ربيقة في ماناغوا للمشاركة في تنصيب القائد الأعلى للجيش و القائد العام للشرطة بنيكاراغوا    المغرب : انتقادات تلاحق الحكومة وتضعها في قفص الاتهام بسبب فشلها في تحقيق العدالة الاجتماعية    تكييف عروض التكوين مع احتياجات سوق الشغل    عراقيل تعترض استقرار إفريقيا وتنميتها تفرض التعامل بجدّية    تبادل البيانات بين القطاعات الوزارية بسرية وسلامة    منحة السفر الجديدة سارية بعد عيد الفطر    القضاء على إرهابي خطير بالمدية    لا مصلحة لنا في الاحتفاظ بالجثامين لدينا    بيتكوفيتش يحضّر لبوتسوانا والموزمبيق بأوراقه الرابحة    شباب بلوزداد يضيّع الصدارة في سطيف    2025 سنة تسوية العقار الفلاحي بكل أنماطه    قرية حاسي مونير بتندوف... منطقة جذب سياحي بامتياز    الجزائر قوة ضاربة بإنجازاتها العملاقة    الانتهاء من ترميم القصبة بحلول 2026    عطاف يجري بجوهانسبرغ محادثات ثنائية مع عدد من نظرائه    تصدير أجبان مجمّع "جيبلي" إلى عدة دول قريبا    توالي ردود الفعل المنددة بطرد الاحتلال المغربي لوفد برلماني أوروبي من الاراضي الصحراوية المحتلة    صحة: المجهودات التي تبذلها الدولة تسمح بتقليص الحالات التي يتم نقلها للعلاج بالخارج    بوغالي بالقاهرة لترؤس أشغال المؤتمر ال7 للبرلمان العربي ورؤساء المجالس والبرلمانات العربية    الدورة الافريقية المفتوحة للجيدو: سيطرة المنتخب الوطني للأواسط في اليوم الأول من المنافسة    أنشطة فنية وفكرية ومعارض بالعاصمة في فبراير احتفاء باليوم الوطني للقصبة    شركة جازي تفتتح فضاء جديدا خاصا بالحلول التكنولوجية بالدار البيضاء بالجزائر العاصمة    وزير البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية يترأس بسطيف لقاء مع مسؤولي القطاع    تنظيم الطبعة ال21 لنهائي سباق سعاة البريد في اطار احياء اليوم الوطني للشهيد    ترسيم مهرجان "إيمدغاسن" السينمائي الدولي بباتنة بموجب قرار وزاري    سفارة أذربيجان بالجزائر تستعرض مجموعة من الإصدارات الجديدة في لقاء ثقافي    ياسين وليد: ضرورة تكييف عروض التكوين مع متطلبات سوق العمل لكل ولاية    بوغالي يستقبل رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبي بالجزائر    سايحي يضع حيز الخدمة مركز مكافحة السرطان بطاقة 140 سريرا بولاية الأغواط    تسخير مراكز للتكوين و التدريب لفائدة المواطنين المعنيين بموسم حج 2025    تدشين مصنع تحلية مياه البحر بوهران: الجزائر الجديدة التي ترفع التحديات في وقت قياسي    الرابطة الأولى: شباب بلوزداد يسقط في سطيف (1-0) و يهدر فرصة تولي صدارة الترتيب    جائزة سوناطراك الكبرى- 2025: فوز عزالدين لعقاب (مدار برو سيكيلنغ) وزميليه حمزة و رقيقي يكملان منصة التتويج    غزّة تتصدّى لمؤامرة التهجير    فرنسا تغذّي الصراع في الصحراء الغربية    تردي متزايد لوضعية حقوق الإنسان بالمغرب    الشروع في تسويق طراز ثالث من السيارات    بن طالب.. قصة ملهمة    شرفة يعلن عن الشروع قريبا في استيراد أكثر من مليوني لقاح ضد الحمى القلاعية    بو الزرد: دخول منحة السفر الجديدة حيز التنفيذ قبل نهاية رمضان أو بعد العيد مباشرة    اختيار الجزائر كنقطة اتصال في مجال تسجيل المنتجات الصيدلانية على مستوى منطقة شمال إفريقيا    لقاء علمي مع خبراء من "اليونسكو" حول التراث الثقافي الجزائري العالمي    أمطار مرتقبة في عدّة ولايات    مبارتان للخضر في مارس    هذا زيف الديمقراطية الغربية..؟!    خنشلة: الأمن الحضري الخارجي المحمل توقيف أشخاص في قضيتي سرقة وحيازة كحول    الرئيس تبون يهنيء ياسمينة خضرا    أيوب عبد اللاوي يمثل اليوم أمام لجنة الانضباط    احتفالات بألوان التنمية    إثر فوزه بجائزة عالمية في مجال الرواية بإسبانيا رئيس الجمهورية.. يهنئ الكاتب "ياسمينة خضرا"    "حنين".. جديد فيصل بركات    حج 2025: إطلاق عملية فتح الحسابات الإلكترونية على البوابة الجزائرية للحج وتطبيق ركب الحجيج    هكذا تدرّب نفسك على الصبر وكظم الغيظ وكف الأذى    الاستغفار أمر إلهي وأصل أسباب المغفرة    هكذا يمكنك استغلال ما تبقى من شعبان    سايحي يواصل مشاوراته..    أدعية شهر شعبان المأثورة    الاجتهاد في شعبان.. سبيل الفوز في رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأخضر الإبراهيمي في الجزء الثاني من حواره المطول للشروق (2)
نشر في الشروق اليومي يوم 30 - 06 - 2007

ثم إن بن يحيى كان قد أنهى دراساته في القانون وبدأ تربص المحاماة بمكتب عبد الرزاق شنتوف الذي كان أكبرنا سنا جميعا وكان وزوجته مامية معروفين كثيرا ويحظيان باحترام كبير في الوسط العاصمي. المعركة بباريس كانت حامية الوطيس. غير أنه مع اقتراب موعد نهاية السنة الجامعية، التحق أغلب المؤيدين للاتحاد العام للطلبة الجزائريين بالاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين. هكذا، تأسس هذا الاتحاد الجديد في جو من الإجماع في شهر جويلية 1955.
