مقاتلو الصحراء عندما يختلون بأنفسهم .. كيف يفكرون وماذا يقولون؟ من الضروري في البداية أن أقدم اعتذاري مسبقا للمشرفين على تنظيم مؤتمر البوليساريو، لأني تعمدت لدوافع مهنية بحتة اختراق أشغال المؤتمر المغلقة، وتجاوزت الإجراءات المشددة وصيحات رئيس المؤتمر المتكررة ليبقى الترخيص بالدخول إلى قاعة الجلسات محصورا في المندوبين الرسميين دون الصحفيين والمدعوين الأجانب الذين زاد عددهم عن 250. وطلب منهم مغادرة القاعة بعد انتهاء الجلسة الافتتاحية العلنية للمؤتمر، وكنت أرغب فقط أن أكون شاهد عيان يحاول أن يفهم عن قرب كيف يفكر مقاتلو الصحراء هؤلاء عندما يختلون بأنفسهم وهو ما حدث طوال أيام المؤتمر. فجبهة البوليساريو التي رسمت جزءا هاما من تاريخ المنطقة المغاربية والإفريقية في السنوات الثلاثين الأخيرة، وجرت معها أحداثا وارتدادات سياسية واجتماعية صاغت الماضي وتلقي اليوم بثقلها على الحاضر و المستقبل، تظل في حاجة ماسة إلى معرفة دقيقة تشرح من الداخل كيف يعمل جهازها السياسي والتنظيمي، التيارات والأفكار التي تحركه و كيف تنظر نخبه المؤثرة إلى قضايا الساعة ومن يصنفونهم أصدقاء أو خصوما، بعيدا عن الاستسلام لبعض زوايا الرؤية النمطية التي تظهر إعلاميا في بعض الأحيان بشكل يشوش على الحقيقة. 1700 مندوب يشكلون النخبة السياسية والعسكرية للبوليساريو .. ماذا يقولون عندما يسلمون نفسهم لنقد داخلي صريح ومغلق. كان اليوم الأول من أشغال المؤتمر ، وهو الذي جرت فيه الجلسة الافتتاحية العلنية ، قد انتهى بتقديم الرئيس محمد عبد العزيز تقريرا عن فترة قيادته للحزب والدولة منذ آخر مؤتمر انعقد العام 2003، أعقب ذلك تدخلات الوفود الأجنبية التي جاءت إلى تفاريتي تساند الصحراويين في مسعاهم الاستقلالي، أما اليوم الثاني من المؤتمر ،وهو الذي بدأت فيه الأشغال المغلقة فقد خصص لتقديم التقرير المالي ثم فتح الباب لتدخلات المندوبين حول مختلف القضايا السياسية والتنظيمية والمالية والعسكرية، يعطون رأيهم في حصيلة السنوات الأربعة الماضية ويقدمون اقتراحاتهم حول المستقبل، وأحصت القائمة الأولى للذين سجلوا أسماءهم لتقديم تدخلات ما يزيد عن 200 شخص. كان أول المتدخلين وزير التعليم في الحكومة الصحراوية بشير مصطفى السيد، ، سادت القاعة حالة صمت وهدوء مطبق وهي تستمع لكلمات هذا السياسي المثقف يرافع لأجل فتح باب التعددية الحزبية في الممارسة السياسية الصحراوية "التعددية هي الوحيدة التي تخلق جو التنافس وتنقذ أي تنظيم من الشيخوخة القاتلة"، شدت الانتباه هذه الخرجة لجرأتها - كما تصورت في حينه - على اختراق إحدى المسلمات الكبرى في الممارسة السياسية، فقد كان يطالب بهدوء وكلمات دقيقة أن ترفع البوليساريو يدها على احتكار التمثيل السياسي للصحراويين. و على بعد أقل من ثلاثة امتار عن الصف الأمامي الذي تلاصقت فيه جنبا الى جنب كل القيادات الصحراوية الكبرى، السياسية منها والعسكرية، تكلم محددا الخطوط الحمراء التي يجب أن لا تتجاوزها الظاهرة التعددية كما يراها "خارج التكتل القبلي، التكتل الطائفي، خدمة أهداف أجنبية والتقاطع مع مصالح العدو (المغرب)" فضلا عن ثقافته العالية وتجربته الطويلة يستمد بشير مصطفى السيد شرعيته من اعتبارين، أولا هو شقيق مؤسس البوليسارو وملهم حربها الولي مصطفى السيد الذي قتل في أوج سنوات الحرب سنة 1976، وثانيا تقلد البشير مصطفى السيد أهم المناصب القيادية العليا في البوليسارو وكان نائب