توفيق رباحي trebahi@gmail.com المصائب لا تأتي فرادى، لهذا ستضطر حكومة العزة والكرامة الى خوض امتحانين غير منتظرين نزلا في التوقيت الخطأ تماما، ومن شأنهما أن يشوِّشا على العهدة الرابعة (باعتبارها الهدف بعد الثالثة إن شاء الله)! الأول فرضه عليها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، والثاني فرضته الشرطة الدولية (انتربول). الأول موضوعه التحقيق في تفجير مبنى الأممالمتحدة في حيدرة، والثاني موضوعه الشاب مامي ومشكلته الأخلاقية مع القضاء الفرنسي. نبدأ بالامتحان الأول. يبدو لي أن حماة الجزائر كانوا أقوى وأفضل حالا في النصف الثاني من التسعينيات. آنذاك كانوا ينهضون بقوة للرد على دعاة لجان التحقيق الدولية (في مذابح بن طلحة وما شابهها) ودحض مزاعم مسوّقي سؤال "من يقتل من؟" وبقايا المتمسكين ب "سانت إيجيديو". آنذاك كانت السلطة الجزائرية متحالفة مع مجتمع مدني ولدته هي ورعته رعاية جيدة فردّ الجميل وزاد فوقه حبة مسك. وقد رأيت في لندن صحافيين ونشطاء جزائريين جاؤوا من داخل البلاد يدحضون نظريات المؤامرة ويردّون على سؤال "من يقتل من؟" بثقة أقوى من ثقة السفراء ودفاع الوزراء. إذا كان أحد هؤلاء الذين خاضوا معارك النصف الثاني من التسعينيات يقرأ هذا الكلام، فهو حتما، سيقول في قرارة نفسه: آنذاك كانت الحرب تستحق ان تُخاض! كانت لها قيمة ويختبئ وراءها أمل، أما اليوم فاختلف الحال. وربما زاد آخر: آنذاك كان عبد العزيز بلخادم في المعكسر "الآخر"، وقد تغيّر موقعه اليوم! دار الزمن وأصبح من الممكن اختزال صورة المعركة اليوم في بعض التفاصيل: رد بلخادم على كي مون في مدريد، تعليق سفير الجزائر لدى الأممالمتحدة لصحيفة الخبر (السبت)، صمت وزارة الخارجية وأخيرا صمت الرئاسة. هذه كلها مؤشرات على أن وجه المعركة اختلف، وكذلك أدواتها والخائضين فيها. أسوأ من ذلك أن السلطة الجزائرية تخوض المعركة وحيدة، أو لنَقُل بحلفاء أقل، وبطرق تعيسة. بماذا وكيف يمكن للسلطة الجزائرية أن تقاوم قرار بان كي مون بتعيين لجنة تحقيق دولية؟ لا يبدو ان بحوزة هذه السلطة أسلحة قوية وناجعة. فهي أمضت سبعة أو ثمانية أعوام تقطع الغصن الذي تجلس فوقه. ضف إلى ذلك أن وزارة الخارجية أصابها الصمم منذ مدة، ورئاسة الحكومة مشغولة بالعهدة الرابعة (بعد الثالثة إن شاء الله)، والرئاسة لا يعرف أحد في ماذا وكيف تفكر، لكن الارجح ان التفكير هناك لا يخرج عن سياق تفكير الحكومة والخارجية. بقيت لويزة حنون وأبو جرة سلطاني وأحمد أويحيى وبعض الصحافيين الغيورين على سمعة البلاد وعذريتها. لكن المحزن أن هؤلاء، من حنون نزولا الى زملائنا الصحافيين، لم يعد بمقدورهم خوض المعركة بنفس قوة النصف الثاني من التسعينيات. أكاد أقول إن حالهم يشبه مباراة الكرة التي لعبتها الجزائر مع ألمانيا في 1982.. ربحتها، لكن يستحيل، منطقيا، ان تربح