فضحه لسياسة الأعراق (الأسطورة القبائلية Mythe Kabyle) لم يكتف الفرنسيون باستعمال المدفع والبندقية فقط من أجل تكريس الاستعمار في الجزائر، بل وظفوا آليات عديدة أخرى، كدراسة المجتمع الجزائري دراسة اجتماعية وثقافية وأنثروبولوجية وإثنية، وكذا استغلال الصراعات القبلية، والضرب على أوتار التركيبة السكانية المشكلة من العنصرين الأمازيغي والعربي. * خصص المؤرخ شارل روبير أجيرون الفصل العاشر من كتابه (الجزائريونالمسلمونوفرنسا 1871 1919م)، لفضح سياسة الاستعمار الهادفة إلى تمزيق وتفتيت الشعب الجزائري، عن طريق تكريس سياسة الأعراق، المبنية على تفضيل العنصر القبائلي/ الأمازيغي، وتسفيه العنصر العربي، مع إذكاء نار العداوة والبغضاء بينهما. والغاية من ذلك هو إضعاف الجزائريين تمهيدا لابتلاع وطنهم، وجعله فرنسيا إلى الأبد. * تناول شارل روبير أجيرون في هذا الفصل بالدراسة والتحليل، أعمال غلاة الاستعمار من ضباط وسياسيين وإداريين، الذين رفعوا لواء (أسطورة الشعب القبائلي) أمثال دوماس Daumas، وساباتيي Sabatier، وطوكفيل Tocqueville، والجنرال ديفيفيي Duvivier، والنقيبين: فابر Faber، وكاريت Carette، والدكتور وارنيي Warnier، والجنرال هانوطو Hanoteau، والكاردينال لافيجري Lavigerie، وپوميل Pomel، ورينو Renoux وغيرهم. * ولخص »سياسة الأعراق« هذه في سعي الفرنسيين، لاستغلال خصوصيات منطقة القبائل (زواوة) ذات الأصل الأمازيغي، لترسيخ تمايزها ولتيسير عملية إدماجها في الحضارة الفرنسية. فزعموا بموجبها أن سكان هذه المنطقة ينتمون إلى الأصل الأوروبي الجرماني (عيون زرقاء وشعر أشقر وبشرة بيضاء)، وأن إسلامهم سطحي لم يقضِ على المسيحية التي ظلت تعتمل في دواخل مجتمعهم، كما أن نظام تسيير قراهم مقتبس من التنظيمات الرومانية. وفسّروا احتفاظ زواوة بحريتهم وبخصوصيتهم الأمازيغية بالعامل الجغرافي المتمثل في طبيعة أرضهم الجبلية الوعرة، التي جعلتها تستعصي على الغزاة. كما زعم الفرنسيون أيضا أن »زواوة« قد انخرطوا في »فرقة الزواف« التي أنشأوها، ورفضوا الانضمام إلى صف الأمير عبد القادر. * ومن الأفكار الخاطئة التي أوردها المؤرخ شارل روبير أجيرن، كعيّنة عن الترويج لما سمّاه ب(أسطورة الشعب القبائلي)، رأي الضابط »أوكابيتان Aucapitaine« الذي يرى أن تديّن القبائل (زواوة) فاتر، وأن طباعهم وأعرافهم جعلتهم يميلون إلى فرنسا، ودستورهم جمهوري وحكمهم ديمقراطي، وقراهم تشبه القرى الفرنسية بسقوفها القرميدية الحمراء، ويحملون وشما في شكل صليب، ويوم راحتهم هو يوم الأحد، ليصل في النهاية إلى استنتاج مفاده، أن هذه المنطقة ستصير فرنسية بعد مائة عام! * أما الدكتور وارنيي Warnier فقد جعل برأي شارل روبير أجيرون قضية القبائل ركنا من أركان الإيديولوجية الاستعمارية، وأنحى باللائمة على الإمبراطور نابليون الثالث الذي كان من باب الأولى أن يدعو إلى احترام الجنس البربري المتحضّر، بدل الدعوة إلى احترام الجنس العربي، لأن البربر برأي الدكتور وارنيي هم السكان الأصليون، وأكثر عددا من العرب، وأقربهم إلى فرنسا، ويمثلون مستقبل البلاد. والغريب في الأمر حسب شارل روبير أجيرون أن هؤلاء الغلاة لم يستخلصوا الدرس من ثورة 1871 التي عمّت منطقة القبائل، ولم يراجعوا موقفهم بعقلانية، رغم وضوح الرسالة المؤكدة لوطنية القبائل، المتمسكين بإسلامهم وبحرية وطنهم. * وساهم أيضا الجنرال