في مقال سابق تكلمنا عن جريمة إغتيال الحقيقة في محرقة غزة وكيف استعمل الكيان الصهيوني كل الطرق والوسائل لإخفاء المجازر والجرائم عن طريق منع الصحافيين من دخول المناطق المختلفة في قطاع غزة (عبسان، جبليا، بيت حنون، خان يونس، رفح، القرارة، بيت لاهيا...الخ). الهدف هو منع وسائل الإعلام العالمية من كشف المحرقة التي كانت تُرتكب في حق المدنيين العزل والنساء والأطفال والعجزة وكذلك الهجمات العديدة التي كانت تستهدف البنية التحتية لقطاع غزة من مدارس ومستشفيات وجامعات وغيرها من المرافق العامة. * الجريمة الأخرى التي كانت تُرتكب في حق الحقيقة في محرقة غزة هي التضليل والتعتيم والتلاعب بالخبر والمعلومة بهدف الانحياز لطرف على طرف آخر والإعتماد فقط على وجهة نظر واحد هي ما يصرح ويدلي به العدو المغتصب الغاشم وإخفاء كل الحقائق والآراء والأطروحات والأفكار التي تكشف جرائم الكيان الصهيوني. * فإذا أخذنا الإعلام الفرنسي كمثال نلاحظ إنحياز هذا الأخير لأطروحات الكيان الصهيوني ووجهة نظره، حيث التركيز على أن سبب المحرقة هو حركة حماس وأن إسرائيل لا تقوم إلا بالدفاع عن مواطنيها وممتلكاتهم. فالقنوات التلفزيونية الفرنسية ركزت على سقوط قذائف "القسام" على المستوطنات وكانت شحيحة جدا في تقديم صور الضحايا الفلسطينين وتدمير المرافق العامة كالمدارس والمستشفيات؛ فمعظم التقارير كانت تختتم بتصريحات المسؤولين الكبار والناطقين الرسميين في الجيش الإسرائيلي دون تقديم تصريحات للمسؤولين والسياسيين الفلسطينيين وضحايا المعاناة اليومية للمدنيين العزل من حصار وقصف وتدمير لبيوتهم وممتلكاتهم. * أما اللغة التي كان يستعملها الإعلام الفرنسي فكانت خالية تماما من كلمات "مجزرة" أو"مذبحة" وبدلا منها أستعمل الإعلام الفرنسي مرادفات ك "خطأ" و"غلطة" للإشارة إلى القنابل الفوسفورية والممنوعة من قبل المعاهدات والقانون الدولي والتي كانت تستهدف الأبرياء والعزل والمستشفيات والمدارس. * أما بالنسبة لجريمة تدمير المدارس التابعة لمنظمة الأممالمتحدة فنلاحظ أن الإعلام الفرنسي قد تبنى أطروحة أن هذه المدارس كانت تؤوي عناصر من حماس وتستدل على ذلك بتصريح للناطق الرسمي للجيش الإسرائيلي دون أن يكلف نفسه عناء طرح وجهات النظر الأخرى وخاصة مناضلي حماس. * هكذا نلاحظ التعتيم والتضليل والتلاعب في معظم القنوات التلفزيونية الفرنسية دون الإلتزام بقواعد الموضوعية والنزاهة والإلتزام بتقديم الحقيقة. فالتقارير كانت خالية من خلفية الأزمة والحصار الذي فرض على حماس وغزة لأكثر من سنة وكذلك المجهودات الكثفة للقوى العظمى لعدم الاعتراف بحماس والتعامل معها. * الصحافة المطبوعة من جرائد ومجلات، لم تكن أحسن حالا من الإعلام المرئي حيث نلاحظ ومنذ البداية انحيازا كبيرا للجانب الإسرائيلي حيث راح الصحافيون يتناقلون و يتداولون بعض المعلومات الخاطئة التي نشرها الإسرائيليون وكأنها مسلمات. ومن بين هذه المعلومات "أن العدوان على غزة جاء نتيجة خرق حماس للهدنة" و"دفاعا عن النفس". فالجرائد الفرنسية تربط كلمة حماس بمفردات كالحركة الإسلامية الإرهابية والمتشددة، والأصولية، والجهادية، والمتطرفة، وحليفة سوريا، وحزب الله وإيران. كما ينعتون مناضلي حركة حماس وأتباعها والمتعاطفين معها بالإرهابيين والقتلة والمجرمين وسفاكي الدماء. وهنا نلاحظ تواطؤ معظم وسائل الإعلام الفرنسية مع محرقة غزة ومنفذيها دون محاولة الكشف عن حقيقة الحصار الرهيب الذي فرضته إسرائيل على الصحافيين للعمل بحرية و التنقل في المناطق المختلفة التي استهدفتها إسرائيل. فالكيان الصهيوني، إلى جانب الترسانة العسكرية التي كان يستعملها، كان يستعمل آلة إعلامية رهيبة ووكالات علاقات عامة فاعلة توفر كل ما تريد إسرائيل أن تتداوله وسائل الإعلام العالمية. فكانت توفر الخبراء العسكريين والمحللين السياسيين الذين يقدمون ويدافعون عن وجهة نظر الكيان الصهيوني بأسلوبهم الخاص وبأدلتهم ومنطقهم وإحصائياتهم. * في المقابل، كان الصحافيون لا يجدون شخصا واحدا من الطرف الآخر من حماس أو من باقي فصائل المقاومة الفلسطينية لتقديم وجهة نظر الضحية والمعتدى عليه. فالكيان الصهيوني كان يوفر خدمات ملحقين إعلاميين يتحدثون اللغات العالمية، كما كان ينظم رحلات إلى المستوطنات المستهدفة ويوفر ضباطا رسميين يدلون بتصريحات وأحاديث للصحافيين بانتظام وبمعلومات دقيقة ومدعمة بالخرائط والصور. فالرقابة الإسرائيلية فرضت نفسها على الإعلام الدولي وعلى الصحافيين الذين ذهبوا للمنطقة لنقل الأحداث، لكن مع الأسف الشديد، ما نقلوه كان مجرد دعاية وبروباغندا الكيان الصهيوني الذي مرر وقدم للعالم ما كان يريده وأخفى ما كان يريد غخفاؤه. * الكيان الصهيوني خطط للمحرفة منذ شهور ليس عسكريا فقط بل إعلاميا. وفي كل هذا نلاحظ أن الإعلام الغربي الذي يتغنى بحرية التعبير وحرية الصحافة وبالنزاهة والإلتزام والموضوعية خضع لآليات صناعة الواقع وفبركته وفشل في تقديم الوقائع والأحداث بحيثياتها وخلفياتها. * وهكذا، لم تحقق معظم وسائل الإعلام الغربية في موضوع القنابل التي استعملها الكيان الصهيوني وهي ممنوعة دوليا، كما أنه لم يحقق في المدارس والجامعات والمستشفيات التي دمرتها قنابل إسرائيل. كما أنها لم يستعرض الممنوعات والمحضورات والرقابة التي فرضها الكيان الصهيوني على وسائل الإعلام العالمية وعلى مئات المراسلين الدوليين الذين بقوا محبوسين في معبر "أريتز" يشاهدون الدخان المتصاعد من غزة وينتظرون تصريحات وبيانات العسكريين الإسرائيليين. فالإعلام الغربي لم يجرؤ حتى على فضح وكشف الرقابة والتعتيم الذي فرضه الكيان الصهيوني عليه ولم تكن لديه الشجاعة الكافية للتنديد بالتصرفات المنافية لأبجديات العمل الإعلامي الحر والنزيه والموضوعي والملتزم التي كان يمارسها عليه الكيان الصهيوني. * الإعلام الغربي لم يجرؤ حتى على الكلام عن الأربع صحافيين الذين راحوا ضحية محرقة غزة، أربعة من زملاء المهنة قتلتهم القنابل الإسرائيلية ولم تتحرك الأقلام الحرة التي طالما كانت تتكلم عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة والحق في المعرفة والوصول إلى الحقيقة ...إلخ. الإعلام الغربي لم تكن لديه الشجاعة الكافية لتقديم سكان غزة للرأي العام الدولي على أنهم من اللاجئين الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم بالقوة والترهيب في نكبة 1948 ومصادرة أراضيهم وممتلكاتهم، هذا هو التضليل والتعتيم والتلاعب من أجل فبركة الواقع وتشكيل رأي عام مزيف يعرض القشور ويتجاهل تفاصيل وخلفية وسياق الوقائع والأحداث. الإعلام الغربي لم يتحدث عن حصار غزة الذي دام 18 شهرا وعن غلق المعابر وإيقاف الإمداد بالكهرباء والغاز والمياه ومصادرة مخصصات الموظفين والعائدات الجبائية التي هي من حق سكان غزة. * وإضافة إلى كل هذا، تجدر الإشارة إلى نوع آخر من الإرهاب الفكري والتضليل والتشويه المنهجي الذي تفرضه مجموعة من الفلاسفة والمفكرين وقادة الرأي؛ فإذا أخذنا فرنسا كمثال، نجد كوكبة من الفلاسفة والمفكرين تنّظر وتبرر وتدافع عن مجازر وجرائم الصهيونية واستيطانها، كأنطوان صفير وأنطوان بسبوس وبرنارد هنري ليفي وأندري قلوكسمان وآلان فينكلكروت وألكساندر دال فاللي وغيرهم كثيرون، إضافة إلى سياسيين وضباط عسكريين تربطهم علاقات حميمية بالكيان الصهيوني وعداوة كبيرة لكل ما هو عربي ومسلم. * النتيجة في الأخير، هي أن الإعلام الدولي أصبح طرفا في المجازر وفي عمليات انتهاك حقوق الإنسان، بل أكثر من ذلك أصبح يّنظر ويتلاعب ويفبرك واقعا مخالفا تماما لما يجري في الميدان ومبررا لجرائم ضد الإنسانية.