الأمين العام محمد عبد العزير ووزيرا للخارجية ما جعل ذاكرته تختزن أسرارا دفينة لعلاقاتها الدبلوماسية والعسكرية مع الأصدقاء والخصوم، و كان أول من التقى و فاوض سرا الملك الحسن الثاني مطلع الثمانينات. دعا البشير مصطفى السيد الى تغيير المبدأين الذين حكما الأداء السياسي للبوليساريو طوال العقود الثلاثة التي مضت على وجودها، الأول يقر دستوريا من حيث المبدأ التعددية الحزبية والسياسية، لكنه يفرض مؤقتا ''لضرورة المرحلة'' نظام الحزب الواحد ليجعل البوليساريو هي الإطار السياسي الذي تنصهر فيه كل المكونات والتيارات ''إلى حين الاستقلال'' و المبدأ الثاني تم إقراره منذ سنة 1991 ولا يزال ساريا وهو الجمع المباشر ما بين المهام السياسية والتنفيذية على مستوى الهرم، حيث رئيس الدولة الذي هو نفسه الأمين العام للحزب، وعلى مستوى القاعدة السفلى لدى أمناء الفروع المحلية للحزب الذين هم في نفس الوقت ممثلي الدولة ومنفذي برامج الحكومة محليا (ولاة ورؤساء دوائر)• ويبقى الجسم التنظيمي الفاصل ما بين الرئيس وأمين الفرع المحلي يخضع لإفرازات الانتخابات التي لا تفرض الجمع ما بين المهمة في الجهاز الحكومي والجهاز الحزبي، وتعالت أصوات في المؤتمر وسط كوادر الحزب تدعو إلى الفصل ما بين المهام السياسية والحكومية محليا• ويقول أنصار هذا الطرح إن هذا الجمع يضر بعلاقة البوليساريو بالصحراويين ويطعن في مصداقيتها في عيون الرأي العام الداخلي كقوة تعبئة طلائعية بسبب التجاوزات التي يقع فيها بعض المسؤولين المحليين ولا يجد من يراقبهم من داخل الحزب لأنهم في نفس الوقت هم ذاتهم مسؤولو الحزب محليا• كل التدخلات التي اعقبت حديث وزير التعليم والتي تناولت خيار التعددية، رفضت ذلك، ورافعت لصالح الابقاء على البوليساريو سقفا واحدا للجميع البوليساريو تنفتح للبقاء مظلة للجميع الكلمات الهادئة التي تحدث بها البشير مصطفى السيد لم تكن نفسها التي اختارتها السنية احمد، هذه المرأة التي ترأس مكتب جبهة البوليساريو في سويسرا هي الوحيدة التي ترأس بعثة دبلوماسية صحراوية في الخارج، تحدثت بكلمات نافذة وحادة اللهجة وهي تصف "بالموظفين الرديئين" أعضاء الأمانة الوطنية للبوليساريو، أعلى هيئة قيادية يرأسها عبد العزيز نفسه و تضم ضمن أعضائها الثمانية والعشرين كل القيادات العليا في الحزب والدولة، انتقدت بشدة أداءهم السياسي والتنظيمي وقالت موجهة لهم الكلام "اليوم كشف الحساب، وضحوا لنا أنتم الذين كبرنا حجمكم عنا، لماذا انتم حاضرون بأجسادكم لكن مستقيلون عمليا عن دوركم السياسي الطلائعي ، هل أنتم دون المستوى والثقة التي وضعناها فيكم أم هو (محمد عبد العزيز) يحتكر الصلاحيات ولا يترك لكم فرصة العمل" قالت هذه السيدة "الثورية" التي ترأست لسنوات طويلة اتحاد النساء الصحراويات، واسترسلت مقترحة أن "يقوم كل عضو في الأمانة الوطنية بتقديم الشق الذي يخصه في تقرير العهدة الماضية ليحاسب عليه دون غم الكل في تقرير يقدمه الأمين العام" لم تكن هذه التدخلات النارية من قياديين بارزين ومناضلين بسطاء في البوليساريو تحدث تململات وفوضى في القاعة، و رئيس المؤتمر لم يتدخل لوقفها أو حتى تهدئتها بالرغم انها تجاوزت بأضعاف الدقائق الخمسة القصوى المحددة لكل تدخل، وهو ما فاجأني، بل خاطبته السنية احمد تحذره من استعمال سلاح المدة الزمنية القصوى لوأد التدخلات، كما لم يبد أي من القيادات العليا المستهدفة غضبا علنيا منها حتى وإن كانت قسمات