هانوطو Hanoteau ومساعده Letourneux في تغذية »أسطورة الشعب القبائلي« بواسطة كتابهما »القبائل وأعرافهم« الذي نشر سنة 1873م، من أجل تكريس القوانين العرفية وتعطيل الشريعة الإسلامية، غصبا عن إرادة السكان. * أما الكاردينال لافيجري فكان يعتبر منطقة القبائل بمثابة »لبنان إفريقيا« الذي تخلت عنه أوروبا، وآمن بروابط الدم والدين التي تربط منطقة القبائل بفرنسا، لذلك أسس فرقة الآباء البيض من أجل نشر المسيحية في أوساط سكانها. لكن سياسته منيت بالفشل الذريع، وتجلى ذلك برأي شارل روبير أجيرون في موقف سكان قرية آث فراح (عرش أث يراثن بولاية تيزي وزو) الذين أعلنوا موقفهم الصارم »نفضل أن نرى أولادنا يموتون، على رؤيتهم وقد تحوّلوا إلى مسيحيين«. * وبالنسبة ل»بوميل Pomel« (عضو مجلس الشيوخ وممثل وهران)، فقد أنحى باللائمة في كتابه على مشروع المملكة العربية لنابليون الثالث، بحجة أنه ضحى بالبربر ذوي الأصول الأوروبية في سبيل العرب الذين كان من الأجدر أن يحشروا في أعماق الصحراء. * واعتبر المؤرخ شارل روبير أجيرون، شخصية »كاميل ساباتيي Camille Sabatier« من جهابذة السياسيين الفرنسيين، الذين دعوا إلى تكريس »السياسة القبائلية«، كوسيلة لإدماج سكان زواوة في الحضارة الفرنسية، فهو القائل: »فالمعلم المجهول، الذي أملى القوانين القبائلية، ليس محمدا ولا موسى ولكنه من عائلة Montesquieu وCondorcet بل إن هذا الإنجاز يتعالى عن دماغ أولئك القبائل الجبليين، لأنه يحمل ختم جنسنا...«. واشتهر أيضا بإشرافه على بناء سلسلة من المدارس الفرنسية، وغلق مؤسسات التعليم العربي (الزوايا)، وبسعيه الحثيث لإذكاء نار الخلاف بين صفوف السكان، بموجب سياسة فرّق تسد. * كما دافع أيضا »ماسكيراي Masqueray«، صاحب الكتاب الشهير (تكوين المدن لدى سكان الجزائر/(La Formation des cites chez les populations D'Algérie عن خصوصية القبائل بقوانينهم العرفية، التي كان يرى فيها سلاحا مهما في يد فرنسا، »إن واجبنا في الجزائر، هو محاربة جميع أشكال التوجه الإسلامي الذي هو عدونا الأزلي... فلنتخذ هذه القوانين القبائلية سنداً قوياً لسياستنا لأنها تختلف مع القانون الإسلامي. إن القانون القبائلي، بين أيدينا، أداة لامتناهية القيمة؛ فكلما بادرنا إلى العمل بها إلا واتسعت الهوة بين العرب وبين المنهزمين أمامهم بالأمس«. * وفي هذا السياق تحمس الأميرال Gueydon لتأسيس ولاية خاصة ببلاد القبائل، يستعمل فيها القانون العرفي القبائلي ل»إطفاء التطرف الإسلامي«، تمهيدا لتطبيق القانون الفرنسي »... فمن القانون القبائلي إلى القانون الفرنسي، فإن الهوة أقل اتّساعا من التي تفصل هذا الأخير من القرآن«. وقام الجنرال »شانزي Chanzy« باستبدال القضاة المسلمين بقضاة فرنسيين لتطبيق السياسة المذكورة. * هذا وقد شملت أيضا »السياسة القبائلية« الهادفة إلى تمزيق وحدة الجزائريين، مجالات الاقتصاد والتعليم والادارة، استفاد بموجبها السكان من تخفيف الضرائب، ومن رخص خاصة لممارسة التجارة المتنقلة خارج منطقة القبائل، ومن حق التمثيل في اللجان المالية، وفي الميدان التعليمي فسح المجال لدراسة اللسان القبائلي، واستحدثت شهادات علمية لتمكين الحاصلين عليها من تلقي حوافز مالية.