بقلم: مصطفى فرحات يتساءل مسؤولونا عن السبب الكامن وراء اندثار الثقافة الوطنية في أوساط الأجيال الناشئة، وعن السر الذي يدفعهم إلى المخاطرة بحياتهم ودفعها نحو الفناء: إما بإلقاء النفس في عرض البحر الأبيض المتوسط أملا ببلوغ الضفة الأوروبية، وإما بتبني الفكر العدمي وتفجير القنابل البشرية في وجه المجتمع ومؤسساته.. هكذا يتساءلون بكل بساطة، وكأن الأمر لا يتعلق بالنتائج الطبيعية لسياسات خرقاء حكمت الجزائر منذ الاستقلال.. وكأن الأمر لا يتعلق بالمشاريع الزائفة التي قُدمت للشعب باسم الثورة حينا، وباسم الاشتراكية ومناهضة الإمبريالية حينا آخر، وباسم حماية الجمهورية وقيمها من الأصولية الظلامية مرة، وباسم العولمة والانفتاح ودفع وتيرة التنمية مرات أخرى. لقد جُردت الجزائر من كل قيمها الأصيلة، بدءا بالإسلام، وانتهاء بالعروبة، وافتُعلت صراعات وهمية تدور حول الهوية واللغة والبحث عن توازنات "عرجاء" بين الحوض المتوسطي والعمق الإفريقي والامتداد الإسلامي، ثم غُيب التاريخ الذي صنعه الرجال واستعيض عنه بمقاطع خيالية تشبه الأساطير، تتواطأ على تحديثنا بأن الثورة الجزائرية قادها الملائكة ضد الشياطين، في حين أنها كانت ملغمة بالصراعات والمعارك الأيديولوجية، وتمخضت عن إقصاء التيار الوطني من صنع القرار، وعزلت التيار الإصلاحي الديني الذي ألهب حمية القلوب ونفخ فيها من روحه، وعلّم أبناءها قيم الإسلام وأصالة العروبة، وأخرجها من ظلام الأمية والجهل إلى نور المعرفة والعلم. ربما تعجّب بعض من قرأ المقال السابق لأنني تساءلت فيه ببراءة عن الثورة التي نتحدث اليوم ونحن نشهد نتائجها: هل كانت ثورة لنا أم ثورة علينا؟ لكن الوقائع أثبتت بكل أسف أن "رجالات الثورة" أخذوا من الشعب الجزائري أكثر مما أعطوه، وأضروا به أكثر مما نفعوه، وأنهم تدثروا بالعباءة الثورية دهرا إلى أن اهترأت، وتحول عدو الأمس إلى صديق، بل حليف حتى لا نقول أكثر من ذلك وصار القرار الداخلي مربوطا بالخارج أكثر من ارتباطه بالداخل، وإن كان هذا قاسما مشتركا تجتمع عليه الدول العربية اليوم بعد أن فرقتها الأطماع والمصالح والدسائس التي ورثوها عن الاحتلال، فرنسيا كان أو إنكليزيا أو أمريكيا.. فما الذي حدث حتى يبدو الحديث عن الوطن أمام الشباب اليوم أسطوانة بليت من كثرة الاستعمال، ومتى صارت الإشادة بالوطن تُهمة تُلحق صاحبها في نظرهم بصفوف العملاء الذين هم أقرب إلى الخيانة منهم إلى النزاهة والنظافة؟ لقد حاول المفكر العربي برهان غليون تشخيص هذه الظاهرة العربية الغريبة، وكشف أن "المحنة العربية اليوم تكمن في أن الدولة أضحت ضد الأمة"، بمعنى أن خيارات الشعب لا تتفق في أصلها مع خيارات الدولة، ولا حتى المصالح مع المصالح، ولا الآمال مع الآمال، مما يجعل العلاقة بين الطرفين علاقة تضاد لا تواد، مع ما يؤول إليه الوضع من المشاحنة والمغالبة وإذكاء منطق الصراع الذي ينتهي في الغالب بتدمير البلد وإضعافه، وبتسلط المستبدين وتشبثهم "الدموي" بالعروش. كيف يمكن لشاب لا يجد مسكنا ولا عملا ولا كرامة: يهينه الشرطي باسم القانون، ويهينه المسؤول باسم النظام، ويهينه المستخدِم باسم قانون السوق، ويُهينه التاجر باسم قانون العرض والطلب، ثم يهينه شيخ البلدية والإداري والمستشفى والتلفزيون والمؤسسة التربوية.. وهو مع ذلك يُحس بمدى الهوة الشاسعة بينه وبين مسؤوليه، فهو لا يراهم إلا عبر شاشة التلفزيون وفي الحملات الانتخابية يستجدون صوته مقابل تسوية وضعه المتأزم، ويرى مع ذلك قصورهم وعماراتهم الشاهقة ومؤسساتهم الفخمة، وتُغلق الإدارة الأبواب في وجهه، فلا يمكن له أن يؤسس حزبا جديدا، ولا يمكنه أن يترشح ضمن القوائم الحرة للعراقيل البيروقراطية المفروضة.. كيف يمكن لشاب يشهد كل ذلك ثم يُراد له أن يفدي وطنه ويقف خاشعا أمام ذكراه، ويُتهم إن لم يفعل ذلك بانعدام الروح الوطنية والمسؤولية. لقد قتل المسؤولون الجزائريون الإنسان الموجود في داخل المواطن، لأنهم زيادة على سياسات التفقير والتجهيل أعطوه صورة سيئة عن معنى المسؤولية في وطننا، حيث أصبحت هذه الكلمة مرادفة للسرقة والرشوة والتكسب غير المشروع باسم المبادئ المشروعة.. وباختصار، علّموه أن المسؤول الجزائري يمكن أن يوصف بأي شيء إلا أن يكون مسؤولا بالمعنى اللغوي والشرعي للكلمة. أكتب هذا وأنا أستحضر صورة جار لي تجاوز العقد الرابع من عمره، له زوجة وأبناء، ولكنه لم يجد عملا يُعيل أبناءه منه.. فصبر على الأمر لسنوات إلى أن قرر وضع حد لحياته، فسعى إلى الانتحار، ولولا عناية الله لكان من الهالكين. وهاهو البشير الإبراهيمي، فخر الجزائر وإمامها، يخاطب فرنسا بمقال عنوانه "حدثونا عن العدل فإننا نسيناه"، فتمضي السنوات وتستقل الجزائر، فإذا به يقع ضحية لظلم الأقربين بعدما كان ضحية الأبعدين، فيموت مسجونا في إقامة جبرية وهو الذي ساهم بالبيان والسنان والجنان، في تحرير الجزائر.. فرجاء يا مسؤولينا، حدّثونا عن الوطن، فإننا نسيناه!