فارق الحياة المؤرخ الفرنسي الكبير شارل روبير أجيرون (Charles- Robert Ageron) يوم 3 سبتمبر 2008م، في الخامسة والثمانين من عمره (1923 _ )، بعد أن أقعده المرض في السنوات الأخيرة، وجعله ينقطع عن العمل. هذا وقد خسرت الجزائر بوفاته برأي الدكتور محمد قورصو مؤرخا صديقا دأب على زيارة جامعاتها، والتعاطف معها في أوقات الشدة، آخرها محنة الإرهاب التي عصفت بنا، لذلك يضيف فهو يستحق التكريم، علما أنه أشرف على بعض الطلبة الجزائريين في أبحاثهم ودراساتهم العليا، منهم عبد الحميد زوزو. * الحلقة الأولى (1/2 ) * رحل شارل روبير أجيرون وقد ترك أعمالا تاريخية جليلة، تشهد له بالكفاءة العالية والروح العلمية النزيهة التي طبعت جل كتاباته عن تاريخ الجزائر المعاصر، المتزامن مع فترة الاحتلال الفرنسي، التي لم يجاملها، بل كتب عنها بموضوعية بارزة، معتمدا على استنطاق الوثائق والأرشيف، فجاءت نتيجتها مدينة للاستعمار بشدة. غير أن ذلك لا يعني مساندته المطلقة للحركة الوطنية والثورة الجزائرية، مثلما فعل بعض المثقفين الفرنسيين الآخرين، بدليل أنه شكك في عدد ضحايا مجازر 8 ماي 1945، الذي يراه أكثر من العدد المصرح به من طرف الإدارة الفرنسية (1500 ضحية) بخمس مرات، لكنه أقل بكثير من العدد المصرح به من طرف الحركة الوطنية الجزائرية، كما شكك في عدد شهداء الثورة الذين اختزلهم في (250) ألف شهيد فقط(1). * ولئن كانت كتابته العلمية، قد أرضت ضميره المهني، فقد جلبت عليه سخط المعمرين والأقدام السوداء الفارين من الجزائر، بسبب تحدّيه للإيديولوجية الاستعمارية، فحاصروه في الجامعات الفرنسية بما يملكونه من نفوذ وضغوط، حتى صار معزولا عن النشاطات العلمية، فقلّ إشرافه على طلبة الدراسات المعمقة، مثلما ذكر تلميذه بينجامه ستوره Benjamin Stora. وعليه لم ينل من التكريم إلا النزر اليسير، فكان عليه انتظار حلول انعقاد الملتقى الدولي سنة 2000 في جامعة السربون، لينال حظه من التكريم، بحضور عدد كبير من المؤرخين الأجانب. * فما هي الأسباب التي جعلت شارل روبير أجيرون، يعزف خارج سنفونية الإيديولوجية الاستعمارية؟. * اتصاله الأول بالجزائر وصدمة الاستعمار * اكتشف شارل روبير أجيرون لأول مرة واقع الاستعمار الفرنسي الغاشم بالجزائر سنة 1945م، وهو يؤدي ما تبقى له من الخدمة العسكرية، وشاهد بأمّ عينيه المجازر التي ارتكبها الفرنسيون ضد الجزائريين المسلمين في النصف الأول من شهر ماي، عندما نظموا مظاهرات سلمية يوم 8 ماي للمطالبة بحق تقرير المصير، بعد أن ساهموا بالنفس والنفيس في تحقيق نصر الحلفاء ضد النازية. وكانت جرائمهم المرتكبة في سطيف وقالمة وخراطة بصفة خاصة، بمثابة الصدع الذي عمق الشّرخ بين الجزائريين (الأهالي) المقموعين، وبين المستوطنين الفرنسيين الذين استحوذوا على خيرات الجزائر. ثم تعرض للحادثة التي كشفت له عن عنصرية المستوطنين، وجعلته يوظف قلمه في إطار البحث العلمي لكشف مظالم الاستعمار، ومفاد الحادثة هذه أن نهره وذمّه رهط من الأقدام السوداء العنصريين، جرّاء تنازله لامرأة جزائرية عن مقعده في الحافلة التي كان يقلها وهو بزيّه العسكري(2). * ثم شاء قدره أن يعود مرة أخرى إلى الجزائر، بصفته أستاذاً عيِّن في أحدى ثانويات الجزائر، وقد مكث عشر سنوات (1947 - 1957) قضاها في التدريس والدراسة ومعايشة مأساة الجزائريين عن قرب. ولا شك أن هذه الفترة الطويلة قد تركت بصماتها في نفسية المؤرخ، وجعلته يرجح الكتابة الموضوعية ويتجاوز حجاب الإيديولوجية الاستعمارية. * هذا وقد تأثر شارل روبير أجيرون سياسيا بموقف أستاذه »أنري إيريني مارون« بجامعة ليون الذي كان سبّاقا إلى التنديد بالتعذيب سنة 1956م فانضم إلى تيار »الليبراليين« الذين كانوا يناضلون عبر مجلتهم (Esprit)، من أجل إحداث إصلاحات عميقة في النظام الاستعماري، قصد توفير شروط النجاح للمصالحة بين الجزائريين (الأهالي) والمستوطنين الفرنسيين. بيد أن هذا التيار لم يلبث أن ضعف وصار معزولا سنة 1957م، فمنعت مجلتهم، وعاد شارل روبير أجيرون إلى فرنسا. * أعماله الفكرية * تميزت أعماله الفكرية بالروح العلمية، والاعتماد على المادة الأولية الضرورية