سيناريو ما يُسمّى بحركة "التصحيحيين أو التقويميين" أو جناح "حكومة الظل" في الجزائر، يتكرر مع كل حزب يريد أن يكون مستقلا في اتخاذ القرار، أو يخرج عن الصف، أو يعارض أصحاب القرار. * * حرية "الولاء" للنظام * * بالرغم من أن دستور 23 فيفري 1989 وضع حدا لنظام الحزب الواحد في الجزائر، باعتماد المادة 40 التي تُقر »حق إنشاء جمعيات ذات طابع سياسي« فإن أصحاب القرار ما يزالون يمسكون ب »عقلية وسلوك رجال الحزب الواحد«. * إنهم يؤمنون بمقولة جون ستيورات ميل حول الحرية الصادرة عام 1859، ولكنهم يخافون من تطبيقها في الجزائر، لأنها تؤكد بأن »البشر جميعا لو اجتمعوا على رأي واحد، وخالفهم في الرأي فرد واحد، لما كان لهم أن يسكتوه بنفس القدر الذي لا يمكن لهذا الفرد إسكاتهم لو كانت له القوة والسلطة على ذلك«، والفرد الواحد، في نظر أصحاب القرار، هو الرئيس الذي يتم الإجماع حوله، وبالتالي فالتوازن هو بين مجموعة أصحاب القرار وحاشية الرئيس. * ولو تمعّن أصحاب القرار فيما قاله المفكر البريطاني جون استيوارت لاكتشفوا أنه يقصد شيئا آخر وتلخصه معظم كتب الفكر السياسي في أربع نقاط: * * 1 إذا اسكتنا صوتا ما فربما نكون قد أسكتنا الحقيقة نفسها. * 2 حتى الرأي الخاطئ ربما حمل في جوانبه بذور الحقيقة الكاملة. * 3 إن الرأي المجمع عليه لا يمكن قبوله على أسس عقلية إلا إذا دخل واقع التجربة والتمحيص. * 4 إن الرأي المجمع عليه ما لم يواجه تحديا من وقف لآخر فإنه سيفقد أهميته وتأثيره. * * لكن ما ذنب أصحاب القرار إذا كانوا من »أتباع المدرسة الفرنسية«، التي ضغطت على الجناح المقرب لها في حزب الشعب لينفصل عن مصالي الحاج لأنه يمثل الإجماع الوطني لتحرير البلاد قبل اندلاع الثورة؟ وما ذنب حزب الشعب إذا كان فيه جناح بربري تأثر بالإذاعة القبائلية التي أنشأتها فرنسا في الجزائر عام 1948؟ وما ذنب الجناح المسلح لحزب الشعب إذا كان من ترأسه اعترف بخلاياه لدى محافظ الشرطي قبل أن يعذب؟ * صحيح أن تاريخ الجزائر حافل بالأقلام التي ترصد هذا التيار، ومن يقرأ رد »الشهاب« على مقالة فرحات عباس عام 1936 التي عنونها ب »فرنسا هي أنا« سيدرك التحول الكبير الذي حدث في فكر أمثال فرحات عباس، تقول الافتتاحية »قال أحد النواب النابهين إنه فتش عن القومية الجزائرية في بطون التاريخ فلم يجد لها من أثر، وفتش في الحالة الحاضرة فلم يعثر لها على خبر، وأخيرا أشرقت عليه أنوار التجلي، فإذا به يصيح (فرنسا هي أنا)، حقا إن كل شيء يرتقي في هذا العالم، ويتطور حتى التصوف، فبالأمس كان يقول أحد كبار المتصوفين فتشت عليك الله وجدت روحي (أنا الله)، واليوم يقول المتصوف في السياسة: فتشت عليك يا فرنسا وجدت روحي أنا فرنسا، فمن يستطيع بعد اليوم أن ينكر قدرة الجزائري العصري على التطور والاختراع«. * وهذه القدرة هي التي دفعت ب 17 شخصا إلى الاجتماع عام 1963 لإنشاء حزب معارض للنظام القائم، ولم تجد من بين المجتمعين من يرأسها فاختلفت حول ترشيح كريم بلقاسم أو حسين آيت أحمد، واستقر رأيها على هذا الأخير، لأنه لم يشارك في حكومة الثورة ولا حكومة الاستقلال، ورفض التآمر على الحكومة كذلك. * ويقول المقربون من حكومة بن بلة إنه كاد يعترف بهذا الحزب ليكون في حكم مع جبهة التحرير لولا انقلاب 19 جوان الذي احتفلنا به أكثر من 40 سنة ليلغيه أحد المشاركين فيه. نشأت المعارضة في الخارج وتعرض قادة الثورة مثل محمد خيضر وكريم بلقاسم إلى التصفية الجسدية، وفرحات عباس (رئيس أول حكومة) وبن خدة بن يوسف (رئيس ثاني حكومة مؤقتة) إلى الإقامة الجبرية، وفبركت السلطة محاولة انقلاب بعنوان »كاب سيغلي« كان هدفها تفكيك أحزاب المعارضة، وزرع الفتنة بين قياداتها. * وبفضل