بعد العرض الموجز الذي قدمناه في المقالات السابقة، حول المؤاخذات التي تكتنف المسيرة الحديثة للحركة الطلابية الجزائرية، حيث سجلنا موقفنا التحليلي بشأن أكبر العقبات الكؤود التي كانت بالمرصاد لعطائها المتواضع في السنوات الأخيرة، فإن الأهم في هذه المساهمة هو إبداء الرأي السديد في اتجاه إعادة ترتيب الوضع برسم خارطة طريق، انطلاقا من الملاحظات السالفة الناجمة عن المعيقات المذكورة، مستنيرا بالتجربة المتواضعة التي خضناها في العمل الطلابي. لأنني متفائل بصحوة هذه الحركة الطلابية التي تحوي في مناضليها الكثير من المخلصين، لا سيما في ظل التحولات التي هبّت على العالم العربي في المرحلة الأخيرة، لذا أطرح هذه الورقة في عناوين جامعة حتى تكون نبراس برامج غير تقليدية، نابعة من سياسات منهجية عميقة تنشد تصحيح الوضع السائد، وفق الآتي:
1/ البناء العقدي المتكامل: إن العمل الطلابي خدمة عمومية نوعية بامتياز، تتجسّد في الالتزام الأخلاقي تجاه المنظومة الجامعية أوّلا، ثم أداء الواجب الوطني إزاء المجتمع ثانيا، ثم إنجاز الرسالة الحضارية للأمة ثالثا، لتُختم بالمساهمة الإنسانية عامّة. يهدف بصفة أساسية ليكون مُحرّكا جوهريا ضمن مسعى التغيير الشامل للواقع نحو الأفضل في كافة الميادين، لذا يُفترض أن تُشكّل الحركة الطلابية منبرا لحمل هذه الرسالة السامية. أي أنه امتداد لمشروع حضاري ينشد عصرنة الجامعة، رقيّ الوطن، مجد الأمة، وسعادة البشرية، بدوافع دينية، وطنية، قومية وإنسانية. إنه من الضروري أن تترسّخ هذه المُعتقدات بشكل واضح وشفاف ضمن قناعات وتصورات الأفراد في بناء الشخصية النضالية، ذلك أنها حجر الأساس في تحريك الدافعية الداخلية وتفعيل الاستعدادات التطوعية للعاملين. بمعنى آخر، أن يكون التصور مُطابق لمقتضيات التغيير العام الذي يشمل كل مناحي الحياة، مما يستوجب تنوع الآليات وتعدد المساحات بين النشاط التعليمي والتثقيفي إلى الدور السياسي والأداء الحضاري مرورا بالواجب النقابي الرئيس. إذن المطلوب هو ربط المنتمين بعمق الفكرة النبيلة المؤسسة لهدف الوجود ومبرّر التطوّع، حتى لا يستمر العمل الطلابي في اتجاهات مفتوحة لا يدرك منبته ولا يعرف مقصده، مما يؤدي بالأفراد إلى حالة التيه الثقافي المُولّدة للعطالة الحركية فالتسرّب النضالي. إن من معاني البناء العقدي المتكامل هو تحقيق الاستيعاب الفكري لماهية الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية تدفعها قوة متحررة تتمثل أشكالها في: - التمرد على الواقع في كافة الاتجاهات من أجل تغييره بما يحقق تطلعاتها. - الضغط للمشاركة في صياغة القرار السياسي على مختلف المستويات. - السعي لصناعة الشخصية القيادية المؤثرة لتكوين نخبة مجتمع مستقبلية. لا شك أن تشرّب الحركة الطلابية لهذه المضامين يبتعد بها عن معضلة مسايرة الواقع بدواع واهية، فاتحا أمامها دوائر صناعة الفعل المبني على التحدي وتجاوز العقبات مهما كانت معقدة، مُكسبا إياها ثقة عالية بالنفس بعد مُدارسة التجارب الطلابية التاريخية عبر مراحل مختلفة وفي بلاد عديدة. في حين أن تكريس النظرة السطحية التجزيئية للعمل الطلابي تحت وقع الفرامل الكابحة يرمي به إلى الانطواء في زوايا ضيقة محدودة والانكماش على الذات في أركان