أحمد دلباني تعتمدُ العلاقة مع الآخر المُختلِف دائما على الصورة المُشكلة عنه، وهذه الصورة بدورها لا تكون، في غالب الأحيان، إلا نتاجا لمخيال أو إدراك تصنعه عوامل وعناصر كثيرة شكلت رواسب لتجارب تاريخية مختلفة وعلاقاتٍ جسَّدتها لقاءاتٌ اعتمدت، أساسا، على الحروب والفتوح، من هنا كان الآخرُ صنيعَ الذات من حيثُ هو طرفها المقابل الذي يرسمُ حدودَ التمايز والتفاضل بينهما، هذا ما يجعل من أطر إدراك الآخر خلفية مرجعية يتم، انطلاقا منها، النظرُ إلى المختلف استنادًا إلى مُسبَّقاتٍ لاهوتية وعرقية توفرها الثقافة وتدعمها التجربة والخبرات التاريخية. ربما نجدُ أنفسنا، هنا، في غير ما حاجةٍ إلى التمثيل على هذا الانطباع العام، فالتاريخ يعج بصنوف الصِّراع على احتكار المعنى وتبرير مشروعية العمل التاريخي الذي تمثله كل ثقافة، كما يعرضُ لنا بانوراما من الصور المُنتَجة عن الآخر المُختلف في أشكال متنوعة من التمثل تبدأ بالانطباع لتنتهي بسردياتٍ عالمةٍ تضعُ الآخرَ في هامش مركز تحتله الذات كما هو معروف. إنَّ أطر إدراك الآخر، بالتالي، ورغم كونها نتاجا لتاريخ علاقة ملتبسة به إلا أنها عادة ما تتميَّز بنوع من الرسوخ في الذاكرة الفردية والجماعية يصعبُ معها زحزحتها إلى فضاءٍ جديد من الاعتبار وإعادة النظر، هذا ما يَكشفُ عنه رواج الصور النمطية عن الآخر وسهولة الاستثمار فيها في عهود الصِّراع والتوتر بين الكيانات الثقافية والحضارية عامة. انطلاقا مما أتينا على ذكره نستطيعُ أن نلاحظ أنَّ أبرز ما يسودُ العالم اليوم من صور نمطية تتدخل مباشرة في صنع المصائر التراجيدية هو ما نجده من توتر بين العالمين الغربي والعربي – الإسلامي، هنا تبلغ العلاقة درجة من الصِّراع الذي يستنفرُ الذاكرة ويشحن النفوس والعقول بالتمويه خدمة لاسترتيجيات الهيمنة التي لا تنتهي في منطقتنا العربية، فمن المعروف أنَّ بين العرب والغرب علاقة تاريخية إشكالية وذاكرة مُنقسمة نشك في إمكان ترميمها رغم توفر رأس المال الرمزي والثقافي الواحد لحوض البحر المُتوسط ورغم وجود المصالح المُشتركة التي تنقصها، بالطبع، الإرادة السياسية، وهي تنكفئ على نفسها في شكلها الضيق حبيسة البراغماتية الآنية وإرادات الهيمنة، هذا كله يُسهم بشكل كبير، على ما نعتقدُ، في تأجيج المخيال النمطي عن العربيِّ والمُسلم ويستثمرُ – بنوع من الدهاء – في الأحداث الدموية والعمليات الإرهابية اليائسة كي يُصدِّرَ إعلاميا صورة قاتمة ومُرعبة عن العربي وعن ثقافته التي "لا تعرفُ التسامح وقيم التمدن الحديثة" كما هو شائع حتى بين بعض مُثقفي اليمين الذي يشهدُ ربيعه الانتخابي في ظل أزمات متوالية تكاد تعصف بالقارة العجوز. إنَّ الإعلام المُتسرِّع في الضفة الأخرى من المتوسط يشكل واجهة للعقل الغربي ولذاكرة ألفية لم تتعرَّض للنقد الكافي والزحزحة التي تضعُ بعض المُسلمات الموروثة عن الآخر في دائرة المُراجعة الهادئة بعيدًا عن الهياج الذي تصنعه المرحلة بصراعها وعنفها، ونعتقدُ أنَّ هذا الأمرَ لا يمثل إلا استقالة للعقل في الغرب الأوروبي وقد أصبح مُنشغلا أكثر بهويته المُهدَّدة وقضية الحدود الثقافية والحضارية المُنبثقة على أنقاض خطاب الكونية ومزاعم "الأنوار". إنَّ أطر إدراك الآخر في الغرب، بالتالي، لا تزال حبيسة النمطية التي تجعل من العربيِّ فزاعة تستنفرُ الطاقات العامة وذاكرة الصِّراع التاريخية من أجل رسم السياسات والإسترتيجيات التي بإمكانها تأبيدُ الحضور الغربي في