تتحرك الأمم في رحلة الزمن، باحثة عن مرفإ للأمان، وحين تجده تغدو فاعلة وصانعة للحدث، ويأخذها الشوق إلى تطلعات كبرى، وأتصور أننا نحن العرب قد وصلنا إلى محطة الأمان بمجرد ظهور الإيمان في حياتنا، وكلما ابتعدنا عنه أو ضعفنا رمينا في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج، وانتهت بنا الأمور إلى بحر الظلمات، ولقد قطعنا مددا وفارقت الهموم بين أسفارنا في رحلة الزمن، وأصبح بأسنا بيننا شديد بعد سنوات فقط من اكتمال الدين، وانتهاء صلتنا بالسماء لجهة نزول الوحي. * وخلال الأربعة عشَرَ قرنا الماضية، طال بنا الأمد، وسوّلت لنا أنفسنا الإتيان ببدائل بدأت باجتهاد قريب من روح الدين، وتواصل ليتداخل في مراحل لاحقة بهوى الناس وأطماعهم ومواقفهم التي تنبثق من حب المال والسلطة والجاه، وغدت المسائل الكبرى مجرّد قضايا عابرة، وظهر فينا من يدعو إلى الاستنجاد بأفكار الآخرين، بل ذهب بعض منّا إلى اعتبارها الطريق الأصوب للخروج من مآزقنا وأزماتنا، وقوبلت تلك الأفكار بمواجهة من الذين اختاروا الاعتماد على مرجعية دينية حضارية أصيلة، ظهروا على طول العالم الإسلامي، أثرت فيهم الجغرافيا وثقافة الشعوب ومشاعرها وذاكرتها، وكان لكل دولة منها نصيب. * تزامن ذلك التطور بما يمكن تسميته مرجعيات دينية مع مرجعيات أخرى وطنية وسياسية، تلاقت وتعاونت أحيانا عند الضرورة، واختلفت وتناقضت بعد الاستقلال، وظهرت صورتها البشعة والمقلقلة والمفلسة أيضا، والتي نعاني منها إلى الآن، فيما يعرف بالصراع بين التيارين الوطني والإسلامي، ولقد كان لكل دولة عربية منه نصيبا، بل أنه شمل معظم الدول الإسلامية من مثل: اندونيسيا، باكستان، إيران، أفغانستان، تركيا، وعلى حد ما بنغلاديش وماليزيا. * صحيح أن غالبية الدول العربية والإسلامية، حكمها ما يعرف بالتيار الوطني، الذي استقى مرجعيته في الغالب من ثقافات ورؤى أيديولوجية مختلفة عن المرجعية الدينية، وأبعد التيار الإسلامي ونكّّل به، لكن هذا الأخير أيضا كانت ردة فعله عنيفة، وعطّل المشروح الحضاري لأمتنا، وساهم بوعي أو بدونه في تراجع مطلب قيام دول مسلمة، ليس على مستوى الحكومات فقط، وإنما على مستوى الشعب أيضا، وخصوصا بعد الخلافات التي اتسعت واشتدت بين الذين يدّعون بالعمل الإسلامي والدعوة إلى قيام دول مرجعيتها دينية. * وقد يعود السبب أيضا إلى تبني الأنظمة على المستوى النظري والقانوني للشريعة، وإعلان أنها دول مسلمة، الأمر الذي جعل الساحة مفتوحة للصراع بشكل دائم بين طرفين: الأول: الأنظمة التي اختصرت الدّين في قوانين، غير نافذة وغير ملزمة لأحد، والثاني: أهل المرجعيات الدينية، الذين يحملون مشروعا تاريخيا، لهم خطابهم الخاص، ومواقفهم التي تصطدم بالعصرنة والتطور. * لقد سارت الأمور، خصوصا بعد ظهور التعددية في بعض الدول الإسلامية، وفي ظل هجمة منظمة ومتواصلة من الغرب، عبر ما يروّج له من مفاهيم العولمة على انشقاق داخل صفوف كل فريق، ولم تعد كل جماعة ذات رؤية سياسية، أو حتى دينية واحدة، وطغت لغة المنافع عمّا سواها، واشتد التنافس، وأحيانا الصراع، ونتيجة لكل هذا أصبح التشكيك في النوايا وفي التاريخ المشترك للعمل الجهادي هو العمل المشترك، وكأنه تم الاتفاق مسبقا على تدمير الدول وخلق الفتن بين الشعوب، من منطلق صراع المرجعيات، وكل ما حلّت أمة في الحكم لعنت أختها. * ربما تكون الصورة الأكثر وضوحا هو ما يحدث في العراق الآن، ففي الوقت الذي تشرّع فيه أحزاب دينية لظلم تدّعي أنه أصابها من حزب البعث، تقوم بما هو أبشع، إذ تعمل على اجتثاثه، بل أن الذين عانوا من الظلم في عهد الحكم السّابق هم اليوم أشد تنكيلا، وأكثر إجراما، ويتجاوز فعلم من أجرم إليهم، إن صدقوا، إلى الأبرياء والعزّل، وحكمهم الحالي على قصره أشد وطأة، خصوصا بعد أن استعانوا بقوى خارجية إقليمية ودولية لتأديب الشعب العراقي كلّه. * غير أن الحديث عن صراع المرجعيات في دولنا، لا ينسينا حالات بعينها، اختار أصحابها أن يجسّدوا معنى الاستخلاف في الأرض وتحمل مسؤولية الأمانة، فظلوا ثابتين في مواقعهم، وكشفوا عن أهميّة وجودهم في تاريخنا، ولولاهم لضلت الأمة وأضاعت طريقها، ومع ذلك لا تعترف غالبية الأنظمة في العالم الإسلامي بدورهم وتاريخهم، ولا تعود إليهم باعتبارهم مرجعيات، تحمل وسطيّة الإسلام ومقاصده الهادفة، فقط لأنها لا تريد شركاء من التاريخ يعرفون موقع قادتها ودورهم أثناء الثورات وقبلها. * الحالات المعنية ليست وليدة الحراك السياسي الراهن والتطوّر الاجتماعي والتأثير المؤسساتي للغرب على دولنا ومجتمعاتنا، خاصة بعد ركوب ما يعرف بالإسلاميين موجة الديمقراطية، أي أنها ليست جماعات لاحقة، إنما هي فاعلة وسابقة على ظهور الدول المسلمة المعاصرة واستقلالها... إنها الميراث الحضاري لأمتنا، اتخذت العيش من أجل الإسلام وله عيشا ومنهجا، قدