تنفرد السوق الجزائرية بخاصية لا توجد في أي مكان آخر من العالم، وهي أن الأسعار لا تعرف سوى اتجاه وحد، الإرتفاع وفقط، حتى ولو انهارت الأسعار في الأسواق العالمية .. فلماذا لا تنخفض الأسعار عندنا، عندما تتراجع في البورصات العالمية؟ ولماذا تبقى هذه الخاصية جزائرية بإمتياز؟ وهل لوزارة التجارة والقطاعات الوزارية الأخرى علاقة، مسؤولية في ذلك؟ هذه الأسئلة وأخرى سيجيب عنها الملف السياسي لهذا الخميس. أزمة الأسعار تفضح المستور الحكومة تعجز عن فرض قوانينها لم يسبق لسعر أي من السلع ذات الاستهلاك الواسع أن سايرت وتيرة البورصات العالمية، التي لا تستقر على حال (ارتفاع، انخفاض، وأحيانا استقرار لفترات معينة)، إلا في حالة واحدة وهي توجه المؤشر نحو الأعلى. وحتى أسعار المواد الغذائية المسقفة، لم تسلم من هذه الظاهرة، بالرغم من استفادة بائعي تلك السلع من تعويضات من خزينة الدولة، جراء الفارق في الأسعار، فالخبز مثلا، مسقف بمرسوم تنفيذي عند 7 . 5 دينار، ومع ذلك لا يوجد خباز واحد في مختلف ربوع البلاد، احترم هذا السعر، لأن السقف تم تجاوزه بدينارين ونصف، أمام مرأى الحكومة بقطاعاتها الوزارية المختلفة. وهنا تكمن المعضلة، فالضرر لم يلحق فقط بالفئات الشعبية الهشة وما أكثرها، وإنما أيضا في غياب الدولة القادرة على فرض القانون، فلا هي تدخلت من أجل فرض احترام المرسوم التنفيذي، بإجبار الخبازين على احترام السعر، ولا هي استدركت ورفعت التسقيف عن سعر الخبز، ما جعل من المشكلة مشكلتين. وأما أسعار السلع الأخرى المسقفة (الزيت والسكر مثلا)، وعلى الرغم من غلائها مقارنة بالأسواق العالمية، إلا أن التجار، أصروا على أن يوصلوا السعر إلى حده الأقصى ولم يتركوا أي هامش ولو بسيط للمواطن "الغلبان". وإلى غاية اليوم وبعد نحو خمس سنوات من تسقيف مادتي الزيت والسكر، لازال العارفون بخبايا الصناعات الغذائية يستغربون تسقيف سعر صفيحة الزيت من خمس لترات، في 600 دينار، بالرغم من أن السعر يوم كُسر الاحتكار، كان في حدود 400 دينار للصفيحة !! أما السكر المسقف ب90 دينارا للكيلوغرام، فسعره في الأسواق العالمية، يعادل 31 دينارا فقط، فهل كانوا يجهلون هذا المعطى عند التسقيف؟ بل إنهم شرّعوا لجشع التجار !! ويبدو أن تواطؤ الجميع قد استحكم في المشهد، فالحكومة وعلى الرغم من الارتفاع الفاحش في الكثير من أسعار المواد الغذائية ذات الاستهلاك الواسع من غير المسقفة، إلا أنها تنآى بنفسها وتقول إن دورها يتوقف عند مراقبة مدى احترام سقف أسعار السلع المقننة بمرسوم، طالما أن منطق العرض والطلب هو من يقرر في مثل هذه الحالات. وبرأي متابعين لحركة السوق، فإن تبرير الوزارة الوصية، ينطوي على بعض من المصداقية، في حالة واحدة وهي عندما يكون السوق منظما وخاليا من الاحتكار، أما الواقع فيقول غير ذلك، لأن الجميع على دراية تامة بأن هناك فئة قليلة من "البارونات" تسيطر على السوق، كما أبانت الحكومة عن عجز كبير في مراقبة حركة السلع، ووضعها بعيدا عن التخزين غير القانوني، والتهريب عبر الحدود، وتلك من العوامل التي تؤثر على الأسعار. وفي مثل هذا المعطى، يصبح تدخل الدولة ليس فقط ضروريا، بل أكثر من حيوي، لمنع الاحتكار ومن ثم ضبط الأسعار، فمن غير المعقول، أن تبقى وزارة التجارة تتفرج على أسعار بعض البقوليات وقد تجاوز سعر الكيلو غرام منها ال300 دينار، ونظيرتها في الأسواق العالمية أقل بكثير، فضلا عن أنها ملاذ الفقراء، مثلما من غير المسموح به إطلاقا أن تسن الحكومة قانونا لا يحترم المرسوم المتعلق بتسعيرة الخبز المسقفة.
