اتخذت دراسة المأساة السورية بعدا فكريا وأكاديميا جديدا وطازجا ببروز المفكر السوري سلام الكواكبي في المشهد الإعلامي العربي والفرنسي،"المقْتلة السورية" على حد تعبيره، تناولها المفكر سلام بتعابير دقيقة ومحسوبة أكاديمياً بعيدا عن لغة التخوين والشطط والاتهام لهذا الطرف أو ذاك، كما يفعل السياسيون أو بعض المثقفين الانتهازيين أو الخائفين أو المتسرّعين. الحوار الذي ننشره يكتسي أهمية معرفية وعلمية بالغة واكتشافا فكريا حقيقيا وإضافة توثيقية لمن لم يسمع من قبل بحفيد عبد الرحمان الكواكبي.
من هو سلام الكواكبي شخصيا ومهنيا وفكريا؟ باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، درستُ في سوريا بداية وفي فرنسا لاحقاً، عملت مسؤولاً عن فرع حلب للمعهد الفرنسي للشرق الأدنى، وهو مؤسسة بحثية مرموقة تتواجد في سوريا منذ عشرينات القرن المنصرم، وأنا باحث مشارك في عدد من المراكز البحثية الأوروبية والأمريكية، لي دراساتٌ منشورة في كتب ومجلات علمية باللغات العربية والفرنسية والانجليزية والألمانية والاسبانية. تعاونت كباحث أساسي مع قسم العلوم السياسية في جامعة أمستردام، ودرّست في قسم الدراسات العليا في جامعة باريس الأولى، كما أني عضو مجلس أمناء عدد من المراكز العلمية والجمعيات المدنية، تنوّعت حقول نشاطاتي العلمية والمدنية بين مواضيع عدة أهمها الإصلاح السياسي والإعلام وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والهجرة والعلاقات بين أوروبا والمنطقة العربية.
هل من فكرة عن انحدارك من عائلة الجد الإصلاحي الكبير عبد الرحمان الكواكبي، وما هي الميزة التي طبعت شخصيتك نتيجة لذلك، ولم تتوفر ربما في الأحفاد الآخرين؟ جدي الأكبر ألهمني، ومنذ الطفولة، الرغبة في التخصص في هذا المجال، أنا أعتبر بأن التزامه بموضوع الحريات ومقارعة الاستبداد كانا بالنسبة لي محفزين أساسيين. إضافة إلى دوره، كرجل دين، في إصلاح الفكر الديني والدعوة إلى التجديد الديني والفصل بين الدين والدولة، كانت نقاط أساسية في تكويني السياسي والاجتماعي وحتى الديني.
في أي ظرف غادرت سوريا؟ وهل وجودك في الخارج يجعل منك أحد المعارضين الشرسين للنظام السوري ككثير من المثقفين؟ أنا أؤمن بدور المثقف العضوي وغير المحايد، غادرت سوريا بشكل عادي رغم أنني لم أستطع خلال وجودي هناك أن أنجز في ست سنوات رُبع ما أنجزته هنا في شهرين من كتابة مقالات وتقديم محاضرات ونشر أفكار. في حالة عددٍ من الدول العربية، ليست فقط حرية التعبير مقيدة أو معدومة، بل أيضاً حرية البحث العلمي في العلوم الاجتماعية، وبالنتيجة، لا بحث علمي حقيقي في أي من المجالات، أما أن وجودي في الخارج يُضفي على موقفي المبدئي"الشراسة" التي تتحدث عنها، فلا أعتقد، ولكنه منحني حرية التعبير التي لم أكن أتمتع بها سابقاً. وأنا أحتفظ بدوري النقدي لكل ظواهر الخلل والتعسف من قبل النظام أو سواه.
تتحدث في كل المناسبات عن الحرب في سوريا بحكم تخصصك وهويتك الشخصية الأصلية وموقعك الفكري.. فهل من جديد في سياق آخر التطورات؟ وكيف كان موقفك منها منذ البداية وحتى هذه الساعة؟ أنت تتحدث عن حرب في سوريا من خلال ملاحظتك للأحداث القائمة حالياً، ولكنه من المجحف إغفال انطلاق مسار ثوري تمثّل أساساً في تحركات شعبية تمخّضت عنها مظاهراتٌ حاشدة سلمية جوبهت بالقمع والقتل والتعذيب، أنا اعتبرت، ومنذ البداية، بأنه لا مناص من البدء بعمل سياسي إصلاحي جذري وتجاوز عبادة الفرد والدولة الأمنية. تطوّر الأحداث نحو الدموية الشاملة وتأجيج الشرخ الاجتماعي واستغلال التنوع المذهبي لتقسيم المجتمع بأساليب شيطانية، وتحققُ ما كان يرجى ويُعمل على تحققه من خلال بروز المجموعات المتطرفة، لم يغير من تفكيري، إلا أنه وضعني أمام محاولة فهم مآلات ما حصل ويحصل على مستقبل هذه البلاد، يجب أن لا ننسى، رغم محاولة البعض التشويش على هذه الحقيقة، بأن السوريين كانوا يصرخون بداية: "واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد"، القمع والقتل اللذان اصطبغا بمفاهيم مذهبية وطائفية، أدّيا إلى تغيير ليس في الشعار بل في الممارسة أيضا، وهذه مسؤولية سيُسأل عنها أصحابُها، ربما ليس أمام المحاكم، بل أمام التاريخ على الأقل.
كيف تفسر دعوة أوباما إلى عدم إعطاء "داعش" القوة التي يؤمن بها البعض بعد أن ملأت الدنيا ضجيجا إعلاميا في ظل توجه غربي غطى على السبب الفعلي للأزمة السورية الناتجة عن نظام مستبد؟ وهل هزائمها الأخيرة تفسر وحدها قوله؟ من موقعي المتواضع، أدعو أوباما إلى الاهتمام بما يمكن له أن يطوّر في إطاره فكرة أو حديثاً صحفياً أو رأياً، موقفه، أو بالأحرى لا موقفه من الحدث السوري، يجعله يتحمّل جزءاً كبيراً من مسؤولية تطور هذه المجموعة الإرهابية، وما الضربات الاستعراضية التي تقوم بها قوات التحالف الغربي على الطريقة الهوليودية في سوريا على الأقل، إلا دليل على فقدان الاستراتيجية والرؤية في هذا الملف، إضافة إلى أنها في الوقائع، عززت من تمدد التنظيم وأعطته بعض الشعبية لدى من وقع لهم ضحايا عن طريق أخطاء القصف الغربي، وأكبر دليل على عدم فعالية هذه الضربات، أنها أمضت أربعة أشهر لتحاول إخراج التنظيم من مدينة صغيرة (كوباني/عين العرب)، وفي المحصلة من قام بإخراجهم أساساً هم المقاتلون الأكراد بمؤازرة من الجيش السوري الحر، أما داعش، فهي هدية لا تقدر بثمن لكل من يريد أن يبتعد عن الاهتمام بمصير السوريين وبحياتهم وبمقْتلهم المستمر يومياً، قتل إنسان غربي أهم لدى وسائل الإعلام من موت مئات من السوريين بالبراميل أو بالحصار أو غرقاً في البحار سعياً للجوء.
الثورة السورية تعدّ الحلقة الأكثر درامية ودموية وخصوصية لعدة اعتبارات في مسار ما سمي بالربيع العربي، ما هو موقفكم منه بوجه عام؟ - لقد آمنتُ بداية بقدرة الشعوب على التعبير عن نفسها وبضرورة أن تؤطّر النخب هذا الحراك، ولكن غالبية النخب استقالت لأسباب تاريخية مرتبطة بطبيعة الأنظمة المستبدة، فبعضها هاجر أو تم تهجيره، وبعضها الآخر اعتقل أو فقد الحياة تعذيباً، ومنها من تمّ استقطابه حكومياً، ومنها من تم استغلال خوفه الإيديولوجي لدمجه في حراك أمني يستهدف كل محاولات التغيير، لقد عرفت الأنظمة المستبدة كيف تستفيد من تجارب عديدة لكي تستخدم أساليب شيطانية ناجحة في وأد التحركات الشعبية، فلجأت إلى التفرقة المذهبية وإلى تعزيز التطرّف ووأد محاولات التنوير طوال عقود. وهي أيضا لجأت إلى القوة الأكثر دموية لإيقاف التحركات التي بدأت سلمية وقبل أن تتحول إلى صراع مسلح، وهناك دولٌ عربية ادعت مؤازرتها لبعض المسارات الثورية ولكنها في الحقيقة ساعدت في تحولها إلى العنف لتعطي مثالاً مخيفاً لا يُحتذى به من قبل شعوبها.
تحدثت في ندوة "التحالف ضد تنظيم داعش.. ضجيج من أجل لا شيء" التي نظمتها جمعية "حرية سورية" في باريس عن المثقفين الذين تقاطعت مصالحهم مع المستبدين. هل يعدّ أدونيس واحدا منهم؟ وأين تتموقع أنت شخصيا؟ أنا لا أسمح لنفسي بتقييم وطنية أي إنسان، هذا عملٌ كانت وما زالت تمارسه قوى السلطة، وبالتالي لن أخوض فيه، أما إن أردت رأيي بما يقول الأشخاص، فيمكن لي أن أعلق على موضوع الرأي وليس على الشخص، أما بخصوص المثقفين، فقد أوردت في جوابي السابق، ما أعتقد أنه ساهم في تحييد بعضهم أو رميه في حضن الفكر الخائف أو الفكر المتردّد، أضيف إلى هذا، بأن هناك فجوة معرفية كبيرة توضحت الآن بين المثقف ومجتمعه؛ فالكثير منهم، كان بعيداً جداً عن فهم طبيعة مجتمعه المحلي، ما أدى إلى أن يُفاجئ ببعض التعبيرات المجتمعية التي ظهرت أثناء الحراك، وهذا الانقطاع لا يتحمّلون مسؤوليته بمفردهم، بل المنظمة القائمة كانت تمنع هذا التواصل من خلال حصر النشاط الثقافي والفكري بمؤسسات ذات طابع أمني، ساهمت في إضعاف المعرفة وفي تعزيز النخبوية ببعدها السلبي.
تأسفت لعدم توفر استراتيجية معارضة سورية موحدة وقوية، لماذا، علما أن الأمر يبدو طبيعيا؟ وما هو السبيل لتحقيق ذلك في ظل عوامل ومصالح عالمية غربية وعربية إسلامية إقليمية تفرض ذلك حتمياً؟ من الطبيعي أن تكون المعارضات السورية ضحية لعقود من منع الحياة السياسية ومصادرة المجال العام، ولكنني، وكأستاذ في العلوم السياسية، أسمح لنفسي بالقول إن الطالب يحصل على دبلوم في الدراسات المتقدمة في هذا المجال خلال أربع سنوات من الدراسة، وأنا أعتقد بأن المشهد السوري هو أهمّ حقل دراسي يمكن الاستفادة منه لمن يريد أن يستفيد، وبالتالي الاستناد إلى التصحير السياسي والثقافي في الماضي لم يعد مجدياً، وفي الآن ذاته، برزت أمراض نفسية عديدة لدى بعض من النخب السياسية تتعلق بالذات وبتضخمها السرطاني، وهذا ينعكس في أدائهم على مصائر السوريين بمختلف تلاوينهم، وهم أيضا سيكونون يوما مسؤولين أمام التاريخ، ضف إلى ذلك، أن التأثيرات الخارجية لعبت دوراً سلبياً في الأداء وتحولاته وتراجعاته وخيباته وهنّاته.
هل انتصر الأسد في المحصلة في ظل الصراع الشيعي السني الذي يخدم مصالح غرب مكيافيلي كعادته؟ وهل مازالت الفرصة سانحة لمستقبل سوري أفضل أم أن أخطاء وتقديرات الماضي حسمت الأمر لصالح النظام، وخاصة بعد مراهنته على تجنيد العالم ضد داعش باسم محاربة الإرهاب؟ أعتقد بأن سوريا لم تقل كلمتها الأخيرة، ولا استطيع أن أجزم بانتصار طرف أو غيره، الانتصار في نهاية هذه المقْتلة سيكون للموت، ولن يستطيع أحدٌ من أن يتبناه. الخاسر الأكبر هو الشعب السوري، ومهما كانت النهاية، فقد دمرت سوريا في جزئها الأكبر، ووقعُ التدمير الأخلاقي سيكون له آثارٌ وخيمة على أجيال المستقبل، التغريبة السورية ستكون أشدّ إيلاماً من سواها، وسيُسأل الجميع عما قام به وعما لم يستطع القيام به، لا منتصرَ في هذه المقْتلة سوى الموت والدمار، وهنيئاً لمن أراد تبنيهما. والضربات التي توجهها قوات التحالف الغربي إلى "داعش" استعراضية هوليوودية، في سوريا على الأقل، وأدت إلى تمدّد التنظيم، ما يدل على فقدان التحالف للاستراتيجية والرؤية في هذا الملف.