وجوه بعضهم مشدودة ومنقبضة تدل على امتعاضه مما يقال، وتبين في ما بعد أن مثل هذه التدخلات النارية والنقد الداخلي القاسي هي صور متأصلة في الخطاب الداخلي لنخب البوليساريو خلال الندوات والملتقيات المغلقة المخصصة لتقييم وضعها التنظيمي وأدائها السياسي العام، يفرق مقاتلو الصحراء هؤلاء بذكاء وتمرس ما بين الذي يمكن للضيوف والأجانب أن يروه ويسمعوه وما يقال بكل صراحة داخليا، وقد تكرس هذا الاتجاه منذ حوالي عشر سنوات، لقد فقهت قيادة البوليساريو المعادلة جيدا، وفهمت بان "توسيع هوامش التعبير الداخلي وفتح الباب لكل الآراء على تباينها وتناقضها هو أقوى ورقة تحمي نفسها بها من الزوال والتشتت" قال لي أحد كبار محركيها الذي ظهرت بصماته واضحة في وثائق المؤتمر، وهو خطري أوده، مسؤول التوجيه السياسي في القيادة العليا، كان ذلك تحدي بقاء في مواجهة ظروف اجتماعية صعبة في المنفى وخصم مدعوم اقتصاديا وعسكريا من كبريات القوى الغربية، واستطاعت البوليساريو - بشكل ملفت يثير الإعجاب من بعض زاوياه- أن تنقذ نفسها من الوقوع في خطأ القبضة التسلطية التي ميزت الحركات الاستقلالية المسلحة ولا زالت تميز بدرجات متفاوتة في القتامة كل الأنظمة القائمة في المنطقة العربية والمغاربية. الجزائر والجزائريين في العيون الصحراوية من وسط المؤتمرين نهض حمة، كهل قارب الستين من عمره، بكلمات مختصرة انتفض ضد ما يسميه تنازلات مستمرة لصالح المغرب منذ توقيف اطلاق النار قبل ستة عشرة سنة، وقال أن مسار المفاوضات برعاية الأممالمتحدة لن يوصل الصحراويين الى الاستقلال، و طلب الإعلان الفوري لاستئناف الحرب ضد المغرب.. من زاوية أخرى في آخر القاعة خرجت امرأة أخرى تطلب في راديكالية حماسية أن تستأنف الحرب من هذه اللحظة وأن يمنع أي من الحاضرين من مغادرة تفاريتي ويلتحق مباشرة بجبهة القتال، في كثر من 60 تدخلا ميز اليوم الأول من الأشغال المغلقة، ظهر أن المطالبة باستئناف الحرب واليأس من أن تجد المفاوضات مخرجا للقضية، ومطالبة القيادة بان تخرج من المؤتمر بقرار واضح في الموضوع، هي القواسم المشتركة في كلام وتفكير الجميع، تضمن ذلك العديد من التدخلات النارية لشباب وطلبة جامعيين في مقتبل العمر ونساء، ولم يكن ذلك محصورا في المقاتلين بالبزة العسكرية الذين شغلوا ثلث مقاعد القاعة متوافدين من النواحي العسكرية السبعة في المعسكرات المواجهة للجدار الدفاعي المغربي، خاطب حمة قيادة الحزب "أجيبونا بكل صراحة، لماذا تقفون ضد رغبتنا الجماعية في استئناف الحرب، قولوا لنا ما السبب، إن كان الجزائريون هم من يضغطون لمنع الحرب أخبيرونا، وإن كان طرف آخر فقولوا لنا" عندما يتحدث الصحراويون عن الجزائر والجزائريين تسميهم أدبياتهم السياسية "بالحليف" ويكنيهم الخطاب الاجتماعي لدى عموم الناس في المخيمات وخارجها "بالخاوة" ويعكس ذلك امتنانا صادقا للمساعدات المختلفة التي تلاقها الصحراوين من الجزائر من ظهور قضيتهم، لكن شعورا قويا يسودهم الآن وتكرس في تدخلات المندوبين في المؤتمر أن الجزائر تشكل كابحا أساسيا لهم يحول دون استئنافهم الحرب، لقد بقيت أصداء ما حدث العام 2001 حاضرة في أذهنا الجميع تتردد في قاعة المؤتمر، عندما أعلنت قيادة البوليساريو حملة التعبئة العامة رالي باريس- داكار مهددة بضربه عندما أصر منظمو الرالي على الاكتفاء بترخيص مغربي للمرور عبر الأراضي المتنازع عليها و رفضوا طلب ترخيص مماثل من الصحراويين، واستقطبت الحملة