ثم إن بن يحيى كان قد أنهى دراساته في القانون وبدأ تربص المحاماة بمكتب عبد الرزاق شنتوف الذي كان أكبرنا سنا جميعا وكان وزوجته مامية معروفين كثيرا ويحظيان باحترام كبير في الوسط العاصمي. المعركة بباريس كانت حامية الوطيس. غير أنه مع اقتراب موعد نهاية السنة الجامعية، التحق أغلب المؤيدين للاتحاد العام للطلبة الجزائريين بالاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين. هكذا، تأسس هذا الاتحاد الجديد في جو من الإجماع في شهر جويلية 1955. لم أشارك في المؤتمر التأسيسي إلا أنني انتخبت في اللجنة المديرة ثم في اللجنة التنفيذية حيث كلفت مهمة العلاقات الخارجية. لقد رفض عبد السلام بلعيد أي منصب رسمي في الاتحاد لكن أظن أنه كان، مع ذلك، عضوا في اللجنة المديرة. أحمد طالب الإبراهيمي كان أول رئيس للتنظيم ومولود بلهوان أمينه العام. وقد تعاقب كل من بلهوان، خميستي ثم مسعود أيت شعلال على رئاسة الاتحاد أثناء سنوات الكفاح.
م. ش. مصباح: وفي ما يخص ظروف رحلتكم إلى باريس ودراستكم هناك...؟
ل. ابراهيمي لم أقرر طلب الانتقال إلى باريس إلا في شهر سبتمبر 1955 إثر تجوال دام طويلا مع بن يحيى بوسط العاصمة وبعد الحصول على موافقة عمي علي. لابد علي أن أعترف أنني لم أكن طالبا حريصا كثيرا بباريس. في معهد العلوم السياسية، كان من اللازم حضور الأعمال التطبيقية بل ومعظم المحاضرات. أما في كلية الحقوق، فعلى العكس، لم تكن هناك أية مراقبة ولا أظنني حضرت أكثر من بضعة دروس وما لبثت الانشغالات السياسية أن طغت لدي على الانشغال بالدراسة. بطبيعة الحال، لم أكن الوحيد في هذه الحالة، بل أكاد أجزم أن معظمنا كان هكذا. وقد بدأت مجموعات من الطلبة والأوساط السياسية في فرنسا تتساءل عما كان يحدث بالجزائر آنذاك وتم الاتصال بالطلبة الجزائريين لمعرفة حقيقة الأمر. هكذا صار المطعم الجامعي الكائن بمحل متواضع يقع ب 115 شارع سان ميشال قطبا للحياة الطلابية بباريس (لا أدري ما إذا ال "115" - كما كان الطلبة يسمونه بحنو - لايزال تابعا للمغاربيين أو للجزائر فقط. العمارة هي الآن مغلقة وفي حالة يرثى لها ؛ علما أن الأمر لا يتطلب الكثير من أجل ترميمها كي تقدم فائدة ما. إنه واحد من الملفات التي ينبغي على سفارتنا أو قنصليتنا العامة هناك أن تهتم به.).
هذا هو المكان الذي تعرفنا فيه على المتوفين Robert Barat وزوجته Denise وعلى Claude Bourdet وغيرهم كثير. الدكتور طالب الإبراهيمي تعرف في ما بعد بقليل على Jean Daniel وعن طريقه على Albert Camus و Mendès France. أما بالنسبة إلى أوساط فرنسية أخرى، من اليمين، فلم يكونوا يشكون في أن الجزائر فرنسية وستظل فرنسية سواء أحبت تلك الكمشة من "المتمردين" – أي من "الإرهابيين" كما يقال اليوم – أو أبت. هذا النوع من الناس هم الذين سيعتدون على طلبتنا ب Montpellier في جانفي 1956. ثم وقع اجتماع اللجنة المديرة للاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين في شهر مارس 1956، وقد حضره من الجزائر كل من بن يحي ولمين خان وغيرهما. وقد تمت دعوة الاتحاد إلى حضور ندوة للطلبة الأفارقة والآسياويين انعقدت بباندونغ في شهر أفريل من نفس السنة تزامنا مع الذكرى الأولى لقمة رؤساء الدول المنعقد بهذه المدينة الإندونيسية سنة من قبل. (مؤتمر باندونغ كان حدثا تاريخيا بارزا، كما مثل أهمية كبيرة بالنسبة إلى الجزائر على وجه التحديد. لذلك يستحق ألا ننساه في بلادنا. لقد وجد الرئيس بوتفليقة صيغة رائعة لتأكيد دلالة هذا المؤتمر في سياق كفاحنا التحرري حينما قال : "باندونغ كان بمثابة غرة نوفمبر الدولي بالنسبة إلى الشعب الجزائري في كفاحه من أجل الاستقلال").