مشلولة. حان الوقت لترتكز الحركة الطلابية مجددا على قاعدة حضارية صلبة، تغرس في الوعي النضالي مسوغات التضحية والبذل لفائدة الآخرين، وتُعلّم خريطة العمل في ظل تكاثف أعباء ثقيلة فرضها مستوى التخلف الذي نتكبده منذ قرون طويلة. لابد من بعث المفاهيم الأصيلة للحركة الطلابية في فكر القيادات، مع إحياء معاني التطوع المندثرة بفعل تحولات المجتمع نحو القيم المادية، في وعي الجماهير العامة، من خلال الأنشطة التشاركية التي تستوعب الجموع الغفيرة من دون الاعتبارات التنظيمية حتى نُسهم في إدماج هذه الفئات لصالح الشأن العام، ومن ثمّة تمرينها على على اكتشاف ميولاتها الكامنة للحياة الجماعية.
2/ أخلقة الحركة الطلابية: هل يكفي تلميع الدافع الحضاري لجلب الاصطفاف خلف تيار الحركة الطلابية، كمجهود تطوعي يصب في مصلحة الجامعة، المجتمع، الأمة والإنسان بشكل عام؟. أعتقد أن خطابا من هذا القبيل في الحالة الجزائرية، لم يُعد يُغري الكثير من المشمئزّين من رداءة الممارسة الطلابية التي تعفنت جراء خطايا عديدة أسلفنا في ذكر بعضها مع بداية المقال والبقية معروفة للجميع من داخل البيت المهتز ومن خارجه. على ما في هذه الأحكام من تعميمات أحيانا، و ربما تسلية للنفوس الباحثة عن قميص تمسح فوقه عيوب التقاعس وتطفئ به وخز الضمير المؤنب في أحيان أخرى. لكن الحقيقة البادية أن هناك من الرواد من خان أهله، فقد كان حريّا به أن ينتدب نفسه في عمل خيري، يُدافع من خلاله عن القضايا المشروعة، مُؤثرا المصلحة العامة على الاعتبارات الشخصية، مُتجرّدا من كل المطامع والأغراض الخاصة، مُضحّيا في سبيل ما يؤمن به من أفكار وما يعتنقه من مبادئ. لكن الواقع بخلاف ذلك، إذ أضحى العمل الطلابي عند البعض مطيّة لامتيازات غير مشروعة ومنافع غير مؤسسة، تلجأ تلك القيادات المُبتذلة في سبيل الحفاظ عليها إلى وضع مواقفها بل مناضليها محل مساومة رخيصة، عادة ما تنتهي بثورة القاعدة على القرارات المُعطّلة لحركتها من طرف القيادة المتاجرة بهموم الطلبة. إن أمثال هؤلاء لم تُعد إساءتهم تتوقف عند حد تشويه المقصد النبيل للحركة الطلابية، أو خيانة الأمانة الموكلة إليهم، بل تعدّت إلى بوادر إجهاض المشروع الطلابي عبر التنفير المتنامي للأغلبية المُتعفّفة من جهة وتكالب الأقلية الانتهازية على ميراثها الطاهر من جهة أخرى. إن المخرج من هذا الوضع المُحرج والفتّاك هو شجاعة الأغلبية الصامتة داخل الحركة الطلابية في دفع تلك الأقلية المنبوذة إلى التراجع عن تصرفاتها المُشينة، عبر ميثاق أخلاقي يضبط الممارسة الطلابية، مع تشديد وتفعيل آليات الرقابة دون مجاملات، كما أنه يجدُر بالغيورين كسر جدار الخوف والتردد في إعلان حملة بلا هوادة ضد كل التعاملات المشبوهة. إن أخلقة العمل الطلابي تنبني أساسا على التحلي بالقدوة على مستوى القيادات الأمامية، إذ أن استشعار تلك الصفوة لعظم الأمانة وأثر الخيانة كفيل بأن يردع أصحاب النفوس الزكية، لكن في المقابل يجب أن تتطهر الدائرة المحيطة بالقيادة لأن سكوت هذه الفئة عن شبهات مقرونة بالدلائل، يُبرهن على جبنها وتواطئها على حد سواء!. تبقى تداعيات الفساد المستشري في الجامعة لها سلطانها القوي على تلويث الطباع العامة داخل المؤسسة الجامعية، لكنها تُعدّ سببا إضافيا في ضرورة عزل هذا الفساد من طرف الحركة الطلابية عبر التصدي الحازم لمظاهره أو على الأقل الترفع عن الوقوع في مخالبه المفترسة.
3/ العودة إلى الأوكار الأصيلة: إذا كان العمل الطلابي وفق المفهوم المنشئ له هو رسالة على درب التغيير، فإنه من البديهي أن تتوجه إلى الجماهير في حركة دائبة تتفاعل داخل الفضاء الجامعي أخذا وعطاء، إذ أنها ليست فكرة فلسفية جدلية تظل قابعة في أبراج عاجية، تطل على الواقع من شرفات الصفوة المستفيدة، بينما تتناول مستقبلها بمعزل عن انشغالات الأسرة الطلابية. إن الحركة الطلابية المتقوقعة حول نفسها من خلال ممارسات وتقاليد تُجذّر الانغلاق، مهددة بالانقراض من واحة التيارات الحيوية، لأنها ستكتشف عجزها عن إنتاج وريث طلابي يحمل مشعلها ويتلقّف من بعدها المشروع. لم تعد الحركة الطلابية تملك خيارا لإنقاذ مشروعها غير العودة الدافئة إلى أحضان الجماهير في عمق الساحة الجامعية، سوف ترون وقتئذ ماذا عساها أن تصنع من معجزات حالت دونها عوارض الانفصام. إن هذه العودة المرجُوّة إلى الأعشاش الطبيعية لن تتحقق إلا عبر مساري: الانفتاح من جهة والتخندق في الجهة المقابلة. بمعنى أن تتخلص الحركة الطلابية من مخلفات فكرها ألإقصائي القائم على التعصب التنظيمي، وتعدل من أساليب عملها التقليدية التي لم تعد تستقطب الجماهير في عصر الرقمنة وعالم القرية الصغيرة. الانفتاح يأخذ مداه وفق منحنيين رئيسيين: أولها الانفتاح على المزاج والتفكير الطلابي من خلال المحاورة والتواصل الثقافي لمد جسور التعارف والتقارب مع الآخر المنزوي والمنطوي والمخالف والمخاصم، وثانيها الانفتاح الاجتماعي عبر المخالطة اليومية والألفة والمصاحبة الحياتية. لم يُعد الانفتاح مجرّد خطاب حداثي تُمليه أدبيات العصر، بقدر ما هو ضرورة فاصلة بين الانتشار أو الاندثار، وجب أن تتوجّه إليه العناية الفائقة ويشمله التفكير الجاد وفق خطاب جامع ضمن خطط مدروسة وبرامج قياسية. إن الاستقرار فوق قمم الاستعلاء كما المكوث داخل زنزانات التنظيم لن يكتب لأيّ حركة أن تسود على وجه الأرض. لقد أتاحت ثورات "الربيع العربي" للحركة الطلابية فرصة تاريخية في استعادة دورها الريادي، حينما أعلت من شأن الفئات الشبابية التي احتلت المشهد العربي حتى أضحت تشكل فواعل ما يجري على مسرح الإقليم من أحداث بالغة الأهمية في حاضر ومستقبل الأمة، عليها أن تُحسن الاستثمار في ديناميكية الشعوب لتُعيد للفرد اعتباره ضمن الحراك العام. أما التخندق فنعني به ملازمة الحياة الجامعية بكل أبعادها من خلال تبني انشغالاتها والتعاطي مع قضاياها والتفاعل داخل أسوارها، كل ذلك يحتل حظوة خاصة على سلم الأولويات التي تحدد اتجاهات المسار. أعتبر باقي التفاعلات الحاصلة في محيط الحركة الطلابية على أهميتها تأتي في درجة موالية لاهتمامات الطلبة، وإلا تحول الانجاز المأمول إلى شكل من التخلي عن المسؤولية أو التعبير عن تحصيل مآرب خاصة وحتى شخصية أحيانا. إن النشاط الطلابي على المستوى البيداغوجي تحديدا يكتسي أهمية نوعية بما يتيحه من آفاق علمية، ثقافية، فكرية وسياسية، إذ أن المرفق التعليمي هو الفضاء الأول في الحياة الجامعية. لكن الملاحظ أن الحركة الطلابية اليوم بمختلف أطيافها تسير في الاتجاه المعاكس لاعتبارات عديدة، أغلبها غير موضوعي، نجم عن تراكم غير متوازن في أدائها وكذا الخلل الكبير في تقدير التوازنات الإستراتيجية بين الاستغراق النقابي في المرافعة الاجتماعية داخل الاقامات والمشاركة المميزة في رصد واقع التعليم العالي. لحسن الحظ، فقد أعاد استحداث نظام التعليم الجديد بعض الحيوية المفقودة داخل الجامعة، بما أنتجه من نقاشات حادة حول ظروف تطبيقه، إذ رافقته الحركة الطلابية في بعض مراحله، لكن تبقى أمامها أشواط طويلة لاستعادة موقعها المؤثر في ساحة النضال البيداغوجي. حتى من الناحية البراغماتية، فإن الحركة الطلابية الواعية لا يمكنها الوصول إلى انجاز أهدافها إلا عبر التواجد القوي بالفضاء الجامعي التعليمي، من خلال تسيير هيئات الوساطة الطلابية، الانخراط في مرافقة الإصلاحات البيداغوجية، الاحتكاك بهيئة التدريس للاستفادة من نخبها المتعددة في توليد وتأطير الأفكار البحثية الجديدة، مد الجسور مع شركاء الأسرة الجامعية للمساهمة في دعم المنظومة التعليمية....الخ. إن المؤسسة الجامعية اليوم أصبحت تتيح إمكانات معتبرة لتطوير النشاطات الطلابية المرتبطة بأهداف البحث العلمي المقررة في برامجها، مما يقتضي الاستثمار النشطوي في الفرص المتاحة عبر توجيه الجهد والإبداع إلى مناحي البحث المتعددة. ما لم يُعاد الاعتبار للنضال البيداغوجي بكل أبعاده، كونُه المُعبّر الحقيقي عن نوعية الفعل النقابي، فإن مستقبل الحركة الطلابية قد أضحى في حكم المجهول. ذلك أن الوضع الأمثل لوجود الحركة الطلابية في الجامعة، هو مزاوجتها بين المطلبية الحقوقية والشراكة الجامعية، التي تجعل منها رافدا أساسيا في ترقية المؤسسة التعليمية، عبر الانخراط في تكريس ثقافة البحث العلمي وإنتاج المعرفة، وكذا الاندماج أكثر في ميدان التصورات التطويرية والتحديثية، فيما يتعلق بأطروحات الإصلاح، أو ما يرتبط بأنماط تسيير الجامعة ومدى تطابقه مع انجاز وظائفها المرجوة.
4/ استدراك التكوين الفكري والفني: إن ما سبق ذكره حول ضرورة إحياء المفهوم الأصيل والمتكامل للحركة الطلابية في ثقافة روادها الميدانيين، وكذا عودتها إلى المحتضن الخصب الضامن لنموها بشكل طبيعي لا يمكن أن يتجسد على أرض الواقع إلا باستهداف التكوين كأولوية إستراتيجية ضمن الاحتياجات الداخلية، لأن ما نلحظه من تراجع متنامي في مضمون الأداء ومستوى الأفراد يعود أساسا إلى ضعف منظومة التكوين العاجزة عن تلبية متطلبات التأهيل فضلا عن آليات التجدد والإبداع. لا بديل عن منظومة شاملة تنجز ثلاثة مهام رئيسية: - التكوين العام: الذي يستهدف بناء القاعدة المعرفية الثقافية لمجموع المناضلين، يحقق استيعاب أبجديات الحركة الطلابية في مفهومها، مقوماتها، تاريخها، واقعها وآفاقها.....الخ، بما يجيب على ماهية الرسالة ويرسخ محددات الرؤية. - التكوين الفني: الذي يستهدف القائمين على قطاعات الحركة الطلابية، يحقق التحكم في أسس التنفيذ لمختلف مناحي الإنجاز، كالإدارة بكل صنوفها، الإعلام، العمل النقابي، الاستقطاب، الانتشار، الاتصال والعلاقات، بناء البرامج، التفاوض....الخ. - التكوين القيادي: الذي يستهدف الصف القيادي الأول على كافة المستويات الهيكلية، يحقق القدرة على تمثّل صفات القائد، كالإشراف والتنسيق، تفعيل فريق العمل، التخطيط والاستشراف، اتخاذ القرارات المصيرية، إدارة التغيير والصراع، تفاعل المنظمة مع بيئتها الخارجية....