الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي مَن مِن المسلمين يجهل الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي؟ لاشك أن الإجابة ستكون منعدمة، لما للرجل من علم غزير، وأثر على الأجيال وفير.. قضت "الشروق" معه عدة أيام في إحدى الندوات التي نظمتها جمعية العلماء المسلمين، بمدينة قسنطينة، فأُتيح لها أن تعيش بعضا من الجوانب الإنسانية في حياته. * لقد ملأ هذا العالم المكتبة الإسلامية بعشرات الكتب والأسفار، وجاب في سبيل الدفاع عما يراه صوابا الكثير من الأمصار والأقطار.. ومنها الجزائر، التي يبدو أن لها في قلب الدكتور محلا خاصا.. حينما كنا نسير برفقته بمدينة قسنطينة، كنا نعتقد أن ملكا للبلاد يتحرك من مكان إلى مكان، أو سلطانا يأمر فيُطاع كغابر الأزمان... ملك في عقول مريديه، وسلطان بما قدمه للإسلام والمسلمين... خلال تلك الأيام، خُيّل إلينا أن الرجل لا يحسن الابتسامة، فالجدة ترتسم على محياه دائما، والصرامة صبغة لا تفارق حركاته وسكناته، وكم أتعبنا ونحن نترصد ثغره أن ينفتح باسما لالتقاط صورة، لكن دون جدوى، إلا مرة ونحن نتغذى مع بعض الضيوف حينما سمع نكتة جزائرية من أحد الحاضرين، وما إن رفعت آلة التصوير حتى عاد السن الذي برز من الابتسامة إلى الاختباء داخل فيه، الذي طالما خاض المناظرات والمناقشات في سبيل نشر هذا الدين. * إذا ذُكر البوطي، فأولى الصور التي تقفز إلى الذهن تلك اللغة الراقية في العربية، وتلك الرصانة التي ندرت في هذا الزمان، وذلك المنطق الذي يعتمد عليه في بحوثه العلمية، أما الردود القاسية والتي تسقط ك "شاقور" على مخالفيه فلا تحتاج إلى استدلال، ولعل ما وقع معه مع بعض شيوخ السلفية خير مثال.. الحديث عن اللغة لدى البوطي يجعلنا نكشف أن هذا العالم يتقن العربية والفارسية والكردية والتركية، ويفهم الانجليزية.. * البوطي، رفض أن يدلي بأي تصريحات للصحافة الوطنية حينها، بسبب ما قال إن افتراءات قد نُسبت إليه في إحدى الجرائد الوطنية، فاضطر، كما قال ل "الشروق" في الفندق الذي كان مقيما فيه، أن يرد على الصحافة، "وهو ما لم أقم به في حياتي قط".. لكن أطرافا عدة دخلت على الخط، وليّنت قلب الدكتور لأسبوعية "الشروق العربي"، فمنحنا حوارا في غرفته - نُشر على صفحاتها في عدد سابق- بعد فطور صباح إحدى الجُمعات، بمعية ابنه الدكتور توفيق.. في ذلك الفطور، أذهلني الأدب الذي يتحلى به الدكتور توفيق مع والده، والأب مع ابنه، فما أن يستهل الولد الشروع في الكلام حتى يبتدئ بالقول "إذا أذن لي والدي"، والحال أن النقاش ما يدور إلا بينهما.. * قبل أن نشرع في ذلك الحوار، استأذنت من الدكتور في أن ألتقط له صورا في خلال اللقاء، فرد مازحا: "ألم تمل أنت من التقاط الصور؟"، ثم قام ولبس لباسه الذي يظهر به عادة في الشاشات، بعد أن خلع هنداما جزائريا كان قد ارتداه منذ ذلك الصباح... وبعد أن ناقشنا العديد من القضايا، وقبل أن أنهي العمل، استأذنني في التوقف، وقال: "إنني مضطر لأقطع الحوار كي أتوجه إلى ربي بالدعاء ليوفّقني في خطبة الجمعة"، التي كان قد ألقاها في جامع الأمير، ونقلها التلفزيون الجزائري وقتئذ.. الساعة حينها كانت تشير إلى قبيل التاسعة صباحا، وخطبة الجمعة لا تبتدئ إلا بعد الواحدة ظهرا، فلما لاحظ استغرابي قال: "إن الأديب علي الطنطاوي، كان إذا طُلب منه أن يلقي خطبة الجمعة، قضى تلك الليلة كلها بين يدي الله داعيا".. * البوطي، وهو الجبل العالي في العلم، يعتبر نفسه ذرة في علم أبيه الشيخ ملا رمضان، وكثيرا ما يذكر ويقدم على أنه مضرب المثل في الزهد بالشام.. يذكر الدكتور كيف أخذه والده إلى أحد الكتاتيب، مصطحبا محمد سعيد، وقال له: "والله يا ولدي لو رأيت أن الطريق الذي يوصلك إلى الله هو كنس الطرقات لجعلت منك زبالا، ولكني أعلم علم اليقين أن الذي يعرفك بالله إنما هو العلم". * البوطي، يرى في الجزائر كل شيء جميل، إلا صحافتها، فهو يعتبر أصحاب مهنة المتاعب الجزائريين ممن يسعوْن للسبق الصحفي دون اعتبار للأضرار التي قد تلحق بالأشخاص، و"في بعض الأحيان أجد الصحافة عندكم لا تتحرى في التثبت من المعلومة".. ولما اضطررنا إلى قطع الحوار، طلبت منه كلمة أخيرة، فقال: "أوجه كلمتي إليكم أنتم الصحفيين ألا يكون السبق الصحفي همكم الوحيد"..