لن تكون الحرب الإسرائيلية على غزة إلا كارثية على جميع المستويات، السياسية والأمنية، وعلى استقرار المنطقة ككل. فاستعمال إسرائيل الجهنمي للقوة العسكرية ضد المدنيين في غزة سينتج مزيدا من العنف، مما يعني انهيار أحلام القوى التي كانت ترى في المفاوضات خيارا مطمئنا لسلام دائم مع إسرائيل، بحيث تغلبت الكفة لصالح القوى «المتشددة» التي تؤمن بخيار المقاومة أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية. * * لو نظرنا إلى الأزمة من الزاوية الأمريكية والإسرائيلية فإننا نكتشف تناقضا مريبا يفيد أنه لا سياسة لهذين الحليفين نحو المنطقة في الظرف الراهن سوى التطبيق الحرفي لنظرية »الفوضى الخلاقة«. أي خلق فوضى، بالاستعمال الجنوني للآلة العسكرية، التي تقود إلى تغيير الوقائع على الأرض وتحقيق مكاسب للجانب الإسرائيلي. فمن جهة تتحدث عن السلام وعلى ضرورة تقوية حلفائها من معتدلي المنطقة (السلطة الفلسطينية، مصر، الأردن، السعودية)، لكن ما تفعله في الميدان سيؤدي بالضرورة إلى تعرية »المعتدلين« وإسقاط أية مصداقية يمكن أن تسمح لهم بتعزيز موقعهم على حساب المتشددين أو »الإرهابيين« حسب النعت الإسرائيلو أمريكي. * هل تريد إسرائيل وأمريكا إنتاج المزيد من الإرهاب في الشرق الأوسط حتى تجد مبررات لما تريد ترتيبه هناك؟ لا يمكنني الجزم مطلقا بأنها تريد ذلك، لكن السياسة المتبعة في الظرف الراهن، أي الهولوكوست الإسرائيلي في غزة والدعم الأمريكي المطلق له من دون شفقة حتى على المئات من المدنيين، لن يؤدي إلا إلى تقوية خيار المقاومة أو المواجهة العنيفة في المنطقة بدل الاستمرار في مسار السلام الذي طال لسنوات ثم أنتج مجددا حربا إسرائيلية لا تبقي ولا تذر. * من دون شك، ستنتج الحرب على غزة المزيد من العنف وسترفع أرقام أولئك الذين يتطوعون لرمي الصواريخ أو أية قذيفة أخرى نحو إسرائيل، وستقوي أكثر التنظيمات الجهادية في الشرق الأوسط. من جانب آخر، سيتعزز الشعور العدائي تجاه الولاياتالمتحدة في المنطقة، فلقد اعترف الأمريكيون بأن سياسات بوش ضربت »مصداقيتهم وقيمهم« في الصميم، وسيجدون صعوبة كبيرة في رد الاعتبار لها كما يقولون. * هذا السيناريو سيترتب عنه جو من الخوف وانعدام الثقة بين أطراف الصراع، وسيكون مادة مناسبة لإسرائيل والولاياتالمتحدة لتطيلان الحرب على ما تسميانه »إرهابا«، وهو ما يعني نسف ما بني لحد الآن من آمال على مفاوضات السلام. السلطة الفلسطينية في وضع أضعف بكثير مما كانت عليه من قبل، فأي وزن بقى لها وهي التي بقيت كالمتفرج على ما يجري في غزة، وبالتالي كيف لها أن تواصل المفاوضات حول مصير شعب لا يثق فيها وغير قادرة على حمايته؟. من جهة ثانية تدخل مصر متاعب جديدة مع ضغط الشارع سيما الإسلاميين الذين لا يتهمون نظام مبارك فقط بالتقاعس على فعل شيء لمنكوبي غزة ولكن ينافسونه على الحكم. نفس الشيء بالنسبة للأردن. * وهكذا فإن مجموعة »الاعتدال« سقطت