بقلم: د. أحمد يوسف: المستشار السياسي لرئيس الوزراء إسماعيل هنية (*) هذه الدعوات والتقارير المتكررة حول خطأ حصار حماس (الحركة والحكومة) وتجاهل التعامل والتواصل معها بعد فوزها الكبير في انتخابات يناير 2006 وتكليف إسماعيل هنية بتشكيل الحكومة العاشرة، ثم حكومة الوحدة الوطنية الحادية عشرة تكشف عن طبيعة الضغوط التي تمارسها الإدارة الأمريكية على دول العالم لإبقاء الحصار على الشعب الفلسطيني بهدف تركيعه ودفعه للرضوخ للشروط الإسرائيلية التي تم تسويقها عبر اللجنة الرباعية لإعطاء عملية المقاطعة والعزل السياسي للحكومة التي تقودها حركة حماس غطاءً أمميًا، تظهر فيه حماس وكأنها تعمل خارج الشرعية الدولية، وبالتالي القضاء على فرصة قيادتها للشعب الفلسطيني، من خلال إغراقها في دوامة الأزمات الداخلية التي كانت تجسدها حالة الفلتان الأمني وفوضى السلاح، وارتفاع نسبة البطالة التي تجاوزت 60%، وانتشار أوكار المخدرات والانحراف الأخلاقي، إضافة إلى استشراء ظواهر الفساد ومافيا مراكز القوى الأمنية والعملاء. كانت الإدارة الأمريكية تراهن على سقوط حكومة حماس في غضون الشهور الثلاثة الأولى، وأوعزت لعناصرها المتغلغلة داخل أجهزة السلطة بالتحرك للقيام بانقلاب صامت يطيح بحكومة هنية، ويعيد حركة فتح للامساك بمقاليد السلطة من جديد.. بدأت هذه الجهات في التحرك عبر محاور عدة لتطويق أية نجاحات يمكن لحكومة حماس أن تقدمها، وفعلا كانت الحكومة تجد نفسها مكبلة الأيدي والأرجل، حيث التآمر الغربي، والتواطؤ الإقليمي، والمناكفات والتحريض الداخلي، وفوق هذا وذاك العدوان الإسرائيلي والاجتياحات العسكرية المتكررة لمناطق الضفة والقطاع. حاولت حماس (الحكومة والحركة) عبر سلسلة من اللقاءات السياسية والاجتماعات الأمنية برعاية الوفد الأمني المصري حينًا ولجنة المتابعة الوطنية والإسلامية حينًا آخر التوصل لمخرج من حالة الاحتقان والتصعيد السياسي والعسكري التي أخذت تنحو منحًا يقفز فوق مقولة " الدم الفلسطيني خطٌ أحمر"، ولكن جهودها باءت بالفشل لأن هناك من يغذي هذه الخلافات بالإحن والأحقاد، ويصب زيت الفتنة على نار التوجس والتربص الذي سيطر على ذهنية الجميع، وجعل الأيدي القابضة على الزناد متوترة طوال الوقت، تستسهل إطلاق القذائف والرصاص، واستيعاب مشهد الدم والضحية. صحيحٌ أن هناك شريحة واسعة من حركة فتح لم يرق لها رؤية حماس تفوز بهذه النسبة العالية والتي تجاوزت ال67%، وكان لها دور سلبي بعد تشكيل الحكومة العاشرة والحادية عشرة، ولكن أيضًا كان هناك من يري أنه لابد من التسليم بالنتائج وإعطاء حكومة حماس فرصتها، حتى تتعزز الديمقراطية الفلسطينية وتتقارب الجهود من أجل تقوية المشروع الوطني وتأكيد وحدتنا الداخلية، بالشكل الذي يجعل الكل الوطني قادرًا على مواجهة المخططات الإسرائيلية، والارتفاع بسقف مطالبنا السياسية عاليًا بدل حالة الانهيارات "القصعيّة" والمتلاحقة التي أصابت جذور مشروعنا الوطني وثوابته. اليوم هناك دعوات وتحركات تهدف إلى تحرير حماس (الحركة والحكومة) من حالة الحصار والعزلة السياسية باعتبار أنها شريك