على بعد شهر من رمضان المعظم، باشر الآلاف من الجزائريين تجهيز حقائبهم وشحن معنوياتهم الروحية، للطيران إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك العمرة، حيث لم تُثنهم الأخبار المتهاطلة من هنا وهناك، عن تقليص أعداد المعتمرين، وعن ارتفاع أسعار التذاكر وابتعاد فنادق الإيواء عن أماكن العبادة، وحجزوا تذاكرهم منذ أشهر عديدة كما تعودوا على ذلك منذ سنوات، حيث أصبحت العمرة بالنسبة للكثير من الجزائريين أشبه بالإدمان الذي لا يمكنهم العيش من دونه، ولا يرون أنفسهم في بيوتهم ويؤدون صلاة التراويح في مساجد أخرى غير المسجد النبوي ومسجد الله الحرام، والجزائريون تاريخيا لم يكونوا يؤدون مناسك العمرة إلا نادرا، وكل عظماء الجزائر باستثناء المفكر مالك بن نبي، لم يؤدوا مناسك العمرة، واكتفوا بحجّة واحدة، من الأمير عبد القادر الذي سافر برّا مشيا على الأقدام إلى الحجاز، إلى الشيخ عبد الحميد بن باديس إبحارا عبر الباخرة رفقة علماء الجمعية. وبقيت العمرة شعيرة غائبة عن الجزائريين إلا لدى النادر من الشخصيات، إلى أن أصبحت خيارا أخيرا، منذ لم يعد بالإمكان حج بيت الله الحرام، حتى بالنسبة للأثرياء، بل يتطلب الأمر المرور عبر القرعة، حيث لجأ عشاق بيت الله الحرام إلى خيار أداء مناسك العمرة، خاصة أن هناك جزائريين لم تُمكنهم العمرة رغم محاولاتهم لمدة فاقت الربع قرن، وصاروا يخشون أن يموتوا دون أن يزوروا بيت الله الحرام، ولجأت الجزائر إلى تعيين حجاج بيت الله الحرام عبر القرعة منذ عام 1979، عندما ارتفع سعر النفط وقارب الأربعين دولارا، وتحسّن الوضع الاجتماعي للجزائريين، ودخلت الجزائر عالم الصحوة الإسلامية، إذ لم يبق الحج لكبار السن فقط، إضافة إلى أن حكم الشاذلي بن جديد اختلف تماما عن حكم الراحل هواري بومدين، فظهرت جوازات المسؤولين وأدى الشاذلي نفسه علنا رفقة زوجته السيدة حليمة بن جديد مناسك الحج، وهو ما رفع رقم الراغبين في أداء الفريضة الخامسة، فوجدت الجزائر نفسها مضطرة لإجراء القرعة في كل بلدية من الولايات الواحد والثلاثين في ذلك الوقت . ولجأ الجزائريون إلى مناسك العمرة خلال شهر الصيام في العشر الأواخر، ثم تحوّلت العمرة إلى كامل شهر الصيام، لتنقل إلى ذكرى المولد النبوي الشريف، وتعم الآن كل السنة بشهورها، ومن أكثر مشاهير الجزائر الذين واضبوا على أداء العمرة مرة واحدة على الأقل في السنة، الشيخ عبد الله جاب الله، عندما خرج من السجن في بدايات ثمانينات القرن الماضي، حافظا لكتاب الله، حيث أصبح يؤدي مناسك العمرة بشكل دائم حتى بلغ العشرين مرة، وقال الشيخ عبد الله جاب الله للشروق اليومي، إنه يشعر بالغربة كلما افتقد رؤية بيت الله الحرام مدة طويلة، ولكن الرقم القياسي لأداء مناسك العمرة وزيارة بيت الله الحرام بالنسبة للجزائريين يبقى لصالح الحاج أحمد بن عبد الرحمان، الذي سيبلغ في سبتمبر القادم 2013 سن التسعين، وهو حاليا رئيس جمعية الأمير عبد القادر بقسنطينة. وللأسف، فإن تقدّمه في السن حرمه في السنوات الأخيرة من التوجه إلى بيت الله الحرام، بعد رحلة روحية طويلة جعلته يحطّم رقما قياسيا جزائريا في أداء فريضة الحج بلغ 32 مرة وتسع عمرات رمضانية أخرى، لتبلغ عدد الحجات والعمرات 41 زيارة لبيت الله الحرام، والشيخ أحمد بن عبد الرحمان