في حينه عدة آلاف من المتطوعين من قدامى المقاتلين، ومثل هذا العدد من المجندين الجدد من الشباب والطلبة الذين لم يسبق لهم أن شاركوا من قبل في الحرب ضد المغرب، جاؤوا من المخيمات ومن خارجها، واحتشد الجميع في تفاريتي بقيادة محمد عبد العزيز وكل المسؤولين السياسيين والعسكريين، ويكشف احد المسؤولين العسكريين في البوليساريو أن الرئيس محمد عبد العزيز وجد نفسه وسط "ضغوط مزدوجة رهيبة" من قبل رفاقه وعموم الصحراويين لاعطاء اشارة اطلاق النار، ومن أطراف خارجية غربية أصرت على الجزائر أن تطلب من الصحراويين عدم مهاجمة الرالي"وجاء ذلك كدلو الماء البارد المسكوب على كل كانون جمر يشتعل" قال محدثنا وهو يصف بأسى لا يزال مرسوما فوق قسمات وجهه بعد ست سنوات، ويستمر المتحدث يقول "قفل الرئيس أجهزة الاتصال التي كانت سيارته مجهزة بها في تفاريتي حتى لا يتصل به احد من الجزائريين او من غيرهم، ورصدت أجهزة الاستخبارات الغربية تدفقا كبيرا للصحراويين الداخلين الى المخيمات في المطارات الاسبانية وعلى الحدود الموريتانية" يعتقد الصحراويون ان مجيئ الرئيس بوتفليقة الى الحكم أعاد علاقاتهم مع الجزائر الى مستويات مقبولة، ولم يخف بعض المندوبين في حديثهم عن ذلك خشيتهم من المستقبل كما قال احدهم "يجب استثمار عهدة بوتفليقة، لا يجب ان ننسى ما حدث مع مجيئ بوضياف الى الحكم" مشيرا الى حالة الارتباك التي واجهاا الصحراوين العام 92 مع مجيئ بوضياف من منفاه في المغرب الى رئاسة الجمهورية موحيا في بعض تصريحاته ما فهمه الصحراوين "تنكرا" للعلاقات التاريخية بينهم وبين الجزائر، ولم ينس هؤلاء أيضا الخرجة "الشاذة" كما يصفونها أيضا لوزير الدفاع الأسبق خالد نزار عندما قال أن "الجزائر في غير حاجة الى دولة جديدة على حدودها" لذلك تتصاعد اصوات اليوم أكثر من الأمس برفع السلاح ووضع الجميع بمن فيهم الجيران في الجزائر وموريتانيا أمام الأمر الواقع. خيار الحرب بين المرغوب والممكن أخدت الانتقادات الموجهة الى "قصور القيادة في تطوير و تحديث القدرات العسكرية" حيزا هاما من التدخلات مثلها مثل المطالبة بوضع خطة واضحة لذلك على راس أولويات المرحلة القادمة، كان الحديث يجري في كواليس المؤتمر عن تقييم القدرات الحالية، ففي في أوج قوة البوليساريو وتفوقها العسكري فترة الثمانينات كانت قوات البوليساريو تضم حوالي 30 ألف مقاتل، ويرتفع هذا الرقم في حالات الطوارئ والتعبئة العامة ، يشكل المتطوعون المؤقتون الجزء الأهم منها، غير انه ابتداء من من سنة 1991 تاريخ وقف إطلاق النار وبداية مشروع التسوية الأممي تم تفكيك العديد من الوحدات العسكرية للبوليساريو، ولم يتم الإبقاء الا على حد معين ما بين خمسة وعشرة آلاف مقاتل يضمنون مراقبة التحركات المغربية والتحضير لرد فعل محدود زمانيا ومكانيا إن تطلب الأمر، وهذا نظرا لطبيعة المرحلة الجديدة التي ميزها مجيء الملاحظين العسكريين لبعثة المينورسو لمراقبة احترام اتفاق وقف إطلاق النار، لكن أيضا لشح المصادر المالية اللازمة لتغطية نفقات التكفل اللوجيستي بعدد كبير من المقاتلين على جبهة الحدود، فقد كان من الطبيعي ان ينعكس على البوليساريو بشكل مباشر انهيار المعسكر الشرقي من جهة ودخول الحليف الجزائري في ازمة اقتصادية وأمنية كبيرة طوال التسعينات من جهة أخرى، كما أن حالة الفراغ القاتل التي وجد فيها المقاتلون الصحراويون انفسهم بسبب تعطل مسار التسوية الأممي جعلت عدد الراغبين في