وزارة التجارة تبرر عجزها في ضبط السوق الحكومة ليست مسؤولة عن ضبط وتحديد أسعار السلع غير المسقفة أرجعت وزارة التجارة عدم مسايرة أسعار المواد الغذائية ذات الاستهلاك الواسع، للأسعار في الأسواق العالمية إلى عدة عوامل تتحكم في ضبط السوق الوطنية، كقانون العرض والطلب من جهة، وغياب ثقافة خفض الأسعار وجشع التجار من جهة أخرى، في وقت أعابت على مافيا المضاربة استغلال الفرصة لرفع الأسعار في فترات تكون فيها المنتجات تشهد ارتفاعا في البورصة الدولية. وقالت المكلفة بالإعلام على مستوى وزارة التجارة، بسمة بن دريس، في تصريح ل"الشروق": "يجب الأخذ بعين الاعتبار عامل الوقت الذي تأخذه عمليات التجارة الخارجية واستيراد السلع من الخارج والإجراءات الجمركية التي تستغرقها، إلى غاية وصالها للموزعين". وأضافت: "العملية التي قد تستغرق ثلاثة أشهر، وفي هذه الفترة يحدث الفارق، فقد تكون الأسعار تغيرت أكثر من مرة طيلة مدة ثلاثة أشهر، حيث يقوم المتعاملون بتسويق المنتجات بسعر السوق الدولية، ولذلك يحدث التناقض". وفي السياق، حملت المتحدثة المتعاملين الاقتصاديين الخواص وجشع التجار مسؤولية المضاربة في أسعار السلع والتحكم في تسويقها، وبالتالي الإخلال بمعادلة الأسعار مقارنة بالبورصة الدولية، وذكرت أنه في الوقت الذي تشهد فيه أسعار السلع ارتفاعا في البورصة العالمية، ينتهز هؤلاء الفرصة لبيعها بنفس سعر البورصة بالرغم من أنهم اقتنوها بأسعار منخفضة. وعن مسؤولية قطاع التجارة في الحد من تفشي الظاهرة، أوضحت المتحدثة أن "مصالح قطاع التجارة ليست مسؤولة عن ضبط وتحديد أسعار السلع والمنتجات باستثناء تلك المسقفة، على غرار كل من الزيت والسكر والخبر والحليب..". أما بقية أسعار السلع غير المسقفة فيحكمها عامل العرض والطلب، ما يعني أن دور مصالح الرقابة وضبط النشاطات الاقتصادية، يقتصر على تنظيم نشاط التجارة وقمع الغش والمضاربة في الأسعار ولاسيما في شهر رمضان، بالتنسيق مع عدد من القطاعات الوزارية، من بينها وزارة الفلاحة، والداخلية. وبخصوص أسعار السلع المقننة، كسعر الخبز المحدد من طرف وزارة التجارة ب7.5 دينار، أوضحت بن دريس ان الوزارة فتحت طاولة الحوار مع نقابة الخبازين قصد الوصول إلى حل نهائي بخصوص سعر الخبز، في الوقت الذي تطالب فيه فدرالية الخبازين بتثبيت سعر الخبز عند ال10 دنانير بصفة رسمية، نظرا لارتفاع أسعار الفرينة مقارنة مع السنوات الماضية. مبارك سراي يشرح خلفيات هروب الأسعار نحو الأعلى دائما "الحكومة لديها قائمة بأسماء البارونات لكنها عاجزة عن التدخل" أكد الخبير الإقتصادي الدولي مبارك سراي، أن استمرار ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية في الأسواق الوطنية رغم انخفاضها عالميا، مرده إلى سيطرة مجموعة من البارونات على التجارة في الجزائر، مشددا على أن الحكومة تمتلك قائمة بأسماء هؤلاء، إلا أنها عاجزة عن الوقوف في وجههم بسبب الوثيقة التي وقعتها منتصف التسعينيات بضغط من "الأفامي" والبنك الدولي.