وجدناه نهار أمس الخميس برغم المرض والسن، يُحضر لحفلة خاصة بالأطفال المتفوقين في التجويد والتلاوة، وقد باشر سفرياته إلى البقاع المقدسة منذ أفريل 1968، عندما كان يبلغ من العمر 45 سنة، حيث قرر أداء فريضة الحج، ولم يكن الثمن كما أخطرنا يزيد عن 1200 دج في ذلك الوقت، وكانت أول سفرية له عبر طائرة الخطوط السعودية من الجزائر العاصمة إلى جدة. وفي ذلك الوقت أيضا، كانت المملكة العربية السعودية تشترط على زائري بيت الله الحرام ا الحصول على التأشيرة، الشيخ بن عبد الرحمان، ارتبط من أول نظرة ببيت الله الحرام، وهناك بدأت الرؤيا تشغله وتقرّبه من المكان المقدس، كما أخبرنا، حيث لم تقتصر رؤاه على خاتم الأنبياء والمبعوثين في منامه، بل صار يرى باستمرار كل الأنبياء، من سيدنا إبراهيم إلى موسى إلى عيسى إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم، وهو صاحب مشروع بناء أكبر جامع في الجزائر، وهو الأمير عبد القادر بقسنطينة، والذي سيبقى الأكبر إلى أن يُنجز جامع الجزائر العاصمة. وكان الحاج بن عبد الرحمان في منتصف الستينات قد استهجن نقص المساجد في عاصمة الشيخ بن باديس، فراسل الرئيس الراحل هواري بومدين لمساعدته لتوسيع جامع البيضاوي في حي الأمير عبد القادر بقسنطينة، وباشر جمع الأموال، ولم يستطع جمع أكثر من 15 ألف دينار جزائري، لا تكفي لشراء الزرابي، فما بالك ببناء مسجد قائم بذاته، فقرّر في سابقة لم يكن يظن أنها ستعطي ثمارها، مراسلة الرئيس الراحل هواري بومدين مرة ثانية، ولكن هذه المرة دعّم رسائله بصور تبين ازدحام المصلين في المساجد، وأيضا صلاة البعض منهم في الشارع، على قناعة بأن بناء المسجد مهمة الدولة والشعب على السواء. ولم يكن يتصوّر أن الرئيس الراحل يردّ على رسائل المواطنين، ولكنه تفاجأ برد فيه تعهّد بأن تشهد مدينة الشيخ ابن باديس بناء جامع وجامعة إسلامية، وبدأت الرحلة الطويلة جدا التي لم تر النور إلا في منتصف الثمانينيات في عهد الشاذلي بن جديد، وساهم الشيخ أحمد بن عبد الرحمان في إنجاز هذا الصرح التحفة، ورغم ذلك كانت عطلته السنوية ضرورية، وتتزامن إما مع موسم الحج أو مع شهر رمضان المعظم، حتى بلغت الآن 41 زيارة، بمعدل واحدة إلى إثنين في السنة، إلى أن وهن العظم وقارب السن التسعين، فقرّر جهادا آخر، وهو تشجيع الأطفال على حفظ كتاب الله. وإذا كان الزمن الاستعماري والفقر أيضا، قد حرما الشيخ أحمد بن عبد الرحمان عن زيارة بيت الله الحرام حتى بلغ سن الخامسة والأربعين، فإن السيد بن زياد هشام وهو تاجر أعطاه الله بسطة من المال، سيحتفل في رمضان القادم ببلوغه سن الأربعين، وأيضا بالزيارة رقم ثلاثين في حياته إلى البقاع المقدسة، وقال الحاج هشام الذي أدى الفريضة الخامسة مرة واحدة، والبقية جميعا عُمرات، بأنه يحلم بأن يمدّ الله في عمره ويزور بيت الله الحرام في مئة مناسبة، ويختمها بالموت ليدفن قرب رسول الله في المدينةالمنورة، وهو حلم الكثيرين، حتى إن بعض العائلات التي تفقد ذويها في البقاع المقدسة ترفض الحداد، وتفتخر بكون حبيبها توفي ودُفن قرب حبيب المؤمنين، وقد دخلت العمرة ضروريات الجزائريين، وصار كل من يؤدي مناسكها يُطلق عليه لقب الحاج، ولا يمكن أن تجد عائلة دون أن يكون لها فرد من العائلة قد أدى مناسك العمرة وزار بيت الله الحرام.