في ورطة، فالإدارة الأمريكية وإسرائيل تثني على مواقفهم وتقول إنهم جميعا في صف واحد لكنها لا تصغي لأحد، وهي بالتالي تجلب لهم مخاطر على مستوى الجبهة الداخلية حيث يتعزز نفوذ المعارضة سيما الإسلاميين، ويبقى المعتدلون غير قادرين على التعبئة في الداخل وفي الشارع العربي ومحصورين بوعود إسرائيلية أمريكية زائفة عن بريق سلام في الأحلام، في ذات الوقت الذي يرون أمامهم ما تفعله الصواريخ والدبابات والطائرات بالمدنيين في فلسطين، ولا يستطيعون صنعا. * إذا نجحت إسرائيل في إضعاف حركة حماس، كما تدعي، أو ثني رغبة النشطاء الفلسطينيين على قصف مناطقها الجنوبية بالصواريخ، أو حتى إضعاف كل الفلسطينيين للحصول على تنازلات جديدة، فإن ذلك لا يعني أنها كسبت المعركة، لأن إضعاف حماس اليوم يعني زرع حماس جديدة ليوم الغد أو مشاتل لحماس في الشرق الأوسط، لأن إسرائيل، ببساطة، لم تترك أمام الفلسطينيين من خيار يعبرون به عن حياتهم سوى »المقاومة« أو الموت، بهذه الكيفية ربما سينتبه العالم لوجود شعب يدعى الشعب الفلسطيني مستعمر منذ 1948 ويعيش في سجن كبير في غزة وفي الضفة ومحروم من جميع حقوق الإنسان الأساسية: الحق في الحياة والأكل والنوم والتداوي والسفر ورؤية البحر... * من جانب آخر، ينبغي أن نشير إلى أن انهيار النظام العربي ليس وليد اليوم، لكن الهولوكوست الإسرئيلي في غزة بين فظاعة الشلل الذي أصاب الأنظمة الحاكمة في الوطن العربي؛ فهي لم تعد قادرة حتى على الاجتماع في قمة عربية، ولو أن القمم العربية لا طائل منها، ناهيك عن فرض عبارات ملائمة على قرار غير ذي معنى في مجلس الأمن، بحيث تصل على الأقل إلى تسمية الأشياء بمسمياتها كون ما يحدث في غزة ليس حربا بين دولتين وإنما حرب من الدولة الأقوى عسكريا في الشرق الأوسط ضد شعب تحتله وتحاصره وتقصف، ببرودة على مرأى ومسمع من العالم أجمع، نساءه وأطفاله وشيوخه. * لكن الحقيقة المرة في الشرق الأوسط هي أننا أسرى أنظمة تسلطية فاسدة لا تنتج إلا مزيدا من العجز والفشل. أنظمة تفتقد للشرعية ولا تعبر عن مصالح وإرادة شعوبها، كما قادها تسييرها الكارثي إلى حالة العجز عن تأمين دفاعها الوطني وأمنها القومي في وجه دولة لا تعتد إلا بالقوة العسكرية ومدعومة من القوة الأولى في العالم. * فالبيانات، والمسيرات، والخطابات، والهرولة إلى مجلس الأمن أصبحت تثير الضحك لدى الطرف الآخر (إسرائيل)، لأنه بات يدرك أن الخصم ليس له وسائل الدفاع التي تجعله يحافظ على حقوقه من الضياع. وما يثير الخوف اليوم هو أن الأنظمة العربية ليست في مستوى إنتاج الوسائل المكافئة لقوة وعزم الخصم، وهي لا تريد أن تترك المجتمع يفرز الخيارات البديلة التي تناسبه، مما يعني استمرار حلقة من الصراع الداخلي بشكل عنيف وهادئ في ذات الوقت يستغلها العدو لمزيد من العدوان تحت مسميات مختلفة. لكن قد نختصر المسافة لو حدثت صحوة ضمير لأولياء أمورنا بعدما شاهدوا الذي حل بغزة. * *