مغادرة الوحدات العسكرية للدراسة والعمل في المخيمات أوفي دول الجوار يتزايد، فالتجنيد في الوحدات القتالية يعتبر عملا تطوعيا صرفا ولا يتلقى المجندون لأجل ذلك أي مقابل مالي، ولا ترتبط القيادة العسكرية ولا السياسية للبوليساريو بأي التزامات مالية اتجاه مجنديها ما عدا ما تمليه المصاريف اللوجيستية الأساسية، تحديدا الإيواء والإطعام وتجديد البدلات والأحذية العسكرية، كانت هذه هي القاعدة المعمول بها منذ تأسيس البوليساريو الى غاية نهاية التسعينات، وكان المؤتمر الأخير محطة لبداية إحداث الطلاق مع ذلك، وقال محمد عبد العزيز مخاطبا الحضور ضمن معطيات رقمية ناذرا ما يتحدث عنها الصحراويون بشكل رسمي أنه تم تكثيف عمليات التجنيد النظامي في أوساط الشباب مع رفع قيمة المنح المالية المنتظمة المدفوعة لهم بنسبة 75 بالمئة ومد النواحي العسكرية السبعة بمراكز عملياتية وآليات وتجهيزات جديدة ضمن إجراءات أخرى، وهي الخطوات المتبعة في السنوات الأربع الماضية "لتحديث جاهزية الجيش الصحراي" وقال أن "تقوية القدرات العسكرية للجيش الصحراوي كان حاضرا بشكل دائم في اجتماعات القيادة الصحراوية" ومنذ اقل من خمس سنوات فقط بدأت البوليساريو تخصص لأول مرة منحا مالية شبه جزافية محدودة منتظمة لمجنديها، يتقاضاها أصحابها كل ثلاثة أو اربعة أشهر، وتدفع نقدا في حدود 4000 دينار جزائري شهريا للمقاتلين العاديين. كان أكثر من ثلث المؤتمرين يلبس بزة عسكرية، يتقدمهم ضباط النواحي العسكرية السبعة التي تتحصن فيها وحدات المقاتلين الصحراويين في مواجهة الجدار الدفاعي المغربي، وثلثهم من النساء، الواتي تكدسن وقوفا وقعودا طوال يومين على متن شاحنات حملتهن من مخيمات اللاجئين الى تفاريتي، والحديث عن الجزائر جر الى ظهور نقاش في الفترة المسائية من اليوم الثاني عن الموقف المحتمل للمجتمع الدولي من الحرب إن عادت، عن انعكاسات هذا الموقف على دعم "الأصدقاء" لهم ، فالتحولات الإقليمية التي طرأت على المنطقة في العشرية الماضية، انهيار المعسكر الشرقي وأزمات الحليف الجزائري انعكست بشكل مباشر على البوليساريو، كان من نتائجه انحسار مصادر التسليح ، تحدث البعض مطمئنا أن كثيرا من المؤشرات تفيد ان الترسانة العسكرية المخزنة للبوليساريو لا زالت هامة كما ان الاعتراف الذي نالته العام 2005 من دولة جنوب افريقيا وتوطد علاقاتها مع قيادات المؤتمر الافريقي الحاكم هناك، فتح الباب أمامها فعلا على أحد اهم مصنعي وموردي السلاح في العالم، أضف إلى ذلك أن السوق الجديدة للسلاح في اوروبا الشرقية تقدم فرصا جديدة إذا كانت البوليساريو قادرة على الدفع، و أولى أشكال الدعم العسكري التي تلقتها جبهة البوليساريو جاءت من الحليف الأول ليبيا سنة 1973 ، الدعم العسكري الجزائري أصبح أكثر اهمية بداية من سنة 1976، ثم دخلت عدة أطراف أخرى من المعسكر الشرقي على خط الدعم منها يوغوسلافيا، كوبا وكوريا الشمالية مطلع الثمانينات، مركبات مدرعة للنقل، صواريخ وقاذفات مختلفة ، مضادة للمدرعات وللسلاح الجوي وتحمل على الشاحنات العسكرية المكشوفة. و إضافة إلى السلاح المقدم من طرف الحلفاء السابقين شكلت الأسلحة والآليات العسكرية التي استولى عليها الصحراويون خلال معاركهم مع الجيشين المغربي والموريتاني مصدر ثان للتسليح، ويقدم الصحراويون أرقامهم الخاصة حول حجم الأسلحة التي يقولون أنهم غنموها خلال 15 سنة من الحرب، وتحصي هذه الأرقام المنشورة في بعض الوثائق الرسمية