(6) * * موقفه من قانون الأهالي الجائر Code de l'indigénat (1881) * تحدث شارل روبير أجيرون بالإسهاب في إطار نقده للسياسة الاستعمارية عن قانون الأهالي الجائر، الذي جسد شراسة السياسة الاستعمارية، فمنحت بموجبه »صلاحيات الزجر« للقادة والإداريين الفرنسيين لتسليط أشد العقوبات على الجزائريين دون محاكمة، لتثبيط عزيمة المقاومة لديهم. ومما زاد في حجم التعسف والقمع، أن تطبيق هذا القانون كان يتم بمنأى عن رقابة الدولة. هذا وقد استلهمت فرنسا هذا القانون الجائر من سياستها القمعية التي خصت بها الرقيق الزنوج في جزر الانتيل بأمريكا الوسطى. * أنشأ هذا القانون مجموعة من العقوبات غير ورادة في القانون العام، كالاعتقال الإداري، وغرامات جماعية، ومصادرات الأملاك الفردية والجماعية، وفرض رخص التنقل وغيرها. ورغم كون هذا القانون »أجازة مؤقتة« للإداريين والقادة العسكريين ينتهي مفعوله بمجرد الانتهاء من إخضاع المناطق الثائرة، فقد استمر العمل به إلى سنة 1944م(7). * هذا وقد أشار المؤرخ شارل روبير أجيرن، إلى أن قانون الأهالي هو بمثابة امتداد ل»صلاحيات الردع« التي منحت للعسكريين خارج جهاز القضاء لقمع الجزائريين منذ سنة 1834م. واعترف »رين rhinn« بصفتها غير القانونية حين وصفها بكونها: »مناقضة للمبادئ التي تؤسس تنظيمنا المجتمعي إلى درجة أن ليس ثمة عقد تشريعي يمكن أن يعطي عنها تعريفا محددا أو يكرس العمل بها«. هذا وقد تحولت المكاتب العربية bureau arabe بموجب صلاحيات الردع إلى bourreau arabe أي »مكاتب جلادي العرب«، كما سماها بعض الفرنسيين المعارضين لسياسة القمع والقهر. * ومهما يكن من أمر، فإن أعمال المؤرخ شارل روبير أجيرون الناقدة للسياسة الاستعمارية، أكبر من أن تختزل في مقال واحد، فبالإضافة إلى المحاور المذكورة فقد شملت مجالات أخرى كالتعليم والشعائر الدينية والقضاء والحالة المدنية والاقتصاد، وذكر بالحجة الدامغة جرائم السياسة الاستعمارية التي قوّضت أركان المؤسسات التعليمية الجزائرية، وعطلت الحج، ووضعت المساجد تحت رقابة الفرنسيين رغم قانون العلمانية المنصوص على فصل الدين عن الدولة، واستبدلت القضاء الإسلامي بالقضاء الفرنسي، واشتهر في هذا السياق الحاكم العام الأميرال »يدون« بقوله: »يجب أن يمحى القاضي المسلم أمام القاضي الفرنسي. فنحن الفاتحون، فلنعرف كيف نفرض إرادتنا!«(8). كما فرضت سجل الحالة المدنية على الأسر الجزائرية بغية تشتيتها لتسهيل عملية الاستيلاء على مزيد من أراضيها. * وأملي أن أكون قد فتحت شهية الدارسين والقراء للالتفاتة إلى أعماله الفكرية الكثيرة، الجديرة بالدراسة والمناقشة والتحليل، لما تحمله من بعض الإنصاف لمأساتنا خلال فترة الاحتلال الفرنسي (1830 1962م). * * الهوامش: * 1- شارل روبير أجيرون المؤرخ، الموقع الالكتروني [www.Le monde.fr] * - Histoire de l'Algerie contemporaine. édition:1974. P: 94 * 2 - الموقع الالكتروني نفسه. * 3- hommage à Charle-robert Ageron. www.bouchene.com * 4- الجزائريون المسلمون وفرنسا (1871 1919م ) ترجمة محمد حاج مسعود/ ا. بكلي. * الطبعة الأولى، دار الرائد للكتاب الجزائر 2007م. * 5- المجتمع الجزائري في مخبر الإيديولوجية الكولونيالية، ترجمة وتقديم وتعليق د/ محمد العربي ولد خليفة، ص8، منشورات ثالة الجزائر 2002م. * 6- الجزائريون المسلمون وفرنسا، ص: 493. * 7- المصدر نفسه، ص:311. * 8- تاريخ الجزائر المعاصرة، شارل روبير أجيرون، ترجمة عيسى عصفور، ص: 105، ديوان المطبوعات الجزائرية، الطبعة الثانية 1982.