هناك مفارقة كبيرة.. عندما ترتفع الأسعار في الأسواق العالمية ترتفع عندنا، لكنها عندما تنخفض لا يقابلها تراجع هنا في الجزائر، ما تعليقكم على هذه الظاهرة؟ في نظري هذا راجع إلى القطيعة المسجلة بين الأسواق المحلية والسوق العالمية، فعندنا تغيب الحملات التفتيشية لمقارنة الأرقام المعتمدة في الخارج مع الجزائر، ترتفع الأسعار عندنا حتى إذا انخفضت عالميا. كما أن القضية ترتبط بثقافة التجار الجزائريين الذين لا يحترمون قواعد اللعبة، ناهيك عن أن السلع التي تباع محليا ليست نفسها التي تعرض عالميا، فقد يعود تاريخ إنتاجها إلى 6 أشهر من قبل، وقد تبقى مكدسة في الموانئ أو تتعطل بسبب الإجراءات الجمركية أو حتى يتم تخزينها في غرف التبريد وهو ما يجعل ثمن بيعها مرتبطا بالدرجة الأولى بثمن شرائها وليس بثمن عرضها في السوق العالمية، وهنا لا ننسى الحديث عن الوسطاء الذين يمنعون وصول السلعة مباشرة إلى المستهلك دون رفع هوامش الربح.
هل سبق وأن تدخلت وزارة التجارة وطالبت المستوردين بتخفيض الأسعار؟ لا يمكن لوزارة التجارة أو الحكومة التدخل لإلزام التجار بخفض الأسعار، فالوثيقة التي وقعتها منتصف التسعينيات وبإملاء من صندوق النقد الدولي تضمنت حرية التجارة وما يصطلح على تسميته ب"السوق الحرة"، هذه الإجراءات تمنع من التدخل لإلزام التجار بالبيع بسعر محدد، فبإمكانهم البيع بدينار، كما أنهم أحرار إذا أرادوا البيع بمليار، وقانونيا وفي كلتا الحالتين لم يرتكبوا أي ذنب أو جرم يحاسبون عليه.
هل هنالك قوانين تتحكم في هوامش الربح لدى كبار المستوردين؟ الدولة عاجزة عن التحكم في هوامش الربح وهي ممنوعة حتى من التدخل في هوامش المواد المدعمة، ويتعلق الأمر بالزيت والسكر والقمح والحليب، فإجراءات صندوق النقد الدولي سابقا والبنك الدولي تمنعانها حتى من التفكير في ذلك.
من هم أهم البارونات الذين يتحكمون في السوق الجزائرية؟ الحكومة تعرف هؤلاء البارونات ولديها قائمة بأسمائهم، والدليل ما حدث مؤخرا حينما ارتفعت أسعار اللحوم البيضاء بفعل ارتفاع أسعار العلف في السوق العالمية، حينها تحدثت وزارة الفلاحة عن ثلاثة أشخاص يتحكمون في السوق، وقبلها عندما ارتفع سعر الزيت والسكر في الجزائر سنة 2011، في ذلك الوقت تحدث الجميع عن 9 متعاملين يتحكمون في قوت الجزائريين، وأجزم أن وزارة التجارة تمتلك قائمة بأسماء هؤلاء وهي على دراية بكل ما يقومون به.
