطل على سد "قرقار"، حيث تمزقت حلقة سرواله بينما كان يحاول الهبوط بحبل ربطه بها من أجل الحصول على صغير طير "الساف" الذي كان عشه متواجدا بغرفة من الجبل، إذ توفي على الفور بعدما تمزقت أضلعه و تهشم رأسه، كما لا تكفي الأيام لتنسيهم حادثة صعق كهربائي تعرضت له طفلة كانت ترعى الأغنام بجانب عمود كهربائي ذي الضغط العالي بعدما لمست سلكا كان متدليا من أعلاه، تحول جسمها إلى رماد على الفور، ولا تزال هذه الحوادث تتكرر غير ما مرة وتعصف بقلوب أولياء هؤلاء البؤساء الذين يحدقون آخر المساء وتطول أنظارهم مترقبين رجوع أولادهم سالمين في كل يوم.
ولأنهم أطفال ويحبون اللعب والتسلية ذكروا لنا أنهم يتسلقون الأعمدة الكهربائية عندا بينهم حول من بإمكانه فعل ذلك أو يتراشقون بالحجارة من بعيد، وينظمون مباريات كرة قدم كذلك بقمة الجبل..، مخاطر لا تخطر على بال هي تلك التي تتربص بحياتهم اليومية في كل حين، بينما يتجه آخرون لجمع الأحجار الكبيرة ووضعها في شكل أكوام قريبة من آخر الطريق إلى الجبل ليقوموا ببيعها لأصحاب الجرارات مقابل 1200 دج للشحنة حسب ما صرح لنا أحدهم بغرض استخدامها في البناء، ويكلفهم ذلك بذل جهد غير يسير في استخراجها ونقلها كذلك. مصادر الرزق لدى هؤلاء لا تنتهي وترتبط بالمواسم كذلك، حيث يفضل البعض الإتجاه نحو حقول البطاطا،إذ بعد الإنتهاء من جنيها يسمح لهم صاحب الحقل بالتنقيب عن حبات البطاطا التي تجاوزها العمال، فيتمكنون طيلة النهار من جمع كيس كبير يبيعونها ب 40 دج للكيلوغرام باعتبار ردائتها، وبين حقول البطاطا والبطيخ تنقضي العطلة الصيفية لأطفال دوار "الشارة"، حتى إذا ما حل الدخول المدرسي تعجز ألسنتهم عن الكلام أمام تباهي زملائهم بالأماكن التي زاروها والشواطئ التي خيموا بها، أو يضطرون إلى الكذب والتستر خلف اللون البرونزي الذي لون أجسادهم بجبال الرعي، الدوم والزبالة...
مبعوث الشروق اليومي إلى "وادي ارهيو" غليزان : صالح فلاق شبرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.