لوزارة الدفاع الصحراوية "2086 آلية عسكرية من مختلف الأصناف والأحجام، وأكثر من 12000 قطعة من مختلف أنواع السلاح وحوالي 800 جهاز اتصال و معدات حربية هامة أخرى" و لم تؤكد أية جهة محايدة هذه الأرقام، لكن عدد الأسرى من العسكريين المغاربة الذين أفرجت عنهم البوليساريو منذ وقف إطلاق النار بإشراف الأممالمتحدة والصليب الأحمر الدولي، وتجاوز عدد هؤلاء 3000 عسكري منهم ضباط كبار. يوحي بان فيها قدرا من الحقيقة تجاذبات داخلية وإفرازات نجحت البوليساريو في الغالب و حتى الآن في تفكيك التجاذبات الداخلية بطابعها القبلي والاجتماعي والسياسي التي كانت تواجهها باستمرار، وحتى عندما تجاوزت العلاقات الاجتماعية العامة في المخيمات وأخذت طابع صراع تنظيمي داخل النواة القيادية لم يحدث أن ضرب في العمق سياسة التوافق الاجتماعي التي كانت ضرورية لمواصلة المشروع السياسي والعسكري للبوليساريو، برغم أن ذلك لم يحل دون خروج الوضع عن السيطرة وتحوله أحيانا إلى عنف اجتماعي يعبّر عنه في شكل مظاهرات احتجاجية في المخيمات، كتلك التي حدثت سنة 1988 وتدخلت الأجهزة الأمنية الصحراوية لإخمادها، وألقت بثقلها لتحرك نقاشا واسعا وتغييرات عميقة في أجهزة البوليساريو•• شكّل ذلك تحديا كبيرا للبوليساريو، ودفعها بعد سنتين إلى تشكيل خلية تفكير لحل الأزمة التي كانت آخذة في التنامي ضمت العديد من الكوادر العليا المتعارضة مع النواة القيادية الصلبة، واجهت البوليساريو مرحلة ما بعد الحرب التي أفرزت مطالب وذهنيات جديدة وسعت من الاحتياجات الاجتماعية التي كانت مغيبة خلال أيام الحرب، مع ظهور جيل شاب جديد داخل المخيمات أصبح يشكل النسبة الأكبر عدديا من الصحراويين، متعلم، مثقف ومنفتح على كثير من الثقافات الأجنبية التي تشكل له مرجعية للمقارنة• ولذلك عجلت قيادتها بالعديد من التغييرات على مستوى الأجهزة السياسية للدولة والحزب تهدف إلى استيعاب العناصر الناقمة والقضاء على بؤر التوتر الاجتماعي، ظهرت في تعديلات متسارعة حملتها المؤتمرات الأخيرة، فألغت الثنائية القيادية مكتب سياسي ولجنة مركزية، تلك المقتبسة عن الفلسفة التنظيمية اليسارية، وتم تعويضها بأمانة وطنية تنتخب باقتراع سري مباشر من المؤتمرين • كما فرضت الانتخاب السري المباشر كأداة وحيدة لاختيار المسؤولين السياسيين بعد ضبط قوائم أسمية تحصي الهيئة الناخبة على كل المستويات ولا تتركها تقديرية تخضع للحسابات الذاتية• وعلى مستوى جهاز الدولة أقرت البوليساريو هيئة تشريعية برلمانية سنة 95 هي المجلس الوطني الذي استفاد من تعديلات دستورية تمنحه صلاحيات رقابية على أداء الحكومة والمسؤولين المحليين، ويتحدث الصحراويون اليوم باعتزاز أن برلمانهم الفتي هو أول برلمان في المنطقة المغاربية يسقط حكومة بلاده بتهمة سوء التسيير والأداء. والمعادلة القبلية التي هي جزء أساسي لا يمكن تجاوزه في تكوين الصحراويين منذ قرون وتمتد بشكل تلقائي في العديد من الأجهزة والأطر السياسية والاجتماعية الأخرى• حاولت البوليساريو تخفيف وطأتها على المؤسسات التنظيمية في الحزب والدولة، ومحو الصورة التي تقدم عنها بأنها إفراز لتحالف قبلي ضيق تقوده قبيلة الرقيبات • ويبلغ تعداد القبائل الصحراوية حوالي 20 قبيلة، أكبرها وأقواها نفوذا قبائل الرقيبات، لذلك تم سنة 2000 تأسيس هيئة دستورية تجمع أعيان وشيوخ مختلف القبائل وفروعها، هي المجلس الاستشاري ويتكفل بإعطاء آرائه للرئيس محمد بن عبد العزيز