جمعيات حماية المستهلك تصرخ ولا مجيب 60 بالمائة من المواد الاستهلاكية المستوردة محتكرة أكد زكي أحريز، رئيس الفيدرالية الجزائرية لحماية المستهلك، أن 60 بالمائة من المواد الاستهلاكية المستوردة يحتكرها نفس المتعاملين الاقتصاديين، وهذا ما جعلهم يقومون بتخزين كميات منها في انتظار ارتفاع أسعارها في السوق الدولية، ثم يقومون برفع سعرها في الجزائر. وقال أحريز ل"الشروق": "من غير المعقول أن يباع السكر في السوق الأوروبية ب351 دولار للطن أي ما يعادل 31 دج للكيلوغرام، غير أنه يسوق في الجزائر بسعر 90 دينارا للكيلوغرام". وهذا حسبه يعود لتسبب تسقيف سعر السكر والإبقاء على هذا التسقيف واحتكار شركات وطنية لاستيراده. وطالب أحريز برفع الهيمنة على استيراد بعض المواد الاستهلاكية. كما طالب مسؤول فيدرالية حماية المستهلك، الحكومة بفتح باب المنافسة للمستثمرين الجزائريين وتسهيل مهمة الاستيراد، ومحاربة الاحتكار من طرف شركات وطنية خاصة، التي تلجأ للتخزين كوسيلة للربح، في حين أن المواد المخزنة حسبه تشترى عندما يكون سعرها منخفضا في السوق الأوربية. ويرى أحريز أن الفيدرالية راسلت وزارة التجارة فيما يخص هذا الأمر، ولكن تم تبرير ذلك بأن عملها يختصر في مراقبة الجودة والمنافسة النزيهة، وأن ارتفاع الأسعار يتعلق بالعرض والطلب فقط. من جهته، كشف رئيس جمعية حماية وإرشاد المستهلك، مصطفى زبدي، في تصريح ل"الشروق" أن المتعاملين الاقتصاديين في الجزائر يقومون برفع أسعار المواد الاستهلاكية المخزنة بمجرد علمه أن أسعار هذه المواد ارتفعت في السوق الدولية، وهي سياسة يقوم بها هؤلاء خارج الرقابة القانونية، و"إن كانت هناك تحقيقات وإجراءات ضد المستوردين تقوم بها الجهات المخولة لذلك، لا يعلم بها المهتمون بحماية المستهلك في الجزائر" يقول المتحدث. وعبّر زبدي عن تذمر جمعية المستهلك من إقدام المستوردين والمتعاملين الاقتصاديين على رفع الأسعار، بمجرد ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية في السوق الدولية، ونددت الجميعة، يضيف زبدي، في الكثير من الحالات حسبه بهذه الانتهازية المتوحشة، غير أنها لم تجد آذانا صاغية لدى الجهات الوصية. واستغرب زبدي الارتفاع الكبير لأسعار البقول الجافة بالرغم من امتلاك الجزائر مخزونا وافرا من تلك المواد، ما يعني أن أطرافا تمارس سياسة الاحتكار وتترصد تحرك الأسعار في الأسواق العالمية نحو الأعلى، كي تنفذ مشروعها غير المهني وغير الأخلاقي. ودعا مسؤول جمعية حماية المستهلك إلى تقنين العلاقة بين الجهات المكلفة بمراقبة الأسعار وجمعيات حماية المستهلك، بما يسمح بتمكينها من التشريعات الجديدة، وقال: "نحن نسمع بإجراءات ردعية ومؤسسات رقابية لعمل هؤلاء، ورغم أننا نمثل صوت المستهلك الجزائري، إلا أننا لا نطلع على هذه الإجراءات، ولا نملك عنها أي معلومة" يقول زبدي متذمرا. ومن جهة أخرى، حمل المتحدث قسطا من مسؤولية الوضع المتردي إلى المستهلك الجزائري، الذي قال إنه لا يملك وعيا ولا ثقافة فيما يخص الأسعار واختلافها بين السوق الدولية والمحلية، وذلك لنقص الوعي وغياب التفسيرات الاقتصادية، التي يتعين على الجهات الوصية القيام بها.