ورث الاستشراق الأمريكيّ عن نظيره الأوروبيّ، المتقدم عليه زمناً،جُلَّ أدبياته وتراثه من تصورات و مفاهيم وأحكام إزاءالحضارةالعربيةالإسلاميةوماعرف في تلك الأدبيات (بالشرقالعربيالإسلاميّ)،وسأعمد في هذه الدراسة المقتضبة التعريف بإحدى أهم مدارس الاستشراق، وهي المدرسة الأمريكية التي اكتسبت في أيامنا هذهأهمية بالغة، وتميزت بالكتابات المنفتحة واعتمادها علىالدراسات السيكولوجية المعاصرة تجاه الشعوب الأخرى؛ بخاصة العالمين العربي والإسلامي،والإشكالية التي تطرح نفسها هنا: كيف نقرأالاستشراق الأمريكي؟ وأين نكتشف فيه ثنائيةالذات والآخر؟ يعرف إدوارد سعيد الاستشراق بأنه مفهوم الهيمنة الذكورية على المجتمعات الأنثوية على أساس التباين العرقي والثقافي والجغرافي، فهي إيديولوجيا أخرى، فالشرقي الأنثوي شكلَ أساس الثقافة الغربية الحديثة (1)،أما الاستشراق الأمريكي فهو امتداد للأوروبي ووارثمجمل تصوراته المسبقة عن العالم العربي والإسلامي، وقد ظهرت جذور الاستشراقالأمريكي في القرن التاسع عشر بنشاط البعثات التبشيرية التي اهتمت بدراسة اللغة العربية،والتي كان بدايتُها أول بعثةٍ وصلتْ لبنان عام 1830م، وأُنشِئتْ أول مدرسةٍلتعليم البنات داخل الإمبراطورية العثمانية،وتطوَّرت للكلية السورية الإنجيلية 1866م،واتخذتْمنبيروتمقرًّالها،ثماتسعتوأطلقعليهااسم "الجامعةالأمريكية"،التيلاتزالموجودةإلىيومناهذا. إلا أن الاستشراق الأمريكي بدأ عملياً بعد الحرب العالمية الثانية حينما أخلت بريطانيا مواقع نفوذها لأمريكا وأصدرت الحكومة الأمريكية مرسوماً سنة 1952م خصصت بموجبه مبالغ كبيرة؛ لتشجيع الجامعات على افتتاح أقسام للدراسات العربية والإسلامية،وأصبحت هذه المراكز عصب السياسة الأمريكية. وظفت الولاياتالمتحدةالأمريكيةالاستشراقفيما أسمته سياسة دراسة المناطق والعلاقات الثقافية؛وذلك لفرض الهيمنة،فاستقدمت كثيراًمن الطاقاتالمعرفية كالإنكليزي (هاملتون جب) الذي جاءت به جامعة هارفرد؛ ليؤسس قسم دراسات الشرق الأوسط،وكما استعان الكونجرس الأمريكي بخبرات الباحثين العرب مثل (فيليب حتي) الذي أسس في عهد الرئيس ويلسون قسم دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون، واهتمَّ أقطاب الاستشراق الأمريكي بدراسة الحركات الأصولية الإسلامية،وأصدرت العديد من الصحف آراء حول واقع العرب والمسلمين، مثل مجلة المختار التي ركزت على انتقاد الإسلام وتشريعاته بما يخصّ المرأة. ولعبالاستشراق الإعلامي الأمريكي دوراً أخطرمن الاستشراق الأكاديمي بالرغم من أن المادة الأكاديمية تصل مراكز القرار السياسي في واشنطن وتكون أكثر نفوذاً، إلا أن الإعلام له الأثر المهم في مختلف الفئات والنخب الاجتماعية والسياسية، وقد صورت كثير من وسائل الإعلام الأمريكي الإنسانالعربي والمسلم – كما ينقل إدوارد سعيد حرفياً – بأنه سادي وخؤون وتاجررقيق وراكب جمال، وذلككون أنموذجاً للطريقة المطلوبة في التعامل مع حالة تحتل أولوية خاضعة بكل تأكيد للمعايير السياسية والإمبريالية، وقد قدم الاستشراق الأمريكي وجهاً جديداً من سياسة الاستعلاء وتنميط البشرية باتجاه