في ملفات وقضايا بعينها، وكان هذا المجلس في الحقيقة خطوة ذكية تمكن أعيان القبائل من الحفاظ على مركزهم الاجتماعي والسياسي خارج هيئات الحزب والدولة الكبرى التي لا تسمح لهم مؤهلاتهم الثقافية ليكونوا فيها، وأيضا لاستيعاب الفروع القبلية الصغيرة المحدودة ديموغرافيا ، قبيلة الرئيس محمد ابن عبد العزيز وعدد آخر من كبار قياديي البوليساريو، التي تذهب بعض الدراسات إلى أنها تشكل وحدها أكثر من ثلث الصحراويين في المخيمات وفي الداخل الخاضع للسيطرة المغربية، و عرفت تاريخيا بأنها قبائل مقاتلة متمردة من البدو الرحل قاتلت بشدة خلال القرون الأخيرة الاستعمار الإسباني والفرنسي وعدد من سلاطين العرش العلوي أنفسهم• والعرش المغربي خضع لهذه المعادلة القبلية عندما شكل المجلس الاستشاري للشؤون الصحراوية، هيئة تضم الصحراويين المساندين لأطروحة الحكم الذاتي، ومنح منصب الرئيس ونائبه الأول لشخصين ينحدران من قبيلة الرقيبات• شهد مؤتمر البوليساريو نقاشات ساخنة مغلقة تضمنتها انتقادات واتهامات للمسؤولين المحليين بخصوص طريقة إدارتهم لعدد من الملفات، مثل انتظام حصص التموين بالغذاء والماء الشروب وتطبيق النصوص القانونية والتنظيمية المعتمدة مركزيا وضبط قوائم التلاميذ المدرجين ضمن البعثات التعليمية والترفيهية الصيفية في الخارج. بعد ثلاثين سنة على وجوده في اعلى هرم قيادة الحزب والدولة، أصبح حمد عبد العزير يشكل ظاهرة قائمة بذاتها في البوليساريو، ليس للرجل الميزات الخطابية للشخصية الكاريزماتية بشكلها المعروف، لكنه يشكل فعلا أحد نقاط الالتقاء الكبرى لدى الصحراويين، فحتى الانتقادات القاسية التي كانت توجه للقيادة كانت تركز من المؤتمرين على الأمانة الوطنية وليس على شخصه، وعندما تقدم طوال ساعة ونصف للاجابة على كل الانتقادات والتدخلات، قال أن "ما تعيشه البوليساريو هو أرقى ما يمكن الوصول اليه من الديموقراطية في ظل الحب والتنظيم الواحد" وبدا في كلامه جزء هام من الحقيقة لمن شهد البوليساريو من داخلها على عفويتها في أشغال المؤتمر المغلقة، ومنذ العام 1998 أدخل المؤتمر العشر تعديلا هاما يسمح بوجود مترشحين منافسين له في انتخابات الأمانة العامة، وواجه منافسة حقيقية من مترشحين آخرين لا يمكن أن يكونا لمن يعرفهما مجرد أرانب سباق لتسخين الجو الانتخابي، هما ابراهيم غالي، وزير الدفاع الأسبق وأول أمين عام للبوليساريو بعد مقتل مؤسسها الولي مصطفى السيد، ويقود حاليا أهم تمثيلية للبوليساريو في دولة أجنبية هي إسبانيا، والمنافس الثاني هو رئيس البرلمان الحالي والوزير الأول الأسبق محفوظ علي بيبه، برغم أن محمد ابن عبد العزيز كان يحسم نتائج الانتخابات في دورها الأول بنسبة جد مرتفعة، إلا أن توقع نتائج الانتخابات مسبقا لم يكن ممكنا بأي حال من الأحوال• وأحدث المفاجأة الكبى هذه المرةعندما اقترح ووافق المؤتمرون ان يتم تحديد عهدة الأمين العام بعهدة واحدة قابلة للتجديد، أما الأمانة الوطنية، وهي الهيئة القيادية العليا في الحزب، وتتكون من 33 شخصا منتخبين كلهم، فتعرف بدورها صراعا شرسا، وفي المؤتمر الأخير، لم يتمكن سوى ما يحسب على أصابع اليد من الفوز في الدور الأول• أما البقية ومن بينهم وزراء وقادة نواحي العسكرية فقد انتظر الدور الثاني ليمر بصعوبة إلى الأمانة الوطنية• الضريبة الداخلية لخيار المفاوضات أثار بعض المتدخلين الأنباء التي روجت لها مصادر اعلامية مغربية عن وجدود انشقاقات داخل