تسارعت الأحداث خلال الأسابيع الأخيرة في الجزائر وكان أبرزها النشاط الدبلوماسي الكثيف الذي باشرته لنزع فتيل الأزمات في بلدان الجوار وتحديدا ليبيا ومالي. وتمكنت الجزائر من تهدئة الوضع على حدودها الجنوبية بجمع فرقاء الأزمة المالية إلى طاولة المفاوضات مع الحكومة المركزية برغم الصعوبات ومحاولات التشويش على المفاوضات من أطراف إقليمية (المغرب) ودولية (فرنسا)، غير أن الأزمة في ليبيا بدت أكثر صعوبة ومستعصية على الحل نظرا لتعقيدات تشوبها وتداخل مصالح الدول المجاورة والغربية فيها. ولم تتخذ الجزائر موقف المتفرج مما يحدث في ليبيا بل بادرت مرارا في الدعوة إلى حوار ليبي ينهي الأزمة سياسيا ويضع حدا للاقتتال الدائر بين الفصائل المتناحرة، حيث استضافت على مدار الأيام الماضية العديد من الشخصيات السياسية والعسكرية في ليبيا على غرار علي الصلابي ونوري أبو سهمين وعبد الحكيم بلحاج، والأطراف الممثلة للشرعية الانتخابية. وقال وزير الخارجية رمطان لعمامرة، الإثنين، "إنّ الجزائر مستعدة لاستضافة حوار بين الفرقاء الليبيين من أجل إيجاد حل نهائي وسلمي وسياسي للأزمة الليبية". كما تحركت الجزائر إقليميا ودوليا لتسويق مبادرة الحل السياسي للأزمة في ليبيا وتنسيق المواقف مع دول الجوار وعلى رأسها تونس.
اتصالات سرية بعيدا عن أعين الإعلام وفي هذا الشأن، أشارت مصادر إعلامية إلى اتصالات مكثفة تجري من أجل تيسير انعقاد مؤتمر الحوار الليبي الذي ستحتضنه الجزائر قريباً، وأن هذه الاتصالات بقيت سرية وبعيدة عن الإعلام بهدف عدم التشويش على مساعي الحل، والوصول بها إلى النتيجة المرجُوّة المتمثلة في جمع كل أطراف النزاع لإجراء حوار هو الأول من نوعه منذ اندلاع الأزمة، وربما منذ اندلاع الثورة في ليبيا. وأكدت المصادر أن الحوار الليبي يمكن أن ينعقد في مدى قريب جداً، وأن "هناك أملاً كبيراً في نجاح هذا المؤتمر". وأضافت أن الجزائر نجحت في المحافظة على اتصالات بكل الأطراف المتنازعة، ما أهّلها للعب دور كبير في جمع كل الفرقاء إلى طاولة الحوار. وأصاب المواطن الليبي "ضجر كبير" من واقعه المعيشي الصعب الذي تغلبت عليه مظاهر الأسى والدمار، ودفع الحال بآلاف الليبيين إلى الهجرة الجماعية، وتسرب اليأس من إمكانية حلّها قريباً، بسبب تعنّت الأطراف المتنازعة، وتشبث كل طرف بموقفه، وإصرار البعض على حسم النزاع بقوة السلاح. وزادت التدخلات الأجنبية من تعقيد الوضع، خصوصاً مع اقتراب بعض الفصائل من إدراك حقيقة أن السلاح لن يحل المشكلة، وأن الحسم العسكري أمر في غاية الصعوبة، ما جعلها تبدأ بالنظر إلى الحوار باعتباره السبيل الوحيد لفض النزاعات بين أبناء البلد الواحد. ونتيجة للوضع الصعب بدأت تتشكّل في الساحة الليبية ملامح وعي بضرورة حل الأزمة عبر الحوار، وهو الأمر الذي استثمرته القوى الإقليمية المعنية باستقرار المنطقة وأمنها، وفي مقدمتها الجزائروتونس. وأكدت مصادر إعلامية أن "هناك تقديراً ليبياً لموقفي الجزائروتونس القويين الرافضين للتدخل الأجنبي في ليبيا".
الغنوشي حلقة الوصل مع الشخصيات الليبية وتبدو جليا محاولات الجزائر وسعيها في كل الاتجاهات نحو إيجاد حل ينهي الأزمة في ليبيا من خلال التنسيق مع زعيم "حركة النهضة التونسية"، راشد الغنوشي، الذي تعول عليه الجزائر لأن يلعب دورا بارزا في إقناع الأطراف الليبية بالمشاركة في الحوار، بناءً على مبدأ "إسناد الشرعية الانتخابية بشرعية توافقية" على غرار التجربة التونسية، خصوصا وأن هناك استعداداً ليبياً وقبولاً بالفكرة. ولا يقتصر دور الغنوشي في الإتصال بشخصيات التيار الإسلامي بل التحاور مع جميع أطراف النزاع في ليبيا، حيث جرت اتصالات في هذا الشأن مع عدة أطراف بهدف إنجاح المؤتمر المرتقب بالجزائر. وكان الغنوشي ورئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة قد أعلنا خلال زيارة الأول للجزائر، رفضهما المطلق للتدخل الخارجي في ليبيا، وشدّدا على أن التدخل لا يمكن أن يحل المشكلة بل سيزيد تعقيدها، وهي الرسالة التي وصلت إلى الأطراف الليبية المتنازعة، فضلاً عن الدول الأخرى التي تدرك حجم الجزائر وثقلها، الأمر الذي يزيد من حظوظها في التوصل إلى لقاء يمكن أن يشكل أمام الليبيين بداية الطريق للخروج من الاقتتال الدائر. وبعث الغنوشي، الأسبوع الماضي، برسالة إلى رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، يدعم فيها إجراء الحوار، ويشكر الجزائر على مساعيها الرامية لوقف الاقتتال. وتواجه قطر اتهامات بأنها المصدر الرئيسي في خلق الميليشيات الإرهابية في ليبيا، فيما تواجه والإمارات اتهامات بتدخل عسكري بدعم من مصر والسعودية.
فرنسا تريد نفطا ليبيا رخيصا موازاة مع ذلك تؤكد مصادر وجود رغبة دولية، أوروبية تحديداً، لدعم الاستقرار في ليبيا، والتشجيع على مبادرات الحوار، كونه لا مصلحة لدول القارة العجوز في استمرار حالة الفوضى في ليبيا القريبة، لا سيماً بالقرب من آبار النفط والغاز. لكن دولا أوروبية أخرى وعلى رأسها فرنسا لم تخف حماسها الكبير في دعم خيار التدخل العسكري في ليبيا، أملا في الحصول على بترول وغاز بتكلفة زهيدة. وترجمت باريس هذا الحماس إلى دعوات علنية تبعتها زيارات ميدانية إلى بعض الدول المتضررة من الوضع في ليبيا منها الجزائر قام بها قادة عسكريون من صنف قائد أركان الجيش الفرنسي للطلب من الجزائر تنسيق تدخل فرنسي في الأراضي الليبية وهو الطلب الذي قابلته الجزائر بالرفض. وبنت باريس موقفها للتدخل في ليبيا اعتمادا على دعوات قد أطلقها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في أكثر من مناسبة للمجتمع الدولي بضرورة التدخل العاجل لوضع حد للاقتتال داخل ليبيا. ووقعت وزارة الدفاع المصرية ونظيرتها الليبية تبعا لذلك وثيقة تعاون عسكري من 15 بنداً، تشمل كافة تفاصيل التعاون في المجال البري والجوي وكيفية تبادل الوفود العسكرية. وتهدف الاتفاقية إلى زيادة التعاون العسكري من خلال تنمية وتوطيد العلاقات الثنائية المتبادلة في المجال الجوي. كما نصت الاتفاقية على تشكيل لجنة عسكرية مشتركة من الطرفين تعني بتنمية وتفعيل ومتابعة مجالات التعاون العسكري المشار إليها بالاتفاقية، على أن تجتمع اللجنة ثلاث مرات في العام بالتناوب في كلا البلدين وكلما اقتضت الضرورة لذلك باتفاق الطرفين. وذكرت الاتفاقية أنه يجوز انضمام أي دولة إلى هذه الاتفاقية وذلك بموافقة كتابية من الطرفين، كما يتعهد الطرفان بعدم إبرام اتفاق دولي أو الدخول في علاقات دولية تتناقض أو تتنافى مع أغراض تلك الاتفاقية. وتعمل الجزائر من خلال تحركاتها الدبلوماسية "الإستباقية" في كل الاتجاهات على تفكيك قنابل موقوتة على حدودها الجنوبية والجنوبية الشرقية وعدم ترك الأمر لعنصر المفاجأة الذي قد يحمل ما لا يحمد عقباه.