سياسي لا يمكن تجاهله أو تجاوزه، وإن أي حراك سياسي باتجاه التسوية السلمية للصراع لا يمكن أن يتقدم شبرًا واحدًا دون موافقة حماس ورضاها، وهذا ما فطنت له مؤسسات دولية وجهات غربية رسمية وشبه رسمية حين أطلقت نداءاتها بضرورة التواصل والانفتاح والتعاطي مع حماس.. لاشك بأن هذه التصريحات والدعوات لم تأت من فراغ، بل سبقتها جهود مكثفة خلف (الكواليس) بعيدًا عن عيون الكاميرا وفي العديد من العواصم العربية والأوروبية كانت تدور فيها الحوارات المطولة للتعرف على فكر حركة حماس ورؤيتها السياسية، وكذلك التعرف على الشخصيات القيادية والأبعاد الإنسانية فيها، بالشكل الذي وفر القناعة لهؤلاء الأوروبيين بأن حماس حركة فعلا يمكن التعامل معها ومع قياداتها (You Can Make Business With Hamas) . ويمكننا الإشارة هنا إلى بعض التقارير والتصريحات التي صدرت خلال الشهور الماضية، والتي توصي المجتمع الدولي وتحثه على ضرورة التواصل مع حماس، وأهمها: 1) طالبت لجنة الشؤون الخارجية بمجلس العموم البريطاني (FAC) يوم 13 أغسطس الماضي ببذل الجهود لتشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية في المناطق المحتلة، معتبرة أن رفض بريطانيا إجراء حوار مع حركة المقاومة الإسلامية ) حماس) غير مثمر ..وقالت اللجنة في تقريرها: إن إتباع "سياسة الضفة الغربية أولا" وتعامل بريطانيا مع الضفة الغربية التي تهيمن عليها حركة فتح التي يتزعمها الرئيس عباس وعزل قطاع غزة الذي تسيطر عليه حماس سيعرض السلام إلى مزيد من الخطر ..وأضافت اللجنة التي تضم نوابا من كافة الأحزاب "في ظل عدم وجود نتائج للمقاطعة فإننا نوصي بضرورة أن تفكر الحكومة بشكل عاجل في سبل للاتصال سياسيًا مع عناصر معتدلة داخل حماس".. وأضافت انه يجب على رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير الاتصال بشكل شخصي مع حماس للمساعدة في تحقيق المصالحة بينها وبين حركة فتح، ضمن دوره الجديد كمبعوث لمجموعة الوساطة الرباعية للسلام في الشرق الأوسط، والتي تضم الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا. وأوصى التقرير البرلماني أيضا بأن تحث بريطانيا الرئيس عباس الذي يلقى تأييدا من الغرب على إجراء مفاوضات مع حماس لإعادة تشكيل " حكومة وحدة وطنية في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة" ، وقالت اللجنة: إن بريطانيا أخطأت في فرض حظر على حماس حتى بعد أن وافقت الحركة في فبراير الماضي على تشكيل حكومة وحدة مع فتح، وكانت هذه الموافقة تهدف إلى إنهاء الاقتتال الداخلي وتخفيف العقوبات الاقتصادية الغربية .. وقال التقرير: إن استمرار مقاطعة الحكومة الفلسطينية بسبب وجود حماس فيها كان يعني أن "من المرجح جدًا انهيار" جهود الوحدة. 