للمؤرخ، والمتمثلة في الأرشيف والوثائق، التي اطلع على الكثير منها سواء في الجزائر أو فرنسا. وكان قد عيّن بعد عودته إلى فرنسا أستاذا بثانوية Lakanal de Sceaux)) قرب باريس، ثم أستاذا مساعدا بجامعة السوربون سنة 1961، وهناك احتك بالأستاذ الذائع الصيت شارل أندري جوليان (1891- 1991م) المختص في تاريخ المغرب الكبير، فأشرف عليه لنيل شهادة الدكتوراه بدراسته الموسومة (الجزائريون المسلمون وفرنسا 1871-1919) التي نوقشت سنة 1968م. وعقب ذلك عيّن مدرسا محاضرا ثم أستاذا محاضرا في جامعة (تور Tours) من سنة 1969 إلى سنة 1981م، لينتقل بعدها إلى جامعة باريس. كما ترأس المؤسسة الفرنسية لتاريخ ما وراء البحر، والمجلة الفرنسية لتاريخ ما وراء البحر. * كتاب (الجزائريون المسلمون وفرنسا 1871 1919) * اعتبر المختصون هذا الكتاب »عملا مرجعيا« لسياسة الجمهورية الثالثة، التي كرست الإيديولوجية الاستعمارية، المقوّضة لأركان وتنظيمات المجتمع الجزائري المسلم، من خلال القوانين والقرارات المجحفة، التي مست مجالات العقار، والضرائب، واستغلال الغابات، وقانون الأهالي، فأقصت الجزائريين من المواطنة الفرنسية، وأنزلتهم إلى درجة العبيد وهم في عقر دارهم. * هذا وقد نوّه الدكتور محفوظ قداش بموضوعية هذا العمل ونزاهته وخلوّه من الشحنة الإيديولوجية أو مسحة التملق، الأمر الذي أضفى عليه المصداقة. واعتبره »صورة صادقة« للصراع الذي دار بين المجتمع المسلم الجزائري، وبين المستوطنين المدعمين بالإدارة الفرنسية، التي وظفت أدوات عديدة لتدمير تنظيمات الجزائريين الاجتماعية، ولتشديد الخناق على الاسلام عن طريق تعطيل القضاء الإسلامي وتشجيع التنصير، وتخريب مؤسساتهم التعليمية، وقهر الجزائريين ب»قانون الأهالي« والمحاكم القمعية(3). * واعتبارا لأهمية هذا الكتاب فقد قام المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة 1954م، التابع لوزارة المجاهدين، بترجمته ونشره سنة 2007م (4). وكان الدكتور محمد العربي ولد خليفة قبل ذلك قد ترجم الفصلين العاشر والحادي عشر منه (الوهم القبائلي) ونشرهما في كتاب خاص بسياسة »فرّق تسد« الاستعمارية الهادفة إلى تقسيم الجزائر، عن طريق السعي لخلق كيان سياسي خاص بمنطقة القبائل. * وتكمن أهمية كتاب شارل روبير أجيرون بنظر الدكتور محمد العربي ولد خليفة في نقطتين هامتين، تتمثل الأولى في كونه »صورة موثقة لوقائع الصراع بين الكولونيالية الاستيطانية والمقاومة الشعبية الجزائرية، بأشكالها الجماعية والفردية، تحمل وجهة نظر الطرف المقابل«. أما النقطة الثانية فإنها تتمثل في كون الكتاب يعطي لنا الصورة الحقيقية »...لسياسة الأعراق والمراهنة على تمزيق الانسجام الداخلي في المجتمع الجزائري، عن طريق وضع منطقة القبائل بوجه خاص في مخبر ما سمّاه المؤلف نفسه بالوهم أو الأسطورة القبائلية، وقد تجند العسكريون والسياسيون لإنجاز هذا المشروع الإجرامي، وفصل ما سموه العرب »الجنس الأسفل« عن البربر »الجنس الأعلى« المنحدر من الأصل الروماني أو الوندالي أو حتى الغولي، وحددوا له إحدى عشرة سمة مميزة في المظهر والمخبر، وما يقابلها من السمات المنحطة عند العرب«(5). * ومن كتبه الأخرى: (حكومة الجنرال بيرتيزين في الجزائر سنة 1831) الذي ذكر فيه أن سياسة الجنرال كانت تهدف إلى وضع حد للإهانة التي كان يتعرض لها الجزائريون، والى إيقاف نهب أراضيهم، وكل التجاوزات التي كانت تمارس تحت غطاءات شرعية. وكتاب (تاريخ الجزائر المعاصرة 1830 1976)، الذي ترجمه ديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر، بقلم عيسى عصفور، وصدرت طبعته الثانية سنة 1982م. أما مقالاته العديدة (حوالي 120مقالا) فقد جمعت ونشرت في كتابين: (من الجزائر الفرنسية إلى الجزائر الجزائرية)، و(تكوّن الجزائر جزائرية / Genèse de L'Algérie algérienne). * هذا وتجدر الإشارة إلى أن »دار بوشن للنشر« قد قامت بإعادة نشر أعماله في مجموعة واحدة (خمسة أجزاء)، سنة 2005، بمقدمة من وضع تلميذه (جيلبير ماينيير Gilbert Meynier)، أشار فيها إلى أن أستاذه كان يذكّره دائما، أن مهمة المؤرخ تقتضي تجاوز لبوس الإيديولوجية. * يتبع...