منطقتنا سياسيا وعسكريا واقتصاديا من أجل بسط اليد على مصادر الطاقة وضمان أمن الدولة العبرية. هذا يرجعُ إلى الميديا لا باعتبارها وسيلة إعلامية فحسب وإنما – قبل ذلك – بوصفها سلطة ومُختبرا لإنتاج الرأي العام والتوجهات الكبرى التي تصنع السياسة المُبتغاة من قبل المؤسسة السياسية والاقتصادية. من هنا كان الفكرُ النقدي يذهبُ دائما إلى القول أنَّ إرادة الهيمنة هي صاحبة الكلمة الأخيرة في أيِّ صراع تدخل فيه مع إرادة المعرفة، ونستطيعُ أن نقول إنَّ الميديا خطابٌ مُهيمن ويتمتعُ بقدرة هائلة على تصدير العالم بعد إعادة تشكيله وتنميطه بما يخدمُ إرادة الهيمنة. "إنَّ سيِّدَ الخطاب هو السيد بكل بساطة"، كما يقول تودوروف بحق، والذي يملك الميديا اليوم يكون قد ربح نصف المعركة بكل تأكيد. كأنَّ الميديا، بهذا المعنى، مُؤسَّسة معنية بهزيمة العقل النقديِّ الباحث أبديا عن معرفة صحيحة وموضوعية وراء صخب الخطابات وما تتأسَّسُ عليه من دوافع لاواعية تتقنعُ، عادة، بإرادة المعرفة، هكذا رأينا صورة العربيِّ لا تتزحزحُ أبدا عن تلك الكليشيهات الموروثة عن الرؤية الاستعمارية والمعرفة الأثنوغرافية التي قدَّمته في صورة المُتوحش الدمويِّ الذي يُعادي الحضارة والغرب والحامل لثقافةٍ تُبرِّرُ العنف ضد الآخر المُختلف، هذه هي الصورة النمطية التي تعرفُ، أحيانا، حضور بعض الروتوشات الجديدة المطلوبة لمقتضى الحال والأوضاع بالطبع. إنَّ الميديا، هنا، وهي تزوِّدُ إرادة الهيمنة بمُبرِّرات السيطرة على منطقتنا العربية من خلال تنميط صورة العربيِّ تدخل في صدام مُباشر مع العقل النقديِّ الذي لا يقفُ عند الأحداث المعزولة ليُصدرَ – بصورةٍ مُتسرعة – حكما على العربي والمسلم بإعدامه معنويا وأخلاقيا. لا يتوقفُ العقل النقديّ عن نثر الشوك، نظير بروميثيوس، على سرير آلهة الأمبراطورية باحتجاجاته وأسئلته وتنقيباته الكاشفة عن المُغيَّب والمستور في علاقة الذات الإشكالية بالآخر. إنَّ الميديا بهذا المعنى، على ما يرى البروفيسور محمد أركون، تمثل ذلك "العقل التلفزي – التكنولوجي" الاستهلاكي المُعبِّر عن إرادة الهيمنة خلافا ل "العقل الاستطلاعي العولمي" الباحث عن ترميم الجسور بين الذات والآخر من خلال تجاوز "جدار برلين الإيديولوجي" بين الأنظمة الثقافية المختلفة منذ أن حصَّنت نفسها ضدَّ الآخر لاهوتيا وإيديولوجيا وعنصريا من خلال تاريخ الصِّراع على احتكار المعنى في حوض البحر المُتوسط. هذه المهمَّة النقدية الاحتجاجية العظيمة تبقى ملقاة على عاتق المُثقفين والمُجتمعات الأهلية والمُنظمات المناهضة لكافة أشكال العنصرية في المجتمع الليبرالي المُتهالك بأزماته الكثيرة على أعتاب العولمة المُتعثرة. هذا ما يكشفُ عن فشل النزعة الإنسانية الكونية التي كانت في أساس مشروع التنوير والحداثة، فمن المعروف أنَّ الأزمنة الحديثة كلها دشنت عهدًا جديدا احتل معه الأنتروبوس مركز دائرة الفعل والمعرفة بمعزل عن المرجعيات القديمة المُفارقة للتاريخ والإرادة الإنسانية. كان ميلادُ الإنسان عسيرًا من شرانق الماضي وكان نضاله كبيرًا على درب رأب الصَّدع التاريخي بين الثقافات ولملمة أوصال البشرية من خلال وحدة الحلم بالتقدم والازدهار والانعتاق من الاستلاب التاريخي – الذي طال – بحثا عن عالم إنسانيِّ الوجه، لكنَّ هذا الأمر أصبح يبدو، شيئا فشيئا، مُغرقا في رومانطيقيته منذ أن حادت "الأنوار" عن مشروعها التحريري بالاستعمار ومنذ أن كشفت الحداثة عن مركزيتها الغربية. ونستطيعُ أن نلاحظ، بهذا الصَّدد، كيف أنَّ النظرة إلى الآخر لم تتغيَّر في العمق وظلت تنهل من المخيال الذي رسَّخته الحقبة الكولونيالية بمُسبَّقاتها العنصرية المعروفة، وهي ترمي بشعوب جنوب المتوسِّط والشرق الأوسط في خانة "البرابرة" و "شعوب العالم الرَّاكد"، أليس هذا ما يطفرُ، اليوم، من خطابات الإعلام الغربيِّ ومن مواقف وتصريحات بعض المُثقفين الذين استرجعهم اليمين الثقافي والسياسي المُحافظ بقوة لأنهم – بكل بساطةٍ – لم يبذلوا مجهودًا كافيا في محاولة الفهم التاريخي لتأخر العرب والمسلمين الحضاري أو لردود أفعالهم إزاء عالم لا يفعل شيئا من أجل احترامهم أو مُساعدتهم على إنتاجهم لتاريخهم الخاص دون تدخل أجنبي؟ أتذكر، هنا، الإشارة الذكية التي أوردها البروفيسور إدوارد سعيد في مقدمة كتابه الأشهر "الاستشراق" وهو يُنقبُ أركيولوجيا عن تلك الصورة النمطية عن الشرق والتي لا تزال تتناسل حتى لحظة الإسلاموفوبيا الحالية، لقد أشار سعيد إلى علاقة الكاتب الفرنسي، غوستاف فلوبير، بالغانية المصرية، كشك هانم، باعتبارها علاقة نموذجية بين الغرب والشرق ظل فيها الغربُ التاريخيّ سيِّدًا يبسط سيطرته على الشرق وينتجُ عنه خطابات الهيمنة، فالغربُ هو المتكلم والشرق عالم خاضعٌ صامت. فلوبير، هنا، رجل غربي بورجوازي مُثقف يحترفُ الكتابة ويتحدثُ – في رحلته الشهيرة إلى الشرق – عن كشك هانم ويُنتجُ عنها صورة تعكسُ رؤيته للآخر المُختلف باعتباره ظلا أو عالما عجائبيا أو إمكان غزو وسيطرة، أما كشك هانم، فهي امرأة شرقية لا تتكلم ولا تُنتجُ خطابا عن نفسها أو عن الآخر، وهي تمثل الخضوع ومرتع شهوات هذا الرجل الغربي، فهل تغيَّرت الأوضاع نحو الأفضل أو نحو نوع من الندية المنشودة بين الشرق والغرب؟، هل خرجنا من طور الخرس الذي مثلته كشك هانم لنُنتجَ خطابنا المضاد لخطاب الهيمنة الذي يتفننُ في تنميطنا وتبرير إخضاعنا خدمة لأطماعه التي لا تنتهي؟. يبدو أنَّ العقل الغربيَّ في صورته "التلفزية – التكنولوجية – الإعلامية" لم يحِد قيد أنملةٍ عن هذه الاعتبارات وعن ذاكرته الاستعمارية وهو يتحدثُ عن العربي والمُسلم اليوم. والملاحظ أنَّ الفكرَ النقديَّ الذي تُنتجه الهوامش الطليعية على درب كسر أمبريالية العقل الأوروبي المركزي لم يُسهم فيه العربُ كثيرًا إلا من خلال شخص المفكر الكبير إدوارد سعيد الذي فكر من داخل ثقافة الغرب الأمبراطوري التاريخية في لحظةٍ من أكثر لحظاتها مجابهة لأزمة تفكك المركزية وبروز المُختلف بعد انحسار الاستعمار التقليدي، هذا ما يدفعُ بنا إلى القول إننا نُسهمُ بقدر كبير في ترسيخ وتأبيد تلك الصورة النمطية الكاريكاتورية عن العربيِّ والمسلم باعتباره شخصا عنيفا ودمويا – يحمل في ذاته بنية ثقافية مناهضة لحضارة العقل والحرية – وهذا من خلال عطالتنا الفكرية وعدم اشتغال الذات العربية على نفسها نقدًا وتفكيكا من أجل الانسلاخ من ثقافة تقليدية تصلبت شرايينها وأصبحت عنوانا للاستبداد الثقافي والسياسي وللانغلاق أمام العصر وقيمه الأكثر إيجابية. إنَّ الغرب الرَّسمي – بوصفه مُؤسَّسة سياسية واقتصادية وعسكرية – لا يعرفُ إلا الاستثمار في كل ما يمنحُ وجوده عندنا ورؤيته لنا مشروعية أخلاقية وسياسية، من هنا أعتقدُ أنَّ كشك هانم تتحمل، اليوم، قسطا من مسؤولية الوضع الذي تعيشه، لا ينفعُ الخرسُ في أزمنة الهيمنة التي تتمرأى فيها السلطة داخل الخطاب، والنفوذ اليوم لمن يملك القدرة على تسمية العالم والأشياء.