2) تصريحات رئيس الوزراء الايطالي رومانو برودي يوم 12 أغسطس الماضي من أن "الحاجة تدعو لإجراء حوار مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لمساعدتها على التطور السياسي.. حيث أن حماس اليوم هي أمر واقع.. وذكر برودي أنه حذر أولمرت وعباس من السعي إلى تحقيق السلام مع بعض الفلسطينيين فحسب، وقال: "قلت للزعيمين السياسيين إنه لا يمكن إحلال سلام في ظل انقسام الفلسطينيين وهما يفهمان ذلك. " 3) تقرير مجموعة الأزمات الدولية (ICG) بعنوان: "ما بعد غزة" الصادر في الثاني من أغسطس الماضي، والذي طرح عدة تساؤلات حول إمكانية ضمان الأمن والانتقال إلى تسوية الدولتين مع وجود نظام حكم فلسطيني منقسم سياسيًا وجغرافيًا؟ وكيف يمكن للرئيس عباس أن يعطي أمرًا بوقفٍ لإطلاق النار دون موافقة الإسلاميين وحلفائهم؟ وكيف يمكنه أن يجيز اتفاقية سياسية يتم عقدها مع إسرائيل، والتي من الواجب أن يترتب عليها تقديم تنازلات صعبة وغير مقبولة شعبيًا، إذا شعرت دوائر انتخابية كبرى تابعة لحركة حماس بأنها قد تم استبعادها؟ وكيف يتسنى له أن يتحرك نحو بناء دولة إذا تم إهمال غزة وإسقاطها من ذلك التحرك؟ ويخلص التقرير إلى أن الإجماع الفلسطيني المستقر والسعي إلى إدماج الإسلاميين في النظام السياسي هي من الأمور الحيوية بالنسبة لتحقيق أية عملية سلمية. 4) التقرير الصادر عن المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات(ICG) بعنوان "ما بعد مكة: التواصل مع حماس"، يوم 28 فبراير 2007.. والذي طالب الجهات الدولية بضرورة التعاطي مع حكومة الوحدة التي يترأسها إسماعيل هنية، والإسراع برفع الحصار عن الشعب الفلسطيني. 5) تقرير لجنة التنمية البريطانية بمجلس العموم البريطاني (IDC) الصادر في 24 يناير الماضي، حيث أشار إلى أن قيام الغرب بعزل الحكومة الفلسطينية التي تقودها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لم يساعد إلا على دفع الحركة نحو معسكر التشدد.. وقال عضو البرلمان مالكولم بروس الذي ينتمي إلى حزب الأحرار الديمقراطيين: إن هذا الموقف لا يمكن الإبقاء عليه، وأن رفض الحكومة البريطانية الحديث مع حماس يمكن أن تكون له آثار عكسية، وأضاف إن رسالتنا واضحة وهي: أنه إذا استمر هذا الوضع لفترة أطول من هذا فإنه سيؤدي بالفعل إلى انهيار السلطة الفلسطينية، وقال بروس: إنه لا يكفي أن تحبس بريطانيا أنفاسها وتأمل في حدوث انفراج في عملية السلام، وأضاف: على مر التاريخ تحدثنا إلى منظمات (إرهابية) مثل منظمة الجيش الجمهوري الايرلندي (IRA)، وهذا النوع من الاتصال يجب أن يحدث (مع حماس). وإذا أضفنا إلي ما سبق التصريحات التي أطلقها الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر، ووزير الدفاع الأمريكي السابق كولن باول، ووزير الخارجية الايطالي السابق ماسيمو داليما، وهنري سيغمان مدير مشروع الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية والرئيس السابق للمجلس اليهودي الأمريكي، حول ضرورات التعاطي مع حماس وخطورة إبقائها خارج مربع السياسة الدولية، فإنه يتبين لنا أن هناك جهات عالمية بدأت تعي وتتفهم خطورة تجاهل حركة حماس ليس فقط كحركة ولكن كتجربة ديمقراطية بإمكانها تعزيز نهج الاعتدال والمرونة والواقعية السياسية في ظل أوضاع وأحداث تدفع بالمنطقة في اتجاه التطرف والإرهاب. لاشك أن الطريقة التي سيتعامل بها المجتمع الدولي مع ظاهرة وصول الإسلاميين للحكم وحماس على وجه الخصوص هي التي