اجتمعت بموسكو وسط هذا الأسبوع -كما كان منتظرا- 12 دولة مصدرة للغاز، منها الجزائر، من أجل حصر العقبات التي تعترض إطلاق منظمة جديدة للدول الكبيرة في مجال تصدير الذهب الأبيض. وكانت أنباء سابقة أشارت الى حرص الجزائر على أن يصل هذا المشروع الى منتهاه بينما لا زالت روسيا تعتمد الطاقة كورقة سياسية للضغط على منافسيها الكبار في أوربا وأمريكا . * ومن جهة ثانية دفعت فكرة إطلاق منظمة أخرى للدول المصدرة للغاز البلدان المستهلكة الى إبداء تحفظها بالشكل الذي يوحي بأن تحالفا إستراتيجيا حول الطاقة آخذ في التشكل بين الدول الأوربية يذكرنا بحلف الناتو حول الأمن والسلاح . فهل تتحول المواقف الى حرب طاقوية جديدة بين الشرق والغرب؟ وهل ينجح "منتدى الدول المصدرة للغاز" في الارتقاء سريعا الى منظمة حقيقية تحمي مصالح الدول المنتجة من صدمة النفط الحالية؟ * * المستقبل القريب للغاز المسال * لا يزيد متوسط العمر الافتراضي للنفط اذا استمرت الاستكشافات على ما هي عليه الآن عن نصف القرن من الزمن، ولا يزيد هذا المتوسط في بعض الدول المنتجة عن الثلاثين عاما. بينما يصل الاحتياطي الحالي للغاز الى 180 ألف مليار مكعب، ما يعني عمرا إفتراضيا يصل في المتوسط الى 65 عاما. وفي جانب الطلب ستصل حصة الغاز من استهلاك الطاقة في العالم العام 2030 الى 27٪ إنتقالا من المستوى الحالي الذي لا يزيد عن 20٪. وتذهب التقديرات الى أن الزيادة العالمية في الطلب على الغاز تبلغ 2.5٪ سنويا في حين لا تنتج اليابان -مثلا- أكثر من 4٪ مما تحتاج اليه من الغاز، أما ألمانيا فتستورد 80٪ من احتياجاتها من الذهب الأبيض. ولا زالت منطقة اليورو ترسم مشهدا متشائما عن مركزها تجاه حاجاتها من الغاز على آفاق العام 2030 بسبب التحول الديمغرافي الذي يزيد من شريحة المسنين المحتاجين أكثر لوقود التدفئة. كما يضغط أنصار حماية البيئة على واضعي السياسات في الدول الصناعية من أجل التحول سريعا من طاقة النفط الى طاقة الغاز الأقل تلويثا للجو. وهكذا تجمع معطيات المستقبل على أن الدور حاليا صار لصالح الغاز، مما يفسر لنا الاتجاه السائد بين الدول المنتجة لإطلاق منظمة جديدة للغاز. * * على خطى البترول * تشكل العلاقة بين الذهبين الأسود والأبيض علاقة وظيفية من حيث الأسعار بشكل خاص. وفي الوقت الذي شهدت فيه أسعار النفط ارتفاعات قياسية لم تستفد الدول المصدرة من ذلك بسبب طبيعة العقود التي يصل بعضها الى 25 سنة وبسبب ارتباط أسعار الغاز بأسعار النفط، ويكون الضرر بالغا بالدول المنتجة كلما تمددت الأزمة الرأسمالية الحالية زمنيا حيث ستنتقل الخسائر من مجال النفط الى مجال الغاز. والذين يتابعون الشأن الطاقوي في العالم يعرفون بأن تأسيس منظمة "أوبك" للنفط جاء على خلفية ضمان حقوق المنتجين في أسعار عادلة، ونفس الشيء نعيشه اليوم على خلفية دعم المركز الاقتصادي للدول المصدرة للغاز، ولكن في ظل إشراف مادة النفط على النضوب هذه المرة. * وتنضوي الدول المصدرة للغاز -حاليا- تحت تنظيم هو "منتدى الدول المصدرة للغاز" الذي تأسس العام 2001 بعضوية 15 دولة. ويتربع المنتدى على احتياطي من الذهب الأبيض نسبته 73٪ من الاحتياطي العالمي، ويساهم في الإنتاج بنسبة 41٪ وهي نفسها نسبة إنتاج "أوبك" من النفط. وتشكل كل من روسيا وإيران وقطر أهم الدول من حيث الاحتياطي من الغاز بنسبة قدرها 56٪ وهي بذلك تشكل القاطرة الافتراضية لكل مبادرة ناجحة في دعم مركز الغاز على الصعيد العالمي. أما الجزائر فتحتل المرتبة الثامنة من حيث احتياطي الغاز بنسبة 2.4٪ وهي بذلك تبتعد عن روسيا كثيرا (روسيا تأتي في المرتبة الأولى بنسبة 27٪) ولكنها ممون رئيسي للاتحاد الأوروبي حيث تتقاسم الدولتان -روسياوالجزائر- 40٪ من السوق الأوروبية. وعليه فإن مسعى إطلاق منظمة جديدة للدول المصدرة للغاز يتوقف على السياسات الاستراتيجية لهذه الدول وعلى مصالحها الوطنية التي غالبا ما تمتزج فيها السياسة بالاقتصاد. * * الثروة الناضبة والمصير المرهون * تشير التوقعات الى أن المخاوف بشأن نضوب النفط ستتحول الى مجال الغاز إذا علمنا بأن متوسط الزيادة في الإنتاج تزيد عن متوسط زيادة الاستهلاك بنقطة مئوية كاملة. ففي الوقت الذي يزيد استهلاك العالم من الغاز بنسبة 2.5٪ سنويا يزيد الإنتاج بنسبة 3.5٪ والأخطر من ذلك وتيرة الزيادة في إنتاج منطقة الشرق الأوسط (7.5٪) سنويا. وتيرة في الإنتاج تحمل مخاطر العودة مرة ثانية لمربع النفط والمصير المرهون لدول بأكملها ترى في الثروة الناضبة ثروة حقيقية، وما يزيد من دقة الوضع على خارطة الدول العربية هو نسبة احتياطيها من الغاز الى احتياطيها من النفط، نسبة لا تتعدى 50٪ مما يجعلها في وضع أسوأ من حيث مردودية الاحتياطي ونجاعة الاستثمار. * ومع ذلك يشكل الغاز ورقة أخرى بين يدي الدول المنتجة ليس لتجنب حرب طاقوية محتملة بل ولتثمين ما تبقى لها من قدرات اقتصادية ليس على مسار تجميع الريع كما حدث في مجال النفط ولكن على أساس المحافظة على ثروة -هي الأخرى معرضة للنضوب- لأطول مدة ممكنة يتحقق خلالها التحول من إنتاج الريع الى إنتاج الثروة ومن تصدير الخام الى تصدير المنتوج.