من يتأمل النخب الوطنية التي قادت حركات التحرر في الوطن العربي والعالم الثالث، أو الحركات التصحيحية أو الإطاحة بالأنظمة الملكية، يجب نفسه أمام سؤال كبير: ماذا أنجزت هذه القيادات الثورية والوطنية غير استرجاع السيادة أو بناء نظام آخر، وتولي قيادة البلاد بمنطق »المزايدة« في الوطنية أو تصفية الحسابات أو الإقصاء والتهميش وتزوير التاريخ؟ حرروا البلاد و»استعبدوا« جيل الاستقلال؟ إذا كان هناك إجماع على أن الثورة هي الجهاد الأصغر والبناء هو الجهاد الأكبر، فماذا نسمي تمسك النخب الوطنية ب »شرعية« الاستمرار في السلطة، بأي ثمن، على حساب جيل جديد يكاد يشك في أن يكون حكامه هم من حرروه من نيل الاستعمار؟وماذا لو يعود الشهداء، على حد تعبير الروائي الطاهر وطار، ليروا مأساة رفقائهم في السلاح وهم يديرون ظهورهم للقيم التي دافعوا عنها واستشهدوا من أجلها، ويزرعون اليأس وفقدان الأمل في الأجيال الصاعدة، ويدفعون بها إلى الانتحار، وتفضيل الموت في البحار على الحياة في ظل حكمهم؟ مالا يقال في أوطاننا العربية وأقطار العالم الثالث أن الجيل الذي استلم السلطة منذ أكثر من نصف قرن لغاية اليوم تسبب في كوارث مخيفة للأجيال القادمة، فقد رهن خيرات البلاد ل »المفسدين في الأرض«، وحوّل السلطة إلى أداة قمع للآخر، ووضع البلاد أمام مصير مجهول. وبمجرد أن تسلم جيل الثورة الحكم بعد استرجاع السيادة دخل في إذكاء الصراعات والخلافات عبر الإقصاء والتهميش والتصفية أو تزوير التاريخ والاستيلاء على »الزعامة«. وتوظيف »الطابور الخامس« أو من كانوا مندسّين بين الثورة إلى »قيادات نموذجية« للبلاد. وحتى لا أُتّهم بالتطاول على رجال ما يزالون أحياء، أتساءل: هل الصراعات والخلافات التي كانت بين أعضاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية أو الضباط الأحرار في مصر أو ثورة الفاتح في ليبيا أو أصحاب عائلة الحسن الثاني في المغرب أو بورقيبة في تونس، أو الأسد في سوريا أو صدام حسين في العراق تلاشت بعد وصولهم إلى الحكم أم تعمقت؟الاعتقاد السائد عندي أن أزمة 1962 في الجزائر ما تزال تلاحق نظام الحكم في الجزائر لغاية اليوم، فمنطق الخوق من رفقاء السلاح أو التصحيح أو الانقلاب ما يزال ينخر في جسم أنظمة الحكم في الجزائر ومصر وليبيا وغيرها، ومثلما استخدمت فترة السادات »الإخوان المسلمين« لضرب المد الناصري بين الجماهير الشعبية في مصر، وقامت مجموعة نظام الشاذلي بن جديد باستخدام التيار الإسلامي لضرب المد البومديني في الشارع الجزائري. ومنطق قطع الصلة بما يسمى »رجال المرحلة السابقة« ساد في العراق وسوريا والأردن والمغرب وليبيا وتونس، بل يكاد يكون الظاهرة المشتركة بين قيادات حركات التحرير التي تسلمت السلطة بعد نيل الاستقلال أو استرجاع السيادة. ويُخيّل لي أن أحد أسباب الانتكاسات التي لحقت بالشعوب العربية خلال نصف القرن الماضي، هي سلوك النخب الوطنية بعد وصولها إلى الحكم، فقد وظّفت شرعيتها الثورية أو التاريخية أو النضالية لتضع حدا لمفهوم سيادة القانون والتداول على السلطة، وفتح المجال للجيل الصاعد. صحيح أن لهذه النخب الفضل الكبير في بناء الدولة الوطنية ولكنها لم تستطع أن تؤدي دورا رياديا في تجديد »جهادها الأكبر«، وتسليم المشعل لأهله، بل تحوّلت إلى أنظمة أحادية، يكفي أن الشعارات المناهضة لهذه النخب تفاوتت في الصيغ التعبيرية، ولكنها حملت معنى واحدا وهو »كفاية« أو »بركات«، وهي الشعارات التي سادت وتسود اليوم في الجزائر ومصر وليبيا، وغيرها من الأقطار العربية والإسلامية وأقطار العالم الثالث. تجديد »الاستعمار« أم تضييع البلاد؟ لقد وضعت النخب الوطنية التي قادت بلداننا وما تزال تقودها »الاستقلال الوطني« أمام مفترق الطرق، فإما أن يقتنع الجيل الصاعد بالماضي الاستعماري أو »البائد« ويتمسك بالحركة الوطنية ورموزها من الشهداء أو يطعن في وجودها باعتبار أن من يقودون »الاستمرارية« يمثلون مرحلة »استعمار جديد« قد تؤدي بالبلاد إلى التفكك، والعباد إلى الضياع، فالواقع القائم حاليا لا يختلف عن الواقع الذي كان قائما قبل التغيير سوى في تبديل الشعارات والإعلام والأناشيد، وكأن النخب التي أفرزتها الحركات التحررية الوطنية لم تحرر بلدانها من أجل الالتحاق بركب الحضارة والتقدم والتكنولوجيا وإنما »للاستفادة الشخصية« بالبقاء في الحكم، واعتماد »الزعامة« والانفراد بالحكم، وتحويل المجتمع إلى قطعان من الأغنام ترعى في جبال ووديان دون حاكم أو محكوم، وصار النهب والاستيلاء على الأملاك العمومية »وظيفة جديدة« لمن يلتحق بالحكم، بدأت »اللعبة« »بالدينار الرمزي« أو »الدرهم« لتصبح بالملايير. ومن يتوقف عند نظام الحكم في المغرب العربي، في أربع دول مختلفة الأنظمة وهي الجزائر، المغرب تونس وليبيا، يجد أنها تعاني الوضع نفسه وهو أن الجيل الصاعد في هذه الأقطار العربية يختار الموت على البقاء في الوطن. لقد تشكلت في السلطة ثقافة جديدة، في أنظمة الحكم، صار فيها الوزير متعدد الخدمات، والموظف السامي مجرد أداة لنظام الحكم لا هم له سواء تقلّد المناصب، وإذا لم تصدقوا اسألوا من كان مدير جامعة الجزائر ثم تحول إلى سفير فوزير، ماذا استفادت منه الجزائر؟وإذا لم تصدقوا: اسألوا الشاذلي بن جديد، وهو حي يرزق كيف أطاح بمن جاء به إلى الحكم، وهو قاصدي مرباح ليحوّله من »أصحاب القرار« إلى مجرد رئيس حزب من الدرجة العاشرة. إن من يتقلد أكثر من منصب في أية سلطة، هو رجل محتال، ومن يصبح سفيرا في أكثر من قطر وهو لا يعرف حتى لغة وطنه، هو نموذج ل »الجهل المركب«. ومن يتمسك بلغة المستعمر حتى في »بلاد الهند والسند« فهو رجل فاقد الهوية الوطنية. لقد أدى »التعدد« و»التمدد« في المناصب إلى ظهور ثقافة »الفراغ«، فأصبح رجل السلطة مجرد »طبل« لا يحدث إلا الأصوات. أعتقد أن مهنة وزير الداخلية أو مدير الأمن هو اتخاذ القرارات لا إصدار التصريحات. وأعتقد أن مهمة رئيس الدولة معاقبة الوزراء لتأنيبهم أو تأديبهم عبر التلفزيون. ولو كانت هناك ثقافة احترام القانون لما تجرّأ شخص واحد في السلطة إلى دعوة الرئيس بوتفليقة إلى عهدة ثالثة أو تزكيته والمادة 74 من الدستور لا تسمح بذلك. أمريكا عرفت »العهدة الثالثة« في عهد روزفلت ولكنها كانت في حالة حرب، فهل الجزائر في حاجة إلى عهدة ثالثة لأي رئيس كان؟ أعتقد أن الخوف ليس من تجديد العهدة للرئيس بوتفليقة، لأنه لا يوجد من يورّثه الحكم، وإنما الخوف هو في أن نفتح المجال، لمن يأتي بعده، حيث سيعيد البلاد إلى القرون الوسطى. ماذا قدمت النخب الوطنية لشعوبها؟ المؤكد أنها حافظت على القيم التي تبنّتها قبل الوصول إلى السلطة، والأكثر تأكيدا أنها لبست »عباءة« من سبقوها، ولكنها لم تحافظ على تماسكها في نظام الحكم، فتنافست على »الزعامة« وليس على بناء الوطن، ولعل هذا ما دفعها إلى الإقصاء والتهميش للكفاءات الشبانية، وأزعم أن الخمسين سنة الماضية من تاريخ شعوبنا علمتنا درسا لن ننساه، وهو أن النخبة الوطنية تحتاج إلى تطوير وإعادة النظر في مفاهيمها للحكم، وأساليب تسييرها. وآن لها أن تتخلى عن السلطة حتى لا تتحول إلى استعمار جديد. وللحديث بقية