البوليساريو يقودها عدد من كوادرها السابقين، و تعترف قيادة البوليساريو أن حالة اللاحرب واللاسلم التي تستمر منذ 16 سنة بقدر ما كانت في بدايتها خيارا استراتيجيا لقطف ثمار ''التضحيات''، فقد كانت لها ضريبتها الداخلية سياسيا وتنظيميا، وأفرزت بعض الاختلالات منها أنها أربكت أفكار ومواقف بعض كوادرها في مستويات مختلفة من المسؤولية، فمثلا وجد عدد من قدامى القادة العسكريين أنفسهم في حالة ''فراغ'' أفقدهم البريق الأسطوري الذي اكتسبوه أيام الحرب، خاصة بالنسبة لأولئك الذين يفتقدون لمؤهلات ثقافية وسياسية تمكنهم من تجديد مواقعهم في ''شكل النضال الجديد بعيد وقف اإطلاق النار'' حيث أصبحت معركة البوليساريو فيه معركة مؤسساتية ودبلوماسية أساسا• كما أن القدرة على تحمّل الأوضاع الاجتماعية القاسية في المخيمات لم تكن نفسها بالنسبة للجميع بالذات في غياب أفق واضح للحل السلمي، وهي التناقضات التي كان المغرب نفسه يراهن عليها بذكاء مع مرور الوقت، ، فقد تطورت وتكثفت السياسة المغربية في محاولاتها للاستيعاب الاجتماعي والسياسي لصحراويي الداخل ما وراء الجدار الدفاعي، وامتصاص الميولات الاستقلالية لهم تغذي رغبة استراتيجية لتفريغ مخيمات اللاجئين ذاتها من وعائها البشري الذي يشكل عمود وجود الدولة الصحراوية• كل هذا جعل قيادة البوليساريو بعد أن انخرطت في مسار التسوية الأممي تواجه بروز مواقف وآراء لبعض كوادرها السابقين تريد أن تنحى بها في اتجاهات مختلفة، منها من يعيب عليها ما يعتبره ''جمودا واستسلام''، والبعض الآخر على النقيض أصبح يشكك في ''المشروع الاستقلالي'' نفسه ويفضل مغادرة الصفوف والعودة إلى المغرب• وإلى حد الآن، يبدو بوضوح لمن يزور الصحراء الغربية ويتحدث إلى الناس وكوادر الحزب والدولة في المخيمات أن قيادة البوليساريو لا زالت تمسك زمام القضية الصحراوية وقادرة على استقطاب أغلب الصحراويين في المخيمات وفي المنفى على الأقل، إلى رؤيتها للحل وهي وجوب استنفاد كل أسباب الحل السلمي للأزمة عن طريق استفتاء تقرير المصير، مع إبقاء الحل العسكري كخيار احتياطي إذا تبين تراجع الأممالمتحدة عن مشروعها، غير أن ذلك لم يحجب الصدى الذي أحدثه عودة بعض كوادرها إلى المغرب خلال السنوات الخمسة عشرة الأخيرة مثل أيوب الحبيب، أحد أبرز قادة وأبطال الحرب ضد المغرب، وهو أحد الذين تصنفه البوليساريو في خانة ''ضحايا السلم'' •• في الجهة المناقضة للعائدين للمغرب برز إعلاميا تيار يسمي نفسه البوليساريو- خط الشهيد نسبة إلى ما يعتبره خط مؤسس البوليساريو الولي مصطفى السيد، يتهم القيادة الحالية بتقديم تنازلات كبيرة للمغرب والأممالمتحدة دون الحصول على شيء، ويدعو لاستئناف الحرب كحل وحيد للاستقلال، وأول ما ظهرت هذه الحركة بشكل علني مطلع سنة 2006 عبر بيانات وتصريحات إعلامية انطلاقا من إسبانيا، ويقال إن الحركة تضم أيضا قياديين سياسيين وعسكريين سابقين في البوليساريو ممن يدعون إلى الخيار العسكري كحل للأزمة يقدمون أنفسهم كحركة وتيار تغييري داخل البوليساريو لا خارجها، إذ يسلم هؤلاء أن جبهة البوليساريو تبقى ''الممثل الوحيد للشعب الصحراوي''، لكن تيار البوليساريو خط الشهيد عرف في شهوره الأولى هزات داخلية وانقسامات على مستوى قيادته، كما أظهرت تصريحات الناطق الرسمي باسمه نوعا من التناقض يدل على أن مؤسسيه لا يجتمعون على نفس النظرة بخصوص رؤيتهم لواقع القضية الصحراوية والحل المرتجى لها• عبد النور بوخمخم