غير أن أول سؤال واجهناه في هذا الصدد خص من يمثل الاتحاد بباندونغ. لقد جاء بن يحيى حاملا لتوصية من القيادة السرية لجبهة التحرير الوطني بالجزائر العاصمة، وهو الذي تقرر تعيينه، مع عبد السلام، لهذا التمثيل. بعد المؤتمر، كان من المقرر ألا يعودا لا إلى فرنسا ولا إلى الجزائر بل يضعا نفسهما تحت تصرف الوفد الخارجي للجبهة الذي كان في حاجة إلى تعزيزات في صالح نشاطه. لم يكن بلعيد متحمسا للذهاب، وبعد أخذ ورد ومشاورات مع قيادة الجبهة اقترحوني لتعويضه. لم يكن قرارا سهلا، غير أنني لم أتردد كثيرا في القبول. في هذه الحالة أيضا، استشرت عمي الذي لم يتردد كثيرا هو الآخر في الموافقة. كان عمي هذا نائبا في الجمعية الوطنية الفرنسية ولم يلبث أن استقال منها، أشهرا من بعد، ليتم اعتقاله بمحتشد واقع ب Larzac برفقة الكثير من غيره. لقد صار التعاون مع الاحتلال الفرنسي آنذاك مستحيلا ولم ينج من القمع أحد. وفي أقل من سنة بعد ذلك، تعرض عمي أحمد، علما أنه كان باشاغا، مع قريب آخر، بن طيبة محمودي، وكان "قايدا"، إلى القتل على يد مظليين فرنسيين. وقد أشاد لي العقيد أوعمران والرائدان عز الدين وعمر أوصديق، في ما بعد، بتلك المساعدة التي قدمها لهم عمي هذا وغيره كثيرون من عائلتي في تمركز الولاية الرابعة بالمنطقة. ولم يمر وقت طويل حتى استقالت شخصية أخرى جزائرية من بين "الإداريين" من جميع الوظائف الرسمية التي كانت تحتلها في النظام الفرنسي، ألا هي عبد القادر السايح، معلنة، بمفردات بسيطة وبكل عزة نفس، "اليوم، ألتحق بأهلي !".
م. ش. مصباح: هل انقطعتم، حينئذ، نهائيا عن الدراسة ؟
ل. ابراهيمي نعم، بطبيعة الحال. لقد ذهبت أنا وبن يحي، إذاً، إلى القاهرة حيث استقبلنا محمد خيضر بترحيب كبير. ولما كان الشهر شهر رمضان، أخذنا محمد خيضر، يوم العيد، لزيارة الأمير عبد الكريم الخطابي، القائد الأسطوري لحركة التمرد بالريف المغربي. هناك التقينا Jean Lacouture، ذلك الصحفي والكاتب الفرنسي الشهير الذي ظل صديقا لي منذ ذلك الوقت. لقد وصل كل من فرحات عباس، الدكتور فرانسيس، أحمد بومنجل والشيخ توفيق المدني إلى القاهرة في نفس الوقت مثلنا تقريبا، إيذانا بالانضمام الرسمي للاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري (UDMA) وجمعية العلماء الجزائريين بجبهة التحرير الوطني، فلم يبق إلا الحركة الوطنية الجزائرية المصالية (MNA) التي فضلت الانفراد. بالنسبة إلي وإلى بن يحيى – وما لبث أن انضم إلينا الكثير من الزملاء الطلبة – الحياة الجامعية انتهت.
م. ش. مصباح: اسمحوا لي أن ألح بصفة خاصة هنا على تلك العملية السيكولوجية التي قادت طالبا، أي مثقفا على أية حال، إلى قطع الصلة نهائيا بالوضع السائد والانخراط في الكفاح.
ل. ابراهيمي: هذا النوع من الأسئلة من بعد لا من قبل. وكما قلت، لقد تم إنشاء اتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين في سياق الكفاح بحيث لم يلبث الاتحاد، وبصورة طبيعية تماما، أن صار تعبيرا عن الجهد الوطني في الوسط الطلابي. كما لم يلبث طلاب الثانويات بالعاصمة أن أنشأوا تنظيمهم الخاص الذي برز فيه عمارة رشيد وغيره من المدرسيين قبل أن يستشهدوا بالجبال فداء للوطن. الإضراب الذي قررته القيادة السرية لجبهة التحرير الوطني بالعاصمة، بالتشاور مع طلبة الجامعة والثانويات تم إعلانه في 19 ماي 1956 ليلتحق بعده هؤلاء، بصفة علنية، بصفوف جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني. هكذا، صار الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، على المستوى الدولي، الصورة التي تجسدت بها فئة الطلبة المكافحة. وعلى الرغم من قلة عدد هؤلاء الطلبة، فقد كان هؤلاء حاضرين في مختلف أجهزة الكفاح. فحتى في مجالس الولايات، كان هناك قائدا ولاية من الطلبة، وهما لطفي في الولاية الخامسة ويوسف الخطيب في الولاية الرابعة. كما كان الطلبة حاضرين ضمن القيادة السرية لجبهة التحرير الوطني بالعاصمة، في ما عُرف بالمنطقة المستقلة لمدينة الجزائر، في الاتحاد العام للعمال الجزائريين وفي فدرالية فرنسا وفي فترة لاحقة بالحكومة المؤقتة ومختلف إداراتها مثل لمين خان الذي كان عضوا فيها. في ما يخصني، النشاط الدولي لجبهة التحرير الوطني والحكومة المؤقتة هو الذي عملت في إطاره من دون انقطاع، أي منذ مغادرتي وبن يحي باريس متجهين إلى القاهرة ومنها إلى جاكرتا وباندونغ.