مولود حمروش أفرج الشاذلي بن جديد على الرئيس الأسبق أحمد بن بلة، فأنشأ في فرنسا الحركة من أجل الديمقراية وشكل تحالفا للمعارضة في قمة لندن عام 1985، وقامت السلطة الجزائرية بتصفية مسيلي العقل المدبر للمصالحة بين »الثوار الأعداء«. وبين عشية وضحاها انشق أربعون (حراميا) على (علي بابا) وعادوا في طائرة خاصة إلى الجزائر، ونزلوا في »فندق زيري« الذي استولى عليه حاليا أحد رجال السلطة، واكتشف الأربعون حراميا أنهم لم يستفيدوا من »سيناريو الانشقاق« عن بن بلة فعادوا إلى فرنسا في صمت. * وكانت أول محاولة من السلطة في تكسير أحزاب المعارضة، لكنها حين سقط جدار برلين صنعت »انتفاضة« في عهد الشاذلي بن جديد سمتها 5 أكتوبر 1988، كانت نتيجتها »ميلاد قيصري« لتعددية صورية وصل فيها عدد الأحزاب إلى أكثر من 60 حزبا. وسمح للمعارضة بالدخول وكان أول حزب يتعرض إلى التكسير بعد دخول أحزاب المعارضة هو حزب جبهة القوى الاشتراكية، لكن اسم آيت أحمد جعل جناح السلطة يموت دون أن تستفيد منه لاحقا. وجاء دور الحزب الأول الذي حصد مقاعد المجالس الشعبية البلدية والولائية والبرلمان، فحاول سيد أحمد غزالي أن يوظف شيوخ »الجهة الغربية« لتفكيك الجهة الإسلامية للإنقاذ، إلا أن قيادة الحزب اختارت »امرأة« لتتحدث باسمها، ونجحت في توصيل الرسالة. * وواجهت السلطة تمرد جبهة التحرير بقيادة عبد الحميد مهري فأطاحت به في انقلاب وصفته ب (العلمي) جرى في »فندق الجزائر« وقامت »بإدخال دستور جديد« قاعدته »الثلث المعطل« إلى اللعبة السياسية عام 1996، حيث سحبت من الأحزاب مضامين برامجها (الإسلام والعروبة والأمازيغية) فاختفت الأحزاب التي رفضت التكيف مع الدستور الجديد، وأعيد تشكيل الخريطة السياسية وفق ثلاثة محاور. * * 1 محور الإسلاميين، وهما حزبان أحدهما مقولته »نحن في الحكومة وليس في الحكم« وحزب آخر يمانع ويرفض الانصياع للأوامر. * تعرض حزب عبد الله جاب الله إلى الانشقاق مرتين، وتدخلت السلطة لدعم جناحها وإبعاد جاب الله من العمل السياسي. * أما حزب أبو جرة سلطاني فقد تحول إلى جناحين يتصارعان بسبب اختلاف »الولاءات«. * 2 محور الوطنيين: وبعد أن تأكد أن جبهة التحرير لم تعد واجهة للحكم، خاصة في عهدي مهري وعلي بن فليس، تم دعم البديل عنها وهو التجمع الوطني الديمقراطي. * 3 تيار اللائكين: وهو المحور الذي لم تستطع السلطة القضاء عليه، بسبب أن وراء قيادته »المنطقة القبائلية«، وهذا التيار لا يشكل تهديدا لها، لأنه مرتبط ب (النظام الاشتراكي) في فرنسا. * لكن الجديد في الساحة الحزبية هو ظهور حزب وطني جديد هو الجبهة الوطنية الجزائرية بقيادة موسى تواتي، وهذا الحزب الذي كان جناح في السلطة يراهن عليه ليكون بديلا للجبهة في تقديم الولاء للسلطة، تبين أنه معارض حقيقي، مما جعل السلطة تحرك "أذنابها" بهدف تكسيره مثلما فعلت مع الشيخ عبد الله جاب الله. * * (الوجه الآخر للسلطة؟) * * لو تسأل أي جناح من حركة ما يسمى ب (التصحيحيين) أو (التقويميين) عن سبب الانشقاق أو الانقلاب يجيبك ب (انحراف الرئيس). * وهو يدرك أنه لا يوجد خلاف داخل الحزب حول الأيديولوجية أو البرنامج وإنما هو حول كيفية »التقرب« من السلطة. * كل الحركات الانشقاقية داخل الأحزاب كانت ب (مهماز) من أصحاب القرار، ولم أقرأ أن الحزب انشق بسبب خلاف في الأفكار أو البرامج. * وهذه الحركات التي تسمي نفسها تصحيحة هي مجرد »أجهزة« داخل الأحزاب هدفها هو تقزيمها. * وتنسى السلطة بأن قوتها تكمن في قوة المعارضة، وما دامت المعارضة قد أزيلت من الأحزاب، و»دجن أصحابها«، فعلى السلطة أن تتوقع هي الأخرى تفككا داخلها، لأن المعارضة هي التي تمتص الغضب الموجود في »كواليس السلطة«.