لعلّه لم يعد يخفى على أحد مدى الانحسار الذي بات يعرفه دور المحابر والمنابر في صناعة قناعات الأمة وتوجّهاتها، لصالح وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، وكيف أصبحت الميديا المدعّمة بالمؤثّرات المختلفة تعمل عملها في العقول والقلوب، ما جعل صوت الأئمّة والخطباء يبدو خافتا أمام صوت نجوم الصّحافة والإعلام، الذين يتفنّون في استعمال وسائل وأساليب التّأثير، لغرس القناعات التي عُهد إليهم بترويجها.. ووالله لو كان هذا الإعلام ينبض بهموم الأمة وآمالها وآلامها أو على الأقلّ يحترم عقيدتها وثوابتها وخصوصياتها، لهان الأمر، ولكنّه في كثير من الأحيان إعلام موجّه، يتحكم فيه من خلف الستار بارونات السياسة وقارونات الاقتصاد، ويُسخّر لصناعة أفكار تخلد بالأمّة إلى الأرض وتزيح الدّين من سلّم الأولويات. لقد بُليت الأمة الإسلامية في هذا الزمان بإعلام يتحرك وفق خيارات أصحاب السلطة والمال، الذين لا يهمّهم في أكثر الأحيان أن تحفظ عقيدة الأمة أو تصان ثوابتها، وإنّما همّهم أن يخدّروا العقول ويضرموا نيران الشهوات ويحوّلوا اهتمام الأمة من الدين والعقيدة إلى المآكل والمشارب والمناصب والشّهوات. "وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا". فمَنِ الذي حوّل كثيرا من شباب هذه الأمة إلى أنصاف وأعشار رجال يلبسون الضيق والمزري من الثياب ويدهنون الشعور ويتمايلون في المشية ويتذللون في الكلام؛ لا همّ لأحدهم إلا ما يلبس وما يأكل ويشرب.؟ أليس هو الإعلام؟ ومن الذي حوّل كثيرا من فتيات المسلمين إلى عارضات أزياء يجبن الشوارع والأرجاء، لا همّ للواحدة منهنّ إلا أن تلفت الأنظار وتحظى بكلمات الإعجاب والإطراء، ويلهثَ خلفها عديمو الرجولة المتشبهون بالنساء؟ أليس هو الإعلام؟ من الذي رفع مكانة المفسدين من المغنّين والممثّلين، ووضع مكانة المصلحين من الأئمة والعلماء والدّعاة، وجرّأ عليهم النّاس فاستحلوا الكذب عليهم والكلام فيهم بما لا يليق بمقامهم؟ أليس هو الإعلام؟ من الذي قلب الموازين في أمة الإسلام؛ فجعل الحقّ باطلا والباطل حقا، والمبطلَ محقا والمحقّ مبطلا، وجعل من المجرمين الوالغين في الدماء العابثين بالأعراض أبطالا ترفع صورهم ويهتف بأسمائهم، وجعل من المظلومين المقهورين شياطين تنسب إليهم بلاوي الأمة كلّها؛ فهُم من تسبّب في سقوط الأندلس وضياع الأقصى، وهم من حبس المطر ومنع الزرع، وهم من ثقب الأوزون وتسبب في الانحباس الحراري!.. أليس هو الإعلام؟ إعلام حمالة الحطب الذي قلب الموازين في أمة الإسلام، وأجلب بخيله ورجله على العقول والقلوب فأفسدها، وجرّعها خمورا ومخدرات يفوق تأثيرها تأثير الخمور والمخدّرات الحسية. لقد استغلّ هذا الإعلام المتعلمن الحملة العالمية للحرب على الإرهاب، وتمترس خلف دعاوى الحرية الإعلامية، وتبنّى شعارات تجفيف منابع التطرّف، ليعلن حربا لا هوادة فيها، ليس على عناصر التميّز في هذا الدّين فحسب، بل على أصوله ومبادئه وثوابته. لقد نسي القائمون على هذا الإعلام وهم في غمرة الفرح بالحرية التي أتيحت لهم لمهاجمة الدّين وأهله، أنّ هذه الأمّة وإن كانت تمرض فإنّها لا تموت، وأنّها إن خدعت برهة من الدّهر فإنّها لا تُخدع الدّهر كلّه، وسيأتي اليوم الذي ينقلب فيه على السّحرة سحرهم، ويحيق بالماكرين مكرهم، ويلقون المصير الذي لقيه معلّمهم الأوّل أبو لهب، الذي أرسى دعائم إعلام الكذب والتّدليس والتّلبيس والبهتان، وسعى لطمس نور الحقّ، فأنزل الله عليه لعائنه، وطمس بصيرته، وجعل نهايته عبرة لغيره؛ لقد كاد أبو لهب يموت كمدا عندما بلغه نبأ انتصار المسلمين في بدر، ثمّ أصيب بقرحة "العدسة" التي كان العرب يتشاءمون منها، ومات بها، ولم يستطع أحد من أقاربه أن يقربه ليدفنه حتى تعفَّن في بيته، وعندما اضطرّ أبناؤه لمواراة جيفته، حملوها إلى أعالي مكة، وألقوها من علٍ ورموها بالحجارة حتى وارَوْها. وهكذا، كما فشل إعلام أبي لهب وحمّالة الحطب في تشويه صورة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والوقوف في وجه دعوته، فإنّ إعلام الدّجل والتّزوير لن تدوم فرحته طويلا، "وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين" (آل عمران: 140). فعلى الدّعاة والمصلحين والعاملين لهذا الدين، ألا يلهيهم عواء الذئاب ونقيق الضفادع عن المضيّ قدما في طريقهم للتمكين لدين الله عزّ وجلّ. عليهم ألا يحزنوا لهذا الكمّ الهائل من الأكاذيب التي تملأ الفضاء، فمصيرها يوما أن تكون هباءً ونسيا منسيا، "إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين" (الحجر: 95 99). الدعاة إلى الله والمصلحون ينبغي ألا يستنفدوا طاقاتهم في مقارعة هؤلاء المبطلين والانشغال بترّهاتهم، فالغزال أسرع من الضّبع ولا يقع فريسة له إلا إذا أكثر من الالتفات خلفه وهو يشقّ طريقه.. نعم، ينبغي أن يتخصّص بعض المصلحين في الردّ على ترّهات إعلام الكذب وكشف زيفه، ولكنّه لا ينبغي أبدا أن تنشغل الأمّة كلّها بهذا فينسى القطار وجهته ويتأخّر عن موعده.