م. ش. مصباح: هكذا، إذاً، بدأت، بالنسبة إليكم، حياة جديدة بعد انخراطكم المحتوم في النشاط الدبلوماسي خدمة للثورة الجزائرية. وبالفعل، أنتم تنتمون إلى ذلك الجيل الذي اتفق على تسميته بجيل "الدبلوماسيين المناضلين". ترى، كيف تم هذا الانخراط الذي بدأ من إندونيسيا ؟
ل. ابراهيمي لعله من المفيد البداية بقول كلمة مختصرة في ما يخص ندوة طلبة آسيا وإفريقيا المنعقدة بباندونغ في ربيع 1956. على أية حال، تلك كانت هي المناسبة التي اتجهنا فيها، أنا وبن يحيى، إلى هذا البلد. لقد كانت الخلافات بين الطلبة الآسيويين عميقة. لا ننسى أن الفترة كانت فترة الحرب الباردة. وإذا كان سبيل عدم الانحياز (لم تكن هذه العبارة مستعملة آنذاك على نطاق واسع، لكن استعمالها بدأ في تلك الفترة) بالنسبة إلى الكثير من الطلبة هو السبيل الوحيد المناسب لمصالح البلدان الإفريقية والآسيوية، فقد كانت هناك نسبة عالية من الطلبة ينتمون إلى هذا الحلف أو ذاك، أي الحلف الشيوعي والحلف الغربي. أتذكر، مثلا، كم كان رئيس الوفد الفلبيني شديد المعاداة للشيوعية. أما الصينيون والفيتناميون، فقد كانوا أكثر تحفظا حتى وإن لم يمنعهم تحفظهم هذا من أن يكونوا على قدر كبير من الصرامة والفصاحة في خطابهم. الوفد الهندي، من جهته، كان متألفا من مجموعات عدة، متعارضة تماما في بعض الأحيان. لم تفتح أشغال الندوة إلا في نهاية الأسبوع الأول من شهر ماي واستمرت إلى غاية الثاني والعشرين منه. هكذا، اتخذنا من هذه الندوة فرصة للإعلان، في الجلسة العامة، للإضراب الذي بدأه طلبتنا في التاسع عشر من نفس الشهر. وفور انتهاء أشغال الندوة، قمنا بفتح أول مكتب لجبهة التحرير الوطني بجكارتا، وكان أول مكتب من هذا النوع في آسيا. في شهر أوت، عاد بن يحي إلى القاهرة وبقيت وحدي هناك لتتواصل إقامتي بالعاصمة الإندونيسية مدة خمس سنوات، أي إلى غاية شهر نوفمبر 1961.
م. ش. مصباح: هكذا، إذاً، امتدت لكم جذور، بالمعنى التام للكلمة، في المجتمع الإندونيسي...
ل. ابراهيمي: تحدثتم منذ حين عن "الانخراط الحتوم في الحياة الدبلوماسية". لنكن أكثر دقة: لا أذكر ما إذا أكرمنا أحد، في تلك الفترة، بصفة "الدبلوماسي". على أية حال، لم اعتبر نفسي أبدا كذلك وأظن نفس الأمر ينطبق على غيري من الإخوان. لقد كنا مناضلين أرادت الأقدار، الحظ والظروف أن تجعلنا في ذلك الوضع وبذلنا قصارى جهدنا في سبيل خدمة بلدنا. فحتى بعد إعلان الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (GPRA)، لم نفكر أبدا في منح تمثيلياتنا اسم السفارة أو نقدم على منح لقب السفير لأنفسنا. بحكومة مؤقتة أو من دونها، لم تكن الجزائر مستقلة بعد وكان الزمن زمن احتلال وحرب ضروس. الكلام عن دبلوماسي أو سفير كان عيبا. في جكارتا، خالطت كل الأوساط وعلى جميع المستويات بما في ذلك الحكومة في مقدمتها رئيس الجمهورية سوكارنو، كافة الأحزاب السياسية، المنظمات الجماهيرية، وسائل الإعلام، بل وحتى الأوساط الفنية. وقد كانت هناك لجنة مساندة للجزائر برئاسة زعيم أكبر حزب إسلامي في تلك الفترة، ألا وهو محمد ناتسير، وكان أمينها العام حميد القدري من الحزب الاشتراكي ونائب رئيسها، زعيم حزب مسيحي بروتستانتي وأمين خزينتها زعيم الحزب الكاثوليكي. كما ترون، كان طيفا بكل الألوان. وبفضل مساعدة أحد الطلبة، حميد الحداد - الذي صار في التسعينيات سفيرا لإندونيسيا بالجزائر – كانت لنا نشرية باللغتين الإنجليزية والإندونيسية. وبالتعاون مع رئيس تحرير إحدى اليوميات الرئيسية في إندونيسيا، روسيهان أنور، وهو صديق أبقى على اتصال معه إلى حد الآن، استغللنا شهرة جميلة بوحيرد لكتابة سلسلة من المقالات تعرضت لمختلف جوانب القضية الجزائرية. وقد أعيد نشر هذه المقالات في كتيب بعنوان "جميلة، سريكندي الجزائر" (جميلة، بطلة من الجزائر).
م. ش. مصباح: لقد كانت إندونيسيا، إذاً، تقدم دعما ملحوظا لحرب التحرير للشعب الجزائري...
