تتّسم مناقشاتنا وأحاديثنا ومواقفنا هذه الأيام، على طول الوطن العربي وعرضه، بتخلٍّ مقصود وواعٍ أحيانا وبدون وعي أحيانا أخرى، عن المشترك البعيد من أجل مصلحة آنية، وذلك ضمن تركيز على الحاضر، واعتباره مفصولا عن الماضي وعن المستقبل، خصوصا في المجال السياسي، دون ادراك أن الفعل البشري يتم عبر مشروع مفتوح مكون من الزمن في أبعاده الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا المشروع لا تحل نهايته ولا يتم غلقه إلا بالموت، ومثلما ينتهي الأفراد إلى الوفاة تنتهي الأمم أيضا على نفس الحالة. * الحالة السابقة لجهة اختصار الزمن في بعد واحد أثرت علينا في جميع جوانب الحياة، وهي أكثر تأثيرا في الحياة السياسية فمثلا لا يسأل أيّ من الحكام أو القادة عمّا فعله في البلاد والعباد خلال فترة حكمه، وعلى فرض أنه تطوّع هو بالإجابة معترفا بجرمه وجرائمه في حق شعبه، فإننا نسارع إلى التجاوب معه في أول نفي قريب كما هو الأمر في الحالة الجزائرية هذه الأيام، فهي بصدد انتخابات رئاسية ستكرّس نتائجها بغض النظر عن الفائز فيها، مزيدا من تثبيت الوضع الحالي بكل ما فيه من وقائع ومشاهد وظواهر، تؤكد جميعها على تراجع ملحوظ للذات الفاعلة في بعديها الوطني والقومي، وفي تفاعلها مع أحداث العالم، وينطبق هذا إلى حد كبير على كل الاتنخابات التي جرت أو ستجري في معظم الدول العربية، وما انتخابات المجالس العراقية منّا ببعيد. * التركيز على الحاضر غير معنيّ، كما نرى، بالتغيير إلا من زاوية واحدة، وهي تلك الخاصة بقلب الحقائق، فالخيانة والتخابر لصالح الأعداء، أصبحا جهادا، وقبول بعض الأفراد أو الأحزاب لدعم من الخارج، يشجّع من أجل زيادة المداخيل للدولة، وقيام جماعات تدافع عن قضايا المجتمع المدني ءو التطرف، هدفه وجود بديل عن مؤسسات الدولة الظالمة وعنفها المشروع، الذي تراه تلك الجماعات أو المنظمات لا يقدّم حماية للمجتمع، ويتبع هذا كله بما هو أخطر من ذلك، حيث أن العلاقة مع الدول الكبرى تشترط الاعتراف بالجماعات التي تمثل نموذجها الديمقرطي، والحق أننا حين نُظلم من دولنا نسعى جاهدين كل بطريقته للاستنجاد بالغرب، ما يعني اشتراكنا مع الحكومات الظالمة. * إذا عدنا لمتابعة المشهد العام داخل دولنا سنجد أن الذين قاوموا الاستعمار بكل ما أوتوا من قوة، في ثورات وحروب كللّت بالانتصار، قد تحولوا اليوم إلى رعاة صفقات مع أعداء الأمس، بحجّة واهية مفادها: تغير الظروف والمعطيات... ها نحن نراهم يفضّلون التنازل للآخر على القبول بمعارضة داخلية جادة تساهم معهم في تحمل المسؤولية، وتسعى معهم إلى التغيير من أجل غد أفضل لكل أبناء الشعب. * وبالمقابل، فإن المعارضة مهتمّة بتقديم الطاعة والولاء لمن يتولون الدفاع عنها في الخارج، والنتيجة أن طرفي المعادلة في دولنا العربيّة إن جاز لنا اعتبارهما كذلك قد ربطا وجودهما بالخارج أكثر من الداخل، لهذا اختلطت الأمور، وأصبح المراقب، ناهيك عن بقية الشعب، عاجزا عن معرفة اتجاه الرياح السياسية لجهة تحديد المستقبل، في ظل السّباق المحموم للوصول إلى أهداف مرسومة مسبقا. * تغير الواقع أو المعطيات والظروف لايخصنا وحدنا، بل هو شامل لكل دول العالم، فلماذا يتخذه بعضنا مطية لتبرير التنازلات ولجعل الشعوب في حال من القلق يجعلها تشكك في فضايا الإجماع؟ * نجد الإجابة عند الذين سوّلت لهم أنفسهم الذهاب بنا، إن سلمنا بالأمر الواقع، إلى تغييب ما يميّز الحق عن الباطل، خصوصا في هذه المرحلة من تاريخ أمتنا، حيث التمكين لقوى أبدت استعدادها لتطويع المجتمعات لصالح قضايا خاصة. * من ناحية أخرى، فإن التعامل مع الحاضر باعتباره النهاية الزمنية والعملية لمصير أمة تجذّرت عبر تاريخ طويل، وارتبطت بصلة حميمة وقوية بالسماء، يجعله في تناقض مع أزمنة أخرى تأسّس عليها الوجود القيمي والأخلاقي والمجتمعي والسياسي، ثم إن القول بالحاضر يتم طرحه دائما بنفس الأهداف المعلنة، وتلك مسألة تتطلّب حسما، إذ كيف لنا أن نفهم أهمية توظيف المقاومة لإشاعة ثقافة الاستسلام، حتى غدت الدول التي تتعامل مع القوى الخارجية وتقيم على أراضيها قواعد عسكرية هي النموذج الأقرب للمحاربين، ومن قاد الحرب يشكك الآن في صدقه تجاه قضايا أمته وشعبه. * نحن إذن نعيش حالا من تزييف الوعي على المستوى القومي والقطري، بمشاركة جماعية، حتى من أولئك الذين نحسبهم، أو كنا نراهم الأقرب إلينا، إن لم يكن على مستوى الأهداف فعلى الأقل على مستوى الرؤية، ما يصعّب من مهمة الذين يقضّ مضاجعهم مصير أمتهم، لغياب القدرة على التمييز وادراك الحدود الفاصلة بين الحق والباطل، لدرجة غاب معها الفرز الأيديولوجي، الذي كان مجالا للصراع خلال العقود الثّلاثة الماضية، فهل الإسلاميون مثلا يطرحون اليوم مشروعا إسلاميا كما يدعون، يقدّمون فيه أولوية الدين عن المصالح الفردية والجماعية المتناقضة مع الإيمان؟!، وهل الوطنيّون يحملون مشروعا وطنّيا خالصا يرفع من الأوطان ويضعها في المقدّمة ويعيد لنا المبادئ الأساسية التي قامت من أجلها الثورات؟! وكذلك الحال بالنسبة لقوى اليسار، فهل تناضل تلك القوى من أجل مصالح الطبقة العاملة والنهج الإشتركي؟!. * الإجابة تنتهي بنا إلى القول: إن جميعهم، وهنا أتحدث عن التنظيمات السياسية وليس عن الأفراد، قد بدّل أصحابها تبديلا، وهم لم يمثلوا الخذلان والتناقض لأتباعهم فحسب وإنما لأنفسهم أيضا، فبعضهم يصبح وطنيا ويمسي إسلاميا، وإذا حل اليوم التالي وجدناه مؤيدا للحاكم في كل ما يفعل، حتى لو تخلى عن ضوابط الإيمان. * وإذا كنا في السنوات الماضية نعيب على السياسيين تشيّعهم لأديولوجيتهم ومواقفهم السياسية، فإننا ندعوهم اليوم إلى العودة إليها، لعل ذلك يساعدنا في تمييز المواقف، ويجعلنا نعرف القبول من الرفض للأطرحات المختلفة، ويساعدنا على التحكم في عنصر الزمن، بحيث لا نبقى بلا جذور وبدون مستقبل، وهو ما يحاول كثيرون جعله أمرا واقعا، انطلاقا من علاقات بالآخر يشوبها الضياع، لكونها غيّرت المواقع والمواقف والأسماء... إنه لحق توهان اليمين واليسار والوسط في لعبة الحاضر.