الرجل الأبيض، ولم تستطع مؤسساته الاستبراء من المنظومة الرسمية ومطامعها التوسعية في دعم الصهيونية والهيمنة على الثروة النفطية في المشرق العربي،وظهرت تلك الصورةالنمطية للولايات المتحدةالأمريكية بجميع صورها العلمية والسياسية والاقتصادية في ذهن العرب والمسلمين اليوم. إن ما نشهده اليوم في سياق الحرب الأمريكية على الإرهاب، قائم في الأصل على وهمٍ إمبراطوري أنتج معرفة معدة للاستعمال بمقدار مغامرة عسكرية في بلد عربي أو إسلامي،فالحقبة الكلاسيكية للاستشراق الغربي – وخاصة الأوروبي – اعتمدت على نمطٍ واحدٍمن إنتاج المعرفة، أما في ظل الحكم الإمبراطوري الأمريكي باتت تنتج شيئاً مختلفاً، بحيث وجدت في ذروة مخاوف ما بعد الحادي عشر من أيلول 2001م كثيراً من الزبائن المتقبلين لها. يُقرُّ تييريهنتشفيكتابه(الشرقالمتخيل) أنَّ الشرق كامن في رؤوسنا نحن الغربيين، وهو روحٌ كونية وجاذبٌ سحري لفضاءنا الداخلي ومسافة نبتعد فيها عن حداثتنا الخرقاء، وهو الذي اعتبر أن الغرب شوَّه بالفعل حقائق كثيرة من خلال الاستشراق، وسكت بشكل نسقي عن كل العطاءات العلمية التي قدمها العرب والمسلمون. أمام هذا الواقع الذي تتصاعد فيه حدة المواجهة بين شرق وغرب، بين نحن والآخر، لابدَّ من عملية تصفية ذاتية بعيدة عن النزعة المحلية العاطفية التي تعززها الإيديولوجيا، والذي أوقعنا في وحله طويلاً وعلينا أن نواجهه هو غياب البعد التحرري، وأن نحول التاريخية الاختزالية إلى مساع معرفية مختلفة، وألا نستند إلى جغرافية واقعة في مركز هو ضعيف بالأصل، وتلك التجربة العسيرة ستسهم في تجنب عتبة التشظي، وتفرض وعياً منهجياً يسهم في بناء نقد منطقي للاستشراق، وفي إدراك الآخر والذي هو مرآة ذواتنا، ولعل التوجه لذاك الآخر هو من مبدأ التعارف الإنساني، وعندما يتقدم الانفتاح على الاختلاف، والتكامل على التنافر، والتحالف على الصدام، يسهم في إذابة ما أمكن من جليد الحياة الذي تصلب بفعل الآخر وضعف الذات. ثورات الربيع العربي جاءت أجمل إهداء لإدوار سعيد بعد مرور سبع سنوات على رحيله (سبتمبر 2003)،وشكل الربيع لحظة تاريخية دقيقة نتذكرفيها ذلك الرجل ودفاعه المستميت عن المشرق، فتلك الثورات قلبت المفاهيم الغربية، وأظهرت الشعوب العربية قادرة بذاتها على محاورة الآخر؛ إنها كسرت الشعوب عامل الجمود في تاريخ الشرق بالانتفاض على سياسات الأنظمة الدكتاتورية، فكانت ردّ فعل على التحريف والتشهير الذي أصاب أمتنا لعقود طويلة. ومهما يكن، فإن الاستشراقكظاهرة معرفية هوعمل غربي خلق صورةاختزالية للمشرق العربي والإسلامي،وترك جذوراً متراكمة ثقافياً، اعتمدت عليها معظم المؤسسات التي غذت العقل الغربي عن الشرق،حيث استطاعت وسائل الإعلام الأمريكيةأن تلعب دوراً كبيراً في توجيهالفئات الشعبية والنخب في الغرب،وربما كان إدراك الآخر سبباً جوهرياً في نهضة الشعوب بثوراتها، وليتبين أنَّ الأمر ليس عداء بين الشرق والغرب بقدرما هو غياب للوعي الثقافي وأجواء الحوار النقدي المتبادل والمستند إلى درجة عالية من الشفافية لدى الساسة الفاعلين في ذلك المعترك الحضاري (الذات والآخر) .