ل. ابراهيمي: كيف لا ؟ في شهر جانفي 1961، قام فرحات عباس بزيارة رسمية إلى جاكارتا حيث حظي بترحاب حار من طرف الرئيس سوكارنو. وقد طلب الزائر من أندونيسيا اتخاذ مبادرة الدعوة إلى عقد ندوة للبلدان الأفروآسوية حول القضية الجزائرية. وبعد قيام الإندونيسيين بالاتصالات اللازمة، أخبرونا أنهم، للأسف، لم يلقوا صدى إيجابيا لدى المعنيين بشأن الاقتراح. بعد ذلك، بدأ الحديث عن فكرة أخذت كل من إندونيسيا، الهند، مصر ويوغسلافيا تناقشها، ألا وهي عقد قمة كبيرة لبلدان عدم الانحياز. وقد طلبنا من إندونيسيا التحرك من أجل دعوة الجزائر إلى المشاركة فيها على قدم المساواة. تم الإعداد، في القاهرة والإسكندرية في شهر جويلية، لهذه القمة التي كانت أول ندوة لرؤساء الدول والحكومات لبلدان عدم الانحياز وانعقدت بالعاصمة اليوغسلافية بلغراد في شهر سبتمبر 1961. وقد كانت أول ندوة دولية من هذا النوع شاركت فيها الجزائر على قدم المساواة مع باقي البلدان الحاضرة. أضف إلى ذلك، أن الإندونيسيين قاموا، بعد هذه الندوة مباشرة، بإرسال وفد عسكري إلى كل من تونس والمغرب لمناقشة مسألة التسليح مع القادة العسكريين الجزائريين. كان على رأس هذا الوفد العقيد سومارتو، وهو صديق لي أيضا. سنوات بعد ذلك، حينما كنت سفيرا بالقاهرة، زارني العقيد سومارتو وحرمه حيث قضيا بضعة أيام في ضيافتي. لقد جاءني من ألمانيا حيث كان يعالج من مرض سرطاني فتاك. وفي أقل من سنة من بعد، قضى عليه هذا المرض. ومنذ تلك الفترة، صرت كلما زرت إندونيسيا أعرج وأسرتي على باندونغ خصيصا لزيارة أرملة الراحل وأولاده.
لا يفوتني، في هذا المقام، أن أحيي، بصورة خاصة، ذكرى حميد القدري. أشرت منذ حين إلى أنه كان الأمين العام للجنة مساندة الجزائر. حميد القدري هذا كان، في الواقع، أكثر من ذلك. لقد كان عضوا في أول برلمان إندونيسي بعد استقلال بلاده وصار، سنة 1953، أول من دافع، على المستوى الرسمي، عن ضرورة التضامن النشط مع الشعوب المغاربية المكافحة ضد الاحتلال الفرنسي. ومنذ تلك الفترة، صار بيته نوعا من "البيت المغاربي" حيث كان الكثير من القادة المغاربين يتداولون على مائدته أذكر من بينهم كلا من بورقيبة، علال الفاسي، صالح بن يوسف وفرحات عباس. وإلى أن وافته المنية سنة 1998، ظل جميع السفراء الجزائريين المتعاقبين بجكارتا يستفيدون من نصائحه القيمة ومن كرم الضيافة لدى عائلته. وإلى حد اليوم، تظل أرملته، زينة، وأولاده، ماهر، عتيقة، عديلة، الصادق، محتفظين بعلاقات وثيقة بسفارة الجزائر هناك. وفي ما يخصني، فإن أبناء حميد وزينة القدري وأحفادهما يبقون، كما يقول أولادي أنفسهم، "أسرتنا الإندونيسية". وإنني لسعيد كل السعادة أن أرى الجزائر، على غرار تونس، وقد منحت وساما لحميد القدري بمناسبة زيارته الثالثة والأخيرة إلى بلدنا.
م. ش. مصباح: لنتعرض باختصار، إن سمحتم، للنشاط الدبلوماسي لجبهة التحرير الوطني على مستوى العالم.
ل. ابراهيمي: سرعان ما امتد النشاط الدبلوماسي للجزائر في مختلف أنحاء العالم بحيث شهدت مدن عالمية عديدة فتح مكاتب جديدة للجبهة كان من بين إطاراتها أعضاء من الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين. وغالبا ما كان هؤلاء الطلبة يشرفون بأنفسهم على هذه المكاتب ويحتلون فيها مراكز مرموقة من أمثال الشريف قلال بنيودلهي، عبد المالك بن حبيلس بطوكيو، محمد قلو بلندن ثم كاراتشي، حفيظ كيرمان ومولود قاسم ببون، علي لخضري بروما، رؤوف بوجقجي بنيويورك ثم، بعد ذلك بكثير، مسعود أيت شعلال ببيروت، محمد حربي بكوناكري، عبد القادر بن قاسي، عبد العزيز زرداني، زميرلي وإبراهيم غافا بالقاهرة. في هذه الأثناء، ظلت قيادة الاتحاد الطلابي، "اللاجئة" بسويسرا وتونس، تواصل في إسماع صوت الطلبة في مختلف أنحاء العالم. وكانت نيويورك، بطبيعة الحال، مكانا ذا أهمية بالغة لنشاطنا الدبلوماسي. الراحلان امحمد يزيد وعبد القادر شندرلي حققا المعجزات في هذا المكان. لم نتوصل إلا في سبتمبر 1955، بعد مساع شاقة، من تسجيل القضية الجزائرية في جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان ذلك بأغلبية صوت واحد. الحدثان اللذان كان لهما دور حاسم في تحقيق هذا النجاح هما هجمات 20 أوت 1955 في الولاية الثانية ومؤتمر باندونغ. العديد من الطلبة أعطوا دفعا لنشاط مكتب جبهة التحرير الوطني بيويورك. إضافة إلى رؤوف بوجقجي المشار إليه، كان هناك محمد سحنون، محمد أبركان وزوجته سعاد. كيف لا نذكر هواري قوديح، ذلك الملاكم الآتي من وهران الذي كان بإمكانه أن يعرف مسيرة ناجحة لو وجد الدعم اللازم في عالم الملاكمة القاسي في الولايات المتحدة الأمريكية. مجد في عمله، متواضع ومخلص في علاقاته، إن الحاج قوديح لازال في منصبه بسفارة الجزائر لدى الأمم المتحدة ؛ مما يشكل، ربما، رقما قياسيا...
ولا يفوتني هنا أن أحيي ذكرى Abbe Beringuer الذي جال في مختلف أنحاء أمريكا اللاتينية شارحا مغزى حرب تحرير الجزائر. إنني أتحدث هنا، فقط، عن النشاط الخارجي المحض ولا أشير إلى كل هذه الأسماء إلا من باب الذكرى. بطبيعة الحال، لم أذكر أسماء بعض الإخوان وأنا متأكد من أنهم لن يلوموني على ذلك. ينبغي الحديث عن كل الطلبة الآخرين ممن عمروا مختلف أجهزة الحكومة المؤقتة بكل من تونس، القاهرة، والمغرب وكذا على مستوى القيادة العامة للأركان. ينبغي، على وجه الخصوص، عدم نسيان كل من وهب نفسه فداء للجزائر ومات في سبيل تحريرها. على المستوى الإفريقي تحديدا، ينبغي أن نلح على أننا كنا نقوم بجهود كبيرة من أجل تحرير بلدان القارة. لا أدري ما إذا كان قراؤكم الشباب يدركون ذلك العمل الجبار الذي قام به رائدان بارزان كانا ممثلين لجبهة التحرير الوطني والحكومة المؤقتة بكل من غانا وغينيا، ألا وهما فرانتز فانون بأكرا وعمر أوصديق بكوناكري اللذين كانا، بالفعل، مستشارين مسموعين كثيرا من طرف كوام نكروما وأحمد سيكو توري. لقد أسهمت الجزائر بكل قوة في تطوير الحركات الوطنية في المستعمرات البرتغالية، لاسيما بأنغولا، مثلما شهد على ذلك، في ما بعد، أميلكار كابرال حينما قال : "الجزائر هي مكة الثوار !".
م. ش. مصباح: ألم يحدث لكم أن فكرتم أن ظروف إقامتكم كانت، على كل حال، أريح من ظروف إقامة رفاقكم الملتحقين بالجبال مباشرة ؟
ل. ابراهيمي: في ما يخصني، لقد كنت مدركا الوضعية الحسنة التي كنت أعيشها، متيقنا أن الأمر لم يكن مخالفا بالنسبة إلى باقي الإخوان. المسألة، حينئذ، لم تقدَّم على نطاق عام وإنما في نطاق خاص جدا وشخصي جدا. كانت هناك العائلة بالطبع لأنه من الصعب مغادرة الأهل كما فعلنا، ويبقى المرء محتارا دوما بشأن حالة الوالدة والأخوات. فعندما يسمع المرء بالصدفة، عن طريق خبر صحفي أو نبأ في الإذاعة، أن عما قُتل كما حدث لعمي أحمد وأن أبناء عم أو خال أو جيرانا زج بهم في السجون أو المحتشدات كيف له ألا يتساءل قائلا "لماذا أنا هنا، بعيدا جدا وعاجزا عن تقديم أي عون ؟". عندما تسمعون أن علاوة بن بعطوش قتل تحت الأسلاك الشائكة المكهربة لخط موريس لابد وأن تقولوا في قرارة نفسكم لماذا هو وليس أنا. وعندما يصلني نبأ فقدان علي بن ناصر، أقرب صديق لي في المدرسة، ربما من جراء التعذيب، لا أملك إلا أن أقول لماذا هو وليس أنا. وعندما استجاب كل من شقيقي ميلود وابنا عمي، لخضر وعبد القادر، بدورهم لنداء جبهة التحرير الوطني، في ما بعد، ملتحقين بصفوفها عبر الحدود، طبعا شعرت بالافتخار لكن أيضا – وهذا شعور قوي جدا – وكأنني متروك جانبا، معزولا لا يرجى مني أي نفع... أنا متأكد من أن جميع الطلبة ممن وجدوا أنفسهم في تلك الوضعية المريحة التي تحدثتم عنها منذ حين قد طلبوا، في وقت ما، الالتحاق بالجبال. غير أن القادة، مدنيين كانوا أو عسكريين، واجهونا بالرفض التام.
م. ش. مصباح: لقد كنتم مطلعين، إذاً، من "برج المراقبة الدبلوماسية" الذي كنتم تتابعون منه تطور ميزان القوى الذي كانت معالمه ترتسم في صالح استقلال الجزائر.
ل. ابراهيمي: مرة أخرى، إن عبارة "برج المراقبة الدبلوماسية" ليست في محلها. سبق لي أن أكدت أننا كنا مناضلين لا دبلوماسيين محترفين. هذه الصفة هي التي كنا نتابع بها الأحداث ونحللها. إدارة الاحتلال بالجزائر مر عليها وقت طويل قبل أن تدرك أن ما كان يحدث أمام أعين موظفيها، شرطتها وعساكرها. في الواقع، كان من اللازم انتظار، لا مجيء الجنرال ديغول وإنما إخفاق سياسة الحرب التي اعتمدها فترة دامت ثلاث سنوات طويلة على أية حال. فإخفاق هذه السياسة، وحده، هو الذي فرض على فرنسا الدخول في مفاوضات جادة من أجل التوصل إلى اتفاق لتوقيف النار في 19 مارس 1962 ثم القبول بإجراء استفتاء حول تقرير المصير في 02 جويلية من نفس السنة. لا يتسع المقام هنا للحديث عن ذلك الثمن الغالي الذي اضطر الجزائريون إلى دفعه من أجل وضع حد لما أسمي، بحق، "الليل الاستعماري الطويل". ومع ذلك، ينبغي القول إن التضحيات التي قدمها أبناء جيلنا لم تكن إلا مرحلة من ذلك الكفاح الطويل الذي قامت به كافة الأجيال المتعاقبة منذ 1830. كل ذلك للإشارة إلى أن استقلال الجزائر كان أمرا مقضيا.
م. ش. مصباح: لقد استرجعت الجزائر استقلالها في جو من التوتر الشديد تميز بصراعات وحشية من أجل الاستيلاء على السلطة. كيف عايشتم هذه الأحداث المؤلمة ؟ سواء بصفة فردية أو بصفة جماعية كعضو في جماعة الاتحاد العام للطلبة الجزائريين، كيف واجهتم هذا الصراع بين الأشقاء الذي كان طرفاه الحكومة المؤقتة وقيادة الأركان ؟
ل. ابراهيمي : لم يكن لأفراد جماعة اتحاد الطلبة موقف موحد متفق عليه. البعض منهم كان يميل إلى الحكومة المؤقتة والبعض الآخر كانوا أقرب إلى بن بلة وقيادة الأركان. كنا قليلين من لم يختلف موقفهم عن موقف باقي الشعب الجزائري: "سبع سنين بركات !" و "البطل الوحيد هو الشعب". كنا حزينين كل الحزن للمشهد الذي كان يظهر به قادتنا أنفسهم والثورة الجزائرية لشعب عانى الكثير وأمل الكثير. لقد سعينا لإقامة إدارة لوزارة الشؤون الخارجية بالجزائر مواصلين الاتصال بكل مكاتبنا في الخارج التي ما لبثت أن تحولت إلى سفارات. كما أقمنا اتصالات بالقنصليات الأجنبية بالعاصمة التي، هي الأخرى، كانت تتحول إلى سفارات لبلدانها لدى الجزائر المستقلة.
م. ش. مصباح بعد الاستقلال، كنتم من بين السفراء القلائل الذين كان للرئيس هواري بومدين علاقات مباشرة بهم بلغت، في بعض الأحيان، نوعا من الحميمية. على أية حال، سنعود إلى الحديث عن بومدين في ما بعد. لكن أريد أن أطلب منكم أن تحدثونا، قبل ذلك، عن تلك الانطباعات التي مازلتم تحتفظون بها لهذه الفترة عندما كان البلد يحظى بسمعة كبيرة تأتت له بفضل ثورته.
ل. ابراهيمي: ينبغي أن أشير، أولا، إلى أن الرئيس أحمد بن بلة هو الذي عينني سفيرا بالقاهرة في مارس 1963، ربما بتزكية من أول وزير له للشؤون الخارجية، محمد خميستي ؛ تلك الشخصية الرائعة التي ما لبثنا أن فقدناها في حادثة أليمة، وبطريقة تافهة، بضعة أشهر من بعد. سي أحمد بن بلة كان يتمتع بشهرة وسلطة معنوية وبتأييد شعبي لم يكن غيره ينعم بها على الإطلاق، سواء في العالم العربي، على الخصوص، والعالم الثالث، على العموم. وإنه لمن المؤسف حقا أن نجد الجدل الذي وقع بينه وبين أعضاء الحكومة المؤقتة – والذي خرج منه منتصرا بفضل دعم جيش التحرير الوطني له – يظهر من جديد بينه وبين بومدين ورفاقه. هناك أمور مثيرة مما يمكن قوله حول الاضطراب الذي شهدته السنوات الأولى من الاستقلال. لكن المقام لا يتسع هنا للخوض في هذا الجانب. بعد هذه الإشارة الوجيزة، صارت، لي في ما بعد، "علاقات مباشرة"، كما قلتم، بالرئيس بومدين. في الحقيقة، لم يكن بوسع هذه العلاقات إلا أن تكون كذلك بالنسبة إلى سفير جزائري بالقاهرة، لاسيما بعد نكسة جوان 1967 ؛ نكسة لم تزل المنطقة كلها تدفع ثمنها إلى اليوم بعد مضي أربعين سنة عن وقوعها. كانت الجزائر، حينئذ، تحظى باحترام كبير جدا في العالم بأسره وقد أحدثت الإطاحة ببن بلة صدمة قوية لاشك في أنها زعزعت صورة بلادنا في أوساط عديدة، حتى وإن سرعان ما تبين أن الجزائر بقيت واقفة دائما بفضل قيمها الأساسية المستمدة من الثورة وبفضل ذلك الرصيد الضخم من التعاطف المتراكم أثناء حرب التحرير. لذلك، غالبا ما كنت أرد على كل من تودد إلينا قائلا إن الدبلوماسية الجزائرية كانت نشطة وفعالة أن الفضل في ذلك يعود إلى الجزائر أكثر مما يعود إلينا كأشخاص. إن الثورة الجزائرية هي التي حملت الدبلوماسيين الجزائريين لا هؤلاء هم الذين حملوها. ومع ذلك، ينبغي أن نعترف أنه كان لنا، من خلال هؤلاء "الدبلوماسيين المناضلين"، كما تقولون، إطارات من الكفاءة ما سمح لعبد العزيز بوتفليقة، حينما كان وزيرا للشؤون الخارجية مدة تقارب السبعة عشر سنة، بالاعتماد عليهم من أجل إقامة إدارة مستقرة، متضامنة وعلى قدر كبير من الفعالية.
م. ش. مصباح: لنتحدث، في هذا الصدد، عن نشاط الدبلوماسية الجزائرية بعد الاستقلال. لقد كان هذا النشاط كثيفا للغاية، كما استطاع دبلوماسيونا الإسهام في فض عدد لا بأس به من الأزمات الكبرى عبر العالم...
ل. ابراهيمي: بالفعل ! التجربة التي استطعنا أن نراكمها أثناء حرب التحرير نفعتنا كثيرا في ما بعد. هناك اعتراف، مثلا، أن قمة عدم الانحياز المنعقدة بالجزائر سنة 1973، كانت أنجح القمم التي عقدتها الحركة من قبل. كما أن الجزائر – وباعتراف الجميع أيضا – كانت مصدر المبادرة بانعقاد جمعية عامة للأمم المتحدة انعقدت خصيصا للتعرض لمشكلات العالم الثالث وتطلعاته بصورة لم يسبق لها مثيل. كما أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بوصفه رئيسا للجمعية العامة آنذاك، هو الذي حمل منظمة الأمم المتحدة على اتخاذ قرارين تاريخيين : تعليق عضوية النظام العنصري في جنوب إفريقيا وحرمانه من حضور جلسات الجمعية العامة إلى أن يلغي حكم الأبارتايد ؛ استقبال ياسر عرفات بكل التكريم اللائق برئيس دولة. أثناء تلك المهمة التي قادتني إلى جنوب إفريقيا لفائدة منظمة الأمم المتحدة ما بين 1993 و 1994، اندهشت وأنا أستمع إلى بيك بوتا، وزير خارجية لنظام كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهو يسألني عن أخبار الرئيس بوتفليقة. كنت أعلم أن وزيرنا للخارجية لم يسبق له أن التقى مسؤولا من النظام الحاكم في بريتوريا، إلا أن بيك بوتا لم يلبث أن شرح لي الموقف قائلا : "لا أنسى أنه هو الذي أبعدنا عن الجمعية العامة أثناء كل هذه السنين !".
كما قامت الجزائر بدور أساسي في المعركة من أجل دخول الصين الشعبية منظمة الأمم المتحدة. في العالم العربي، كانت الجزائر معترفا بها كبلد ملتزم لكنه حريص على الحياد بخصوص تلك المناوشات العقيمة التي كانت تنشأ ما بين البلدان العربية. الفلسطينيون قدروا بصفة خاصة، ولايزالون، ذلك التأييد الأخوي والنزيه الذي ما انفكوا يجدونه لدى الجزائر. من منا لا يتذكر ذلك الدور الذي قامت به الدبلوماسية الجزائرية في تسوية أزمة الرهائن الأمريكيين المحتجزين بسفارة بلدهم بطهران ؟ فتحت إشراف بن يحيى، وزير الخارجية آنذاك، ورضا مالك، سفيرنا بواشنطن، عبد الكريم غريب، سفيرنا بطهران، وصغير مصطفاي، رئيس البنك المركزي، علمت دبلوماسيتنا، ليل نهار، من أجل النجاح في تلك الضربة الدبلوماسية القوية. وحتى وإن لم تأت التسوية، على الرغم من الجهود المبذولة، في وقت مبكر لتمكين الرئيس كارتر من الفوز على منافسه في سياق الرئاسيات، روانلد ريغن، يمكن القول إن نشاط دبلوماسية بلدنا في هذه الواقعة كان له تأثير معتبر في تطور الأوضاع داخل الولايات المتحدة الأمريكية وعلى مستوى العلاقات الدولية بوجه عام. وعندما لقي بن يحيى ومرافقوه حتفهم في ذلك الاعتداء السافر بالقرب من الحدود بين إيران، العراق وتركيا، توجه عدد من الأمريكيين العاديين، وبكل عفوية، إلى سفارة الجزائر ببلدهم لوضع أكاليل من الزهور وشمعات اعترافا بفضل الفقيد وفضل بلدنا في إطلاق سراح مواطنيهم المحتجزين بطهران.
القليل من البلدان أسهم بمثل ما أسهمت به الجزائر في سبيل تحرير القارة الإفريقية برمتها. لقد أشرنا إلى مقولة كابرال الشهيرة. يروى أنه في مؤتمر لحزب الفريليمو FRELIMO الذي قاد حرب الموزمبيق ضد الاستعمار البرتغالي، خاطب الرئيس سامورا ماكل المؤتمرين فائلا :"فليقم منكم كل من استفاد من تكوين بالجزائر" فإذا بثلاثة أرباع الحاضرين يقوم ! غداة سقوط الدكتاتورية في البرتغال، افتتحت بلندن أول مفاوضات مع حزب PAIGC – لكن بعد وفاة كابرال، مع الأسف – بمساعدة سفارتنا هناك، علاوة على أن هذه المفاوضات تُوِّجت بالجزائر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.