ستحدد منهجية الإسلاميين في تعاملهم مع الغرب إما باعتماد منطق التعايش والحوار أو سياسة المواجهة والتحدي.. إن أمتنا تنظر إلى حركة حماس باعتبارها الجهة الأمينة القادرة على حمل المشروع الوطني الفلسطيني وحمايته، كونها تمثل التجسيد الحقيقي لمكانة المسجد الأقصى ومركزيته في وجدان شعوب المنطقة وضميرها، ليس فقط على مستوى الجماهير، ولكن أيضًا ضمن الأجندة السياسية والقومية لمعظم الرسميات العربية والإسلامية. إن على الجهات المتطرفة في الغرب وعلى رأسها تيار المحافظين الجدد (Neocons) في إدارة الرئيس بوش أن تفهم بأن محاولاتها لوأد مستقبل حماس كحركة وطنية جهادية تقارع الاحتلال ضمن المحددات السياسية والنضالية المشروعة، والهادفة إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة على كامل أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس عاصمة لها، إنما تعطي المبررات لتنامي تيارات العنف والتطرف بالمنطقة، وهي كذلك تخلق الأجواء وتمهد التربة للتحرك وتحدي الغرب في عقر داره واستهداف مصالحه بالمنطقة. إن منطقة الشرق الأوسط هي بمثابة برميل بارود، وإذا لم تتحرك قوى الاعتدال والواقعية في الغرب للجم التغول الإسرائيلي وعدوانه المستمر على الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن احتماليات انفجاره واردة في كل لحظة، والتداعيات ستطال الجميع ولن تستثني أحدًا. إن تعزيز التجربة الديمقراطية على أرض فلسطين واحترام النتائج التي أفرزتها الانتخابات البرلمانية في 25 يناير 2006 ، والتي جاءت بحركة حماس للحكم، توجب على الغرب الوقوف إلى جانبها والدفاع عنها وليس التحريض عليها وقطع الطريق أمامها، وذلك إذا ما أراد الغرب إعطاء المصداقية لشعاراته، وتكريس نهج الاعتدال الإسلامي والتداول السلمي للسلطة عبر الاحتكام إلى صناديق الاقتراع بدل خيارات الدم والرصاص. إن أمام العالم وخاصة الأوروبي منه فرصة تجنيب المنطقة العربية والإسلامية منطق العداء والكراهية له ولسياساته، وذلك بتشجيع ماكينزمات التحول الديمقراطي وبالتواصل مع حركة حماس، لأن هذا التواصل سيسهم في تأثيث قناعات الإسلاميين وذهنياتهم الحركية بضرورة التعاطي والتسليم بأن هناك خيارات سلمية يمكن من خلالها تحقيق التحول والتغيير، وأن تجربة حركة حماس هي الشاهد على ذلك. أما إذا استمرت سياسات القهر والحصار والاستهداف لحماس (الحركة والحكومة) فإن العالم مرشح لفقدان ثقة المنطقة العربية والإسلامية كلها بشعاراته ومبادئه، وهذا معناه توسيع دائرة التحدي والمواجهة معه بالشكل الذي سوف يتهدد أمنه واستقرار مصالحه الحيوية بالمنطقة. ولعل هذا ما تلقفه صديقي في واشنطن د. روبرت كرين، مستشار الرئيس الأمريكي السابق نيكسون، والخبير بشؤون الحركات الإسلامية، حين أشار إلى ذلك بالقول: "إن مستقبل حماس هو المفتاح للسلام والأمن العالميين". أتمنى أن يستيقظ الغرب من غفوته قبل أن نستيقظ على صراخ كارثة جديدة أشد فظاعة وهولاً من أحداث 11 سبتمبر 2001 ، والتي قسمت العالم إلى فسطاطين ما يزال المسلمون يعانون من عقابيلها. (*) خاص بالشروق اليومي