باقي المباريات مع ألمانيا في ما تبقى من الزمن. انظروا إلى الطريقة التي أُحرق بها الشريف عباس في موضوع ساركوزي لتتأكدوا أن الزمن تغيّر والجزائر أيضا.. وأننا لم نعد في مكانة مَن يرفض لجنة دولية تقرّها الأممالمتحدة. نقول لا في أروقة البرلمان، ونشبّه الأممالمتحدة بالعذراء المزيّفة. ولكنها "لا" غير مانعة، والتشبيه لن يغيّر من واقع الحال شيئا. وأخيرا، عندما يقول بلخادم "لا نفهم لماذا قرار إنشاء اللجنة لأن عملية تفجير مبنى الاممالمتحدةبالجزائر ليست فريدة من نوعها، فقد حدثت في العديد من دول العالم من قبل" (افهموا لماذا التحقيق معنا دون الآخرين) فهو يؤكد قولي إن هذه السلطة لا تعرف ولا تستطيع ولا تملك أسلحة الرد على قرار كي مون. وأسوأ من هذا، لم يفهموا جيدا تغيّر العلاقات الدولية وأن عليهم أن يقبلوا بالواقع الجديد الذي ليس في صالحهم. الامتحان الثاني (بغض النظر عن الجدل الدائر حول هل سلّمت الشرطة الدولية الجزائر طلب استلام مامي أو لا، فهو نقاش لن يغيّر في عنوان النقاش شيئا). إذا كان الامتحان الأول فيه منطقة رمادية تتيح هامشا من المناورة وتجعله يتحمّل قليلا من الأخذ والرد الدبلوماسي، فالثاني أوضح. نعرف مسبقا كيف ستتصرف هذه السلطة مع مطلب "انتربول" (حاليا أو لاحقا) بتسليمه الشاب مامي: مثلما تصرفت في قضية الأخضر بلومي وساعدته على التخلص من مطاردة مشابهة عمرها 22 سنة بسبب شغب أعقب مباراة كرة في القاهرة. ومثلما تظافرت جهود الرئاسة والخارجية ووزير العدل، الطيب بلعيز، وفاروق قسنطيني في تحرير أولئك الجزائريين المنسيين في غوانتانامو منذ ست سنوات، وجعلت الحكومة الأمريكية تعتذر لهم وتعوّضهم. ومثلما تدخلت بحزم لدى الحكومة البريطانية فحالت دون تسليم الطيار لطفي رايسي من لندن الى أمريكا في 2002. ومثلما "حررت" عشرات الشبان الجزائريين المسجونين بليبيا في ظروف مهينة لا إنسانية. ومثلما ستفعل المستحيل لتستعيد حقوق الجزائريين الذين سيُهانون (في المستقبل) بشوارع ومخافر شرطة الدول العربية والأوربية (آخرهم أساتذة جامعة سطيف مع المخابرات المصرية). نعرف بالتجربة أن رصيد السلطة الجزائرية، بكل أجهزتها، في الدفاع عن مواطنيها في الخارج، ثمين يستحق التنويه والإشادة. هذه الجهود وهذا الرصيد هو ما سيحول دون تسليم الشاب مامي للقضاء الفرنسي، وهو ما سيعيد "أمير" غناء الراي الى أصله، أهله وذويه، يُحيي الأعراس في قرى وبوادي سعيدة والبيّض بعد حلّ وترحال داما عقدين في القارات الخمس. هكذا سيستعيد "الأمير" مجده الغنائي. وهكذا ستعم الفائدة، ينعم سكان تلك المناطق بغناء الابن الضال، ويعيد هذا الابن اكتشاف مزايا أن تعيش في وطنك عزيزا بين أهلك بعيدا عن مؤامرات اللوبي اليهودي. وهكذا سيتفرّغ للعهدة الرابعة (طالما أن الثالثة يكون قد فات أوانها) فتستفيد من جهوده ومكارمه، وما أحوجها إلى ذلك.