عندما نحاول الربط بين الاستشراق والاستعمار لإيجاد علاقة محددة بين الشكلين، فإن هذا يتطلب منا العودة إلى التاريخ، وتصفح مجريات الأحداث منذ عهد البعثة النبوية. وعليه فإن الطرح المناسب لإيجاد العلاقة بينهما يبدأ من التالي: هل كان الاستشراق وليدا للاستعمار؟ أم أن الاستشراق هو من مهد لهذا الاستعمار؟ إن الإجابة على هذا السؤال جعلت المفكرين على ضربين، فمنهم القائل بأن الاستشراق سبق الاستعمار ومنهم من يرى أن الاستعمار هو من أنشأ الاستشراق بهدف ديمومته وإليك بيان المذهبين. المذهب الأول: الاستشراق سبق التنصير وهو القائل بأن الاستشراق سبق الاستعمار من حيث النشأة، وإلى هذا ذهب الأستاذ مالك بن نبي الذي ذكر أن الاستشراق جاء تمهيدا للاستعمار عن طريق مرحلتين: الأولى جاءت من أجل إثراء ثقافة أوروبا، والمرحلة الثانية العصرية من أجل تعديل سياسي لوضع خططها السياسية مطابقة لما تقتضيه الأوضاع في البلاد الإسلامية لتسيطر على الشعوب الخاضعة فيها لسلطانها» ويذهب أنور الجندي موافقا مالكا حيث يجعل الاستشراق في مفهومه خدمة السياسة والاستعمار، ويوافقهما في ذلك محمد البهي الذي جعل الاستشراق صورة من صور حماية الاستعمار، وأنه ما قام إلا لتمكين الإستعمار الغربي في البلاد الإسلامية. كما يذهب بعض المفكرين إلى أسبقية الاستشراق كونة جاء بعد هزيمة أوروبا في الحروب الصليبية. حيث إتجه هؤلاء إلى دراسة البلاد الإسلامية من نواح شتى، فكرية وعقدية واجتماعية وجغرافية وتاريخية حتى، وذلك رغبة منهم في إضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوس المسلمين. المذهب الثاني: الاستشراق وليد الاستعمار وهو القول بأن الاستشراق وليد الاستعمار، وأنه عبارة عن أداة استعمارية لبسط النفوذ والهيمنة. وفي هذا المذهب نجد عرفان عبد الحميد الذي يرى أن "الاستشراق كمنهج عقلي لقاح من أبوين غير شرعيين: التبشير الذي خطط له، والاستعمار الذي غذاه" ويتفق معه "مصطفى الشكعة"، حيث يصف هذان الأبوان التبشير والاستعمار، بأنهما معاديان للإسلام. وبين هذين المذهبين، يبدو أن الرأي القائل بأن الإستشراق جاء تمهيداً للاستعمار هو الرأي الراجح هنا، وبه قال الدكتور علي بن إبراهيم النحلة وذلك من خلال أربعة أوجه. أولاً: على فرط كون الاستشراق نشأ رسمياً عام 1312 بصدور قرار "مجمع فيينا الكنسي" بإنشاء عدد من الكراسي العربية في الجامعات الأوروبية فإن هذا التاريخ نجده قد سبق بدايات الإستعمار الفعلية في أواخر القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر. ثانيا: الإستشراق عالج الفكر الإسلامي من خلال إضعافه للقيم الإسلامية في مقابل تمجيده للقيم الغربية المسيحية، من خلال التشكيك في التراث ومن قبله التشكيك في القرآن والسنة. ثالثاً: أن المستشرقين كانوا ساعداً قوياً في حركة الاستعمار. عندما استخدمتهم الحكومات المستعمرة كمستشارين لها في وزارات الاستعمار ووزارات الخارجية. رابعاً: والسبب الرابع في أن الاستشراق جاء تمهيداً للإستعمار أن الاستشراق استخدم من قبل المستعمرين في التبرير للسيادة الاستعمارية قبل حدوث الاستعمار على الشرق. وليس قبل حدوث السيطرة الاستعمارية. فقد كان التراث الإستشراقي بمثابة دليل للاستعمار في شعاب الشرق وأوديته من أجل فرض السيطرة على الشرق وإخضاع شعوبه وإذلالها. قلت: ولا يزال هذا لدليل قائما إلى اليوم مع انقشاع سحابة الاستعمار الحسي عن طريق بقاء أصناف أخرى من الإستعمار، حيث لايزال الرؤساء من هذه الدول المسيطرة ومن خلال وزاراتهم المعنية كالخارجية والحربية تستعين بلجان خاصة من هؤلاء، المستشرقين في تبريز المواقف المعادية المنطقة الشرق الأوسط ولاتزال هذه اللجان ترصد حركات وتحركات المسلحين في شتى الجوانب الحياتية وتكتب عنها التقارير التي ترسل إلى الوزراء والرؤساء من خلال قراراتهم كما كان "إيدن" من قبل. والخلاصة من كل ذلك أنه كانت رابطة قوية بين الاستشراق والاستعمار وأن الاستعمار قد استفاد فأفاد كثيراً من الاستشراق، كما أن الاستشراق قد استفاد فأفاد من الاستعمار، وأن هذه الرابطة قد أخذت ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن الاستشراق عمل على تمهيد الطريق أمام الإستعمار الوجه الثاني: أن الاستشراق كان وليد الاستعمار والتنصير الوجه الثالث: أن الاستشراق قد زامن الاستعمار وعمل معه جنباً إلى جنب.