الخ. بمثل هذا التصور يمكن البلوغ إلى تأهيل نوعي و متخصص لقيادات العمل الطلابي يسمح بصياغة نماذج لقيادة الجماهير الطلابية، قادرة على تحسين الواقع وحتى صناعة التغيير، ثم هي تملك قابلية للتطور و التحول إلى أقطاب قيادية في مستقبل المجتمع، باعتبار العمل الطلابي الجامعي هو إعداد لعمل في واقع أكثر تعقيدا و أقل مثالية. حتى نكون عمليين بهذا الصدد تحديدا، لأن القضية تتعدى مبدأ فلسفة الفكرة والتصور العام إلى ضرورة ضبط الآليات الفنية، فإننا نقترح الأخذ الجاد بالأسباب التالية: - نحن بحاجة عاجلة إلى تفعيل تقاليد التكوين الكلاسيكية فهي من دون شك تبقى تجربة مميزة لا يمكن إغفال محاسنها الكثيرة رغم ما تحتاج إليه من تحسينات وتعديلات تتعلق بالمحتويات والمضامين والمشرفين على عملية التأطير. - بعث فضاء تكويني تحت عنوان" مدرسة التأهيل" بورقة عمل دقيقة المستهدفات، عميقة البرامج، وثيقة المراحل، تتوجه إلى فئة مخصوصة تحمل مؤهلات قيادية. - إنشاء "فضاء افتراضي" للتكوين عن بعد، يكون مُوجّها بشكل حصري للاحتياجات التكوينية من خلال أفكار الواقع وفنيات العمل اليومي، بديلا عن المنتديات العامة التي أصبحت مفرغة المحتوى بفعل التداخل الكبير في الاهتمامات وطغيان الاستنساخ عن المواقع الالكترونية. - وضع مقرّرات تكوينية مفصلة لمختلف المستويات التي سبق حصرها، لأن هذا العمل سيسمح أساسا بتوحيد التصور والتفكير، ثم يختصر الجهد للمشرفين على عملية التكوين، كما أنه يُجنّب الأفراد شوائب التجارب الذاتية التي عادة ما يقدمها المؤطرون في سياق عرض أفكارهم. بموازاة عملية وضع مقررات تكوينية، يُمكن الاستعانة ببعض المؤلفات الحديثة مما تعنى بمجالات بناء الذات، إدارة المنظمات، الذكاء العاطفي، فن التعامل، فريق العمل، الثقافة العامة....الخ، حيث يتم ترشيحها للقراءة والتلخيص والامتحان، حتى نتخلص من فوضى الكتب التجارية. - تأسيس جهاز تكوين مركزي، لأن تكفّل أمانة وطنية بهذه الوظيفة لم يعد فاعلا وملائما لطبيعة القطاع، ومن ثم وجب استحداث هيكل إداري قائم بذاته تحت إشراف الأمانة التنفيذية العامة، يتولى تجسيد السياسة القطاعية. من المستحيل أن تستمر عملية التكوين بالشكل العفوي الارتجالي الذي يطبعها الآن، فيجب وقفة حازمة لتنظيم وإعادة بناء هذا القطاع، بما يستدرك الخلل المُسجّل اليوم ويواكب رهانات المستقبل. مع كل ما تقدم فإن صياغة الفرد القائد، تتطلب مجهودا فرديا هائلا ينطلق من الإيمان العميق بالرسالة، ويتعاضد بالعصامية في بناء الذات عبر الاحتكاك بالرجال من ذوي الخبرة السابقة والتجربة التاريخية، و تتجذر أكثر بالقراءة الدورية في مجالات علم التنمية البشرية، الإدارة، السياسة، الاجتماع، النفس....الخ، إذ أن الاطلاع على مثل هذه العلوم النظرية مهم جدا لبناء قاعدة علمية تتيح للقيادات العليا التحكم في الوظائف النوعية للحركة الطلابية، وقد أصبحت مثل هذه المعارف في متناول القارئ العادي بفضل جهود التأليف التي خرجت بها عن الطابع الأكاديمي التجريدي إلى الكتابة التبسيطية التي تسقط النظريات على حياة الناس المُعاشة.
5/ الاحترافية النقابية: إن إدارة الفعل النقابي وفق التفاعل اليومي مع المشاكل الطارئة والقضايا الآنية التي تكاد تكون ملازمة ليوميات الحياة الجامعية يفضي إلى صرف النظر عن عمق الانشغالات الكبرى، ويفقد الحركة الطلابية بوصلة الحراك الفعال في خضم الهرج والمرج الذي تعلو أصواته حتى تغطي على أصحاب الأفكار العميقة والرؤى الثاقبة التي تتجاوز الأسباب إلى ملامسة المسببات. بمعنى أدق، فإن نجاح الحركة الطلابية في تعبئة المناضلين وتحسيس الرأي العام وحمل الجهات الوصية على لفت العناية إلى المشاكل العالقة، يتطلب توجيه الخطاب نحو ملفات أساسية وتركيز الحراك صوبها بشكل دوري ومتواصل، من خلال تبني مطالب نوعية، تنبثق عن معاينة واسعة وشاملة للواقع، مدعومة بنتائج دراسات علمية، ومسنودة بخلاصات نقاش مفتوح يجمع الخبراء و المتخصصين مع مختلف الشركاء، ترفع في شكل ملفات جاهزة ومتكاملة حتى تساهم فعليا في بلورة رؤية طلابية واضحة بشأن الإصلاحات الجامعية ضمن تحديد أدوار الجامعة و وظائفها المستقبلية. حان الوقت لتصل الحركة الطلابية الحلقة المفقودة بين أدائها اليومي الواقع ضمن نشاطها التقليدي وبين مقتضيات البحث عن دور حاسم يمنحها موقعها الأصيل في رسم سياسة التعليم العالي وتوجيهها، بمعنى آخر، أن تستثمر بشكل ذكي كقيادة في جهود نضالها القاعدي لتتويجه ككتلة وطنية تتحدد وفقها أولويات النضال بدل المعالجات المحلية المعزولة عن سياقها العام. إن مفهوم الاحترافية في مناشط الحركة الطلابية يتضمن أيضا تناول هذه الأخيرة لكل مناحي الحياة الجامعية، باعتبار أن تحديث المنظومة التعليمية يتطلب تحسين كل أركانها وفي مقدمتها: البحث العلمي، وضعية الأساتذة، طرق الإدارة. من هنا باتا لزاما أن تملك الحركة الطلابية لوائح بينة في رؤيتها لإصلاح هذه الأسس، بدل الاكتفاء بالمرافعة لصالح الحقوق الطلابية المحضة، لأنه لا يمكن إنجاز هذه المطالب إلا في إطار بيئة ملائمة تستوعب إمكانية الاستجابة لهذه الاحتياجات. أما البعد الآخر من وجهة نظرنا من أجل الوصول إلى مستوى الاحترافية في منتوج الحركة الطلابية، هو الانخراط المتقدم في صناعة النخبة التي تمثل الفئة المحرّكة لدواليب الحياة السياسية، الاقتصادية والثقافية للمجتمعات، عبر التفكير والتدبير. لذا تُولي كل الأمم والدول عناية خاصة لرعاية الموهوبين من مواطنيها، وتأهيل النماذج القيادية والكوادر العلمية لتأطير مستقبلها. طبعا ثمّة العديد من المؤسسات تتقاسم مسؤولية إعداد هذه النخبة، لكن تبقى الجامعة هي المحتضن الأول لإنتاج النخب بمختلف فعالياتها ومجالاتها. لكن الموروث واقعيّا، أن الجامعة كمؤسسة تعليمية مجرّدة، تخرّج في أحسن الأحوال فئة من ذوي المؤهلات النظرية، فيما يبقى مفهوم النخبة الملتزمة بقضايا المجتمع، المنافحة لتحقيق مطامحه، مطوّعة فكرها وجهودها من أجل ازدهاره وتقدّمه، هي تلك النخبة التي تترعرع في حقول الجامعة، كفضاء تفاعلي بين منتجات المعرفة، عوالم الفكر، أنوار الثقافة، اتجاهات الأيديولوجيا وحركات النشاط العام. لذا لا غرابة أن نجد أغلب الزعامات السياسية، المرجعيات الفكرية، القامات الأدبية والرموز الثقافية، قد تبلورت ميولاتها، وصُقلت شخصيتها واكتمل نُضجها، في تلك المرحلة الذهبية من عمر الإنسان. عندما نتحدث عن الفضاء التفاعلي في الجامعة، حتمًا سيتوجّه النظر إلى الحركة الطلابية بصفة أساسية، فهي التي يُمكن أن تُحدث هذا التفاعل المطلوب بين مكونات الحياة الجامعية، لإعطائها الزخم الحقيقي المطابق لكونها ملتقى للأفكار، تكامل الثقافات، تباين البيئات، تعدد الانتماءات، تنوع الأجناس والأعراق، اختلاف المذاهب والطوائف وحتى الديانات أحيانا. إن المتأمل اليوم في تفاعلية الجامعة بشكل عام، فسيجد أنها أصيبت بانتكاسة خطيرة تحت وقع الاهتزازات السلبية التي رافقت تحولات المجتمع في عقوده الأخيرة من جهة، وتداعيات العولمة من جهة أخرى. لكن الحركة الطلابية في خضمّ هذا التراجع، هي بكل صراحة جزء من أزمة الجامعة، إذ لم تعُد تضطلع بدورها المنشود في استقطاب الكفاءات المرشّحة لتكوين النخبة، فضلا عن إنتاجها. إذا عجزت الجامعة كجهاز إداري ومؤسسة وطنية، لاختلالات عديدة في فلسفة منظومتها ومناهجها التعليمية، عن استيعاب هذه الوظيفة الخطيرة ضمن احتياجات المجتمع المستقبلية، فإن الحركة الطلابية مسؤولة على الأقل عن تأهيل قياداتها ومن هم مُنتظمين في هياكلها وحتى القطاع المتوسط من عموم الطلبة. إن مهمة الحركة الطلابية بهذا الصدد، تتجسد في خلق فضاءات التعبير الديمقراطي، وتشجيع روح الإبداع، وإشاعة قيم الحوار والنقاش الحر، عبر المنتديات والمنابر الإعلامية المفتوحة، إضافة إلى الاهتمام الجاد بالتكوين السياسي العلمي بأدبياته الشمولية، وليس التعصب التنظيمي المبني على المواقف الحزبية الضيقة. لقد أضحى نادرا اهتمام الحركة الطلابية بالنشاط الثقافي الإبداعي، الذي تجتمع في رحابه رموز الفكر، أقطاب الفلسفة، فطاحل الأدب، رواد الإعلام، صناع التاريخ وأعلام الثقافة مع الجماهير الطلابية التي سئمت تلك المعارض الباهتة والنشاطات التجارية التي تروّج لكل المبيعات مادام هناك مقابل مادي!!. إن دلّ ذلك على شيء، فإنما يدلّ على نوعية القيادات التي تتزعّم اليوم مسيرة العمل الطلابي، وهي فاقدة لأدنى مقوماته، ممّا يحُول بينها وبين انجاز معانيه الفعلية السامية. إذا استثنينا بعض النجاحات المحدودة في الحقل السياسي والاجتماعي في فترات سابقة، أين هي مُخرجات الحركة الطلابية الحالية في كافة ميادين النخبة، وهل العيّنات الماثلة أمامنا اليوم تُبشّر بنخبة مرتقبة. أعتقد بكل موضوعية وصراحة، أنها بحاجة إلى رفع تحديات جسيمة وخوض رهانات كبيرة من أجل بلوغ مؤهلات النخبة الحقيقية، إلا إذا كان للنخبة مفهوم آخر أقرب إلى سلوكيات الانتهازية والوصولية أو العمل لتحقيق المآرب الشخصية، على حساب الرساليّة النبيلة، والتجنّد التطوعي لخدمة قضايا المجتمع. على مرتادي العمل الطلابي أن يُدركوا قبل فوات الأوان، أن الجامعة مرحلة من عمر الإنسان، ينتهي مشواره فيها عندما يتخرّج منها، بينما تمتدّ رسالته عبر الزمان والمكان. فالأصل في النشاط الطلابي أنه تكوين لما بعد الجامعة، وتمرين لمعارك الحياة المفتوحة على مصراعيها. هنا تكمُن أهمية وعي الحركة الطلابية بحتمية الاهتمام الاستراتيجي، باستهداف الاستيعاب النخبوي في كافة المجالات، تدعيما لأصولها وترويجا لأفكارها، من أجل المساهمة في نهضة المجتمع والأمة من خلال صياغة المواطن الصالح بالمفهوم المدني والحضاري الشامل.