شاع في الآونة الأخيرة وبشكل جد لافت، إقدام عدد كبير من الرقاة على تنظيم جلسات رقية جماعية بحجة التوافد الكبير للمرضى عليهم، وعدم قدرتهم على الاستجابة لرغباتهم بشكل فردي، وذلك دون مراعاة الأثار السلبية التي تنجر عن العملية، والتي يدفع ثمنها المقبلون على الرقية بغرض التداوي بالدرجة الأولى، جراء مشاهد الرعب والخوف التي يحضرونها دون استعداد نفسي مسبق. جعلت الجلسات الجماعية العديد من طالبي الرقية الاستغناء عنها، بشكل كلي، كما تطلب الأمر من أخرين الانطلاق في رحلة رقية جديدة للتدواي، بعدما أصيبوا بحالات تلبس خلال الجلسات الجماعية، لغياب التحصين وكذا الخوف والبكاء الذي ينتاب المرضى، وهو الواقع الذي ستستعرضه "الشروق" من خلال حضورها لواحدة من هذه الجلسات إلى جانب شهادات أخرى لمقبلين آخرين عليها. الفكرة في البداية، كانت لا تتجاوز مجرد انجاز استطلاع عن درجة إقبال المواطن البجاوي على الرقية الشرعية -غير أن الرياح جرت عكس ما خططنا له-. قصدت رفقة صديقة إحدى مراكز الرقية التي ذاع صيتها مؤخرا، والذي دلتني عليه إحدى الزميلات، كان التصور الذي وضعته لا يتعدى الحديث مع المقبلين على الرقية بالمركز والاستماع لقصصهم بقاعات الانتظار، دون أن يعلموا بصفتي، غير أن التنظيم المحكم للمركز خاصة بوجود عاملة للاستقبال تقدم المواعيد لقاصديها وتراقب مواعيد المتوافدين دون أن تغفل شاردة أو واردة، صعب من مهمتي وجعلني مجبرة على أخذ موعد رفقة صديقتي على غرار البقية، والذي لن يكون إلا بعد شهر كامل، مع وجوب وصولنا للمركز في حدود السابعة ونصف صباحا.
جدران عازلة للصوت وميكروفون بوصول اليوم المعهود توجهت رفقة زميلتي إلى المركز، وصلنا في حدود السابعة وأربعين دقيقة، كنت أعتقد أني سأكون من الأوائل الذين وصلوا المركز، ما يتيح لي الفرصة واسعة للحديث والاستماع للمقبلين على الرقية، غير أن توقعاتي خابت مرة أخرى، عندما وجدت القاعة المخصصة للرقية مكتملة، ولا ينقصها غير ثلاثة عناصر -أنا صديقتي وشخص ثالث- ضمن الفوج الأول، حيث وجهتنا العاملة بعد سؤالها عن موعدنا مباشرة إلى قاعة الرقية تفاجأت وقلت في نفسي "إنهم جدّيون فعلا"، كنا حوالي خمس عشرة واحدة، موزعات جلوسا على ثلاثة كنبات، وبالتحاق العنصر الأخير بالقاعة أغلقت العاملة الباب، أول ما شد انتباهي هو تزويد الجدران بطبقة عازلة للصوت، كما كانت قاعة الرقية تحوي مكتبا، جهاز تكبير صوت وميكروفون، ناهيك عن عدد كبير من الدلاء المرصوصة.
..إن بكت إحداكن فلا داعي أن يخاف البقية! ما هي إلا دقائق معدودة، بعد إغلاق الباب من قبل العاملة، حتى مزق صمت القاعة دخول الراقي الذي بادرنا بالتحية وأخذ سجله الذي دوّن فيه أسماؤنا، وعدد مرات إقبال كل واحدة على الرقية، بعدها مباشرة أخذ الميكروفون، أمرنا بإغماض العينين ووضع الكفين على الركبتين وقبل الشروع في الرقية قال - إن بكت إحداكن فلا داعي أن تخاف الأخريات لأن الأمر عادي "راودني خوف كبير، لكني استطعت التغلب عليه، والتصقت التصاقا شديدا بصديقتي، وسط خيبتي بسقوط مخططاتي في الماء. شرع الراقي في تلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، وكانت عيناي نصف مغلقتين أراقب بهما تحركات الراق، الذي كان يجوب القاعة وكذا تجاوب الشابات معه، وما هي إلا دقائق معدودة جدا حتى انطلقت في البكاء والصراخ شابة متحجبة، كانت جالسة في الكنبة المجاورة لمكان جلوسي ولا يفصلني عنها سوى فتاة واحدة، أصبت بخوف شديد جدا ورعب كبير من طريقة بكائها، لكني حاولت تمالك نفسي من خلال التركيز على الآيات التي كان يتلوها الراقي، وفجأة تقف هذه الأخيرة مخاطبة الراقي بصوتها وباللغة القبائلية قائلة له"لا لالا لن تتزوج"، في بداية الأمر لم أكن مستوعبة للأمر وقلت في قرارة نفسي "ما بها، الراقي يرقي وهي تقول له لا لن تتزوج"، لكن بعدما تقدم الراقي إليها وضربها بخفة على الراس وقال"اصمت يا هذا"، مؤكدا أن الجني هو من كان يتحدث، وبعد ببرهة همّت هذه الأخيرة بالوقوف مجددا والسير، كنت أعتقد أنها ستتوجه صوب الراقي أو صوب واحدة منا، تقطعت أنفاسي ولم أعد قادرة على مقاومة الرعب، غير أن وجهتها كانت الباب في محاولة للخروج، كونها لم تعد قادرة على تحمل سماع القران، إلا أن التي كانت بجانبها، والتي تبين أنها شقيقتها، كانت تحاول إرجاعها للجلوس مرات عدة، إلى أن تقدم الراقي إليها مرة أخرى وزجرها لتجلس. موازاة مع ذلك شملت موجة البكاء والصراخ الشديد عددا معتبرا من الحاضرات في القاعة، فيما شرع البعض في عمليات الاستفراغ، خاصة عند تلاوة آيات السحر واللائي بدأ الراقي بتوزيع الدلاء عليهن، الراقي وموازاة مع آيات الذكر الحكيم التي كان يتلوها كان يردد العديد من الأدعية الخاصة بإبطال السحر والعين والحسد، قبل أن يطلب من كل واحدة عمل لها سحرا - وبعزة الله- أن ترفع يدها اليمنى. لاحظت تجاوب الحاضرات اللائي رفع أغلبهن يدهن اليمنى، ذهلت لما رأيت وكادت أنفاسي تنقطع مجددا، خاصة من صورة تلك الشابة التي لم تكتف برفع يدها، والبكاء والصراخ، بل وقفت وتقدمت نحو الراقي، الذي نهرها وصفعها وأجلسها في مكانها.
شابة تموء كالقطة وأخرى تنطق باسم "من سحرتها" كانتا أصعب حالتين في الجلسة التي حضرتها، الأولى متعلقة بشابة لا تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، آية في الجمال، متحجبة، كانت تجلس على نفس الكنبة التي أجلس عليها، ويفصلني عنها شابتين، حين شرع في الرقية أحسست أن الكنبة تتحرك، لم أنتبه للسبب في بادئ الأمر لكني رأيت، بعدها هذه الفتاة تمسك برأسها بكلتا يديها وتهتز من سماع القرأن وتبكي أحيانا كثيرة، وخلال الأدعية التي كان يرددها الراقي حيث وبمجرد قوله "اللهم أبطل كل سحر وحسد في العلم، نطقت الفتاة مرددة "لا تقرأ لا تقرأ" وحين قال الراقي "اللهم أبطل كل سحر أعد من بقايا الحيوانات بدأت هذه الأخيرة بالمواء كقطة، أما الحالة الثانية فهي متعلقة بشابة في العقد الثالث من العمر، لم تتوقف إطلاقا عن البكاء والصراخ والوقوف، وحين قال الراقي "اللهم أبطل كل سحر ركب على صورة" زادت الفتاة من حدة الهياج والصراخ، وبدأت تقول "لم يتركوا لي شيئا" قبل أن تسترسل وتنطق باسم المراة التي سحرتها، كانت الشابة تتنفس بطريقة غريبة جدا وتخرج هواء قويا.
مشاهد أغرب من الخيال كما حضرنا مجريات جلسة الرقية الجماعية، حيث أن ما يحدث بها لا يستطيع للعديد من المرضى حضوره وتحمله، بسبب نشوب صراعات ومناوشات بين المرضى المصابين بالجن، أين كان الجن يهدد المريضة الحامل بالإجهاض خلال الجلسة، على غرار ما قام به سابقا قبل أن ينطق جني أخر، يسكن امرأة أخرى ويفضحه قائلا"أنت لا تعمل شيئا بل تكتفي بالتهديد فقط". وكان ذلك كافيا لنشوب صراع لم يخمد إلا بتدخل الراقي -تضيف-، أما الحالة الأخرى فهي لامرأة الجن الذي يسكنها ينطق باللهجة السورية، هذه الأخيرة غالبا ما تدخل في شجارات مع الحاضرين، امتدت خلال إحدى الجلسات إلى إفراغ المادة المستفرغة على رأس إحدى الحاضرات، فيما ذكر بعض ممن تحدثت إليهم "الشروق" أن المرضى وخلال الجلسات الجماعية غالبا ما يعمدون إلى إحراج الرقاة من خلال الاستقواء ومحاولة الاعتداء عليهم، وهو ما لا يحدث خلال الجلسات الفردية.
فتاة تصاب بالتلبس وجن ينتقل من مريض لأخر وغالبا ما تحدث أمور غريبة خلال الرقية الجماعية، وروى لنا أحد الرقاة على مستوى مدينة بجاية تخصص مؤخرا في"الحجامة النبوية"، أنه وخلال جلسة رقية جماعية أغمي على سيدة أخرجها من القاعة، غير أن الجن الذي كان بها، ظل في القاعة وانتقل إلى امرأتين أخريين أغمي عليهما بنفس الطريقة، قبل أن ينطق هذا الأخير على لسان إحدى السيدات ويفصح بأنه ذات الجني الذي كان في السيدة الأولى وسبب الانتقال هو توفر عامل الخوف لديهن، في حين روت سيدة ل"الشروق" أنه خلال حضورها لجلسة رقية جماعية، أصابها بالتلبس بعدما استعان بها الراقي لإخراج جن في سيدة مريضة من خلال الإمساك بها، حيث أوضحت أنها أحست ساعتها بريح تدخل في فمها، وبعد بروز بعض الأعراض عليها لاحقا اضطرت أن تقصد راقيا أخر، أين نطق الجن على لسانها مخبرا أنه سكنها خلال مساعدتها للراقي.
تجربة رعب غير مسبوقة لم أعش تجربة خوف مماثلة ولم أتخيل يوما أني سأحضر جلسة رعب كهذه، أحسست خلال تلك الساعة الطويلة جدا من الرقية، بالخوف والرعب فكرت مرارا في الخروج من القاعة، لكن خوفي أن يعتقد الراقي بأني مصابة بمس ويصفعني كباقي الحاضرات ويمنعني من ذلك، وتمنيت حينها لو اعلمت الراقي بصفتي، كان أكثر ما أخافني هو أن تعمد المريضات وهن في حالات اللاوعي إلى الاعتداء علي أو على إحدى الحاضرات أو حتى يجتمعن على الراقي، خاصة وأنهنم وقفن عدة مرات كان سلاحي الوحيد "باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم" لم أستطع التركيز على الرقية، وهو نفس الخوف والموقف الذي قاسمتني إياه مرافقتي التي ظلت تنام على ضوء المصباح لأيام طويلة بعد الرقية، فيما أوضحت أخريات ل"الشروق" بعد استكمال الجلسة، أنهن لن يعاودن حضور هذه الجلسات مهما كان الثمن، جراء الرعب الشديد الذي منعهن حتى من التركيز في آيات الذكر الحكيم والانتفاع بالرقية، في الوقت الذي امتنعت أخريات عن حضور هذده الجلسات، بعد علمهن بما يجري فيها على الرغم من حاجتهن الكبيرة للرقية.
الخوف والبكاء يسببان "التلبس" في الجهة الأخرى لما يجري ندد رقاة آخرون بما يحدث في الوقت الحالي، حيث أوضح السيد"عياش لحلاح" بهذا الصدد أن الجلسات الجماعية لم يجزها العديد من العلماء على غرار "ابن الباز"، موضحا أن هذه الأخيرة تصب في فائدة الراقي بالدرجة الأولى، من ناحية الوقت، الاسترزاق، كما أن حضور جن واحد خلال الجلسة، يمكنه من استحضار عدد كبير معه في آن واحد، وهو ما يسهل مهمة الراقي، غير أن تحديد العلة والمعلول في هذا النوع من الجلسات صعب جدا، خاصة في حالات السحر التي تستوجب على الراقي التقيّد مع الحالة فرديا، مضيفا أن الجن درجات وأصناف ولكل طريقة للتعامل معه. المتحدث أوضح ل"الشروق" أن أغلب المقبلين على الرقية من المصابين بأمراض نفسية وحضور هذا النوع من الجلسات، يزيد من تعقيد حالاتهم ويجلب لهم إصابات أخرى كالتلبس لتوفر عاملي الخوف والبكاء، ما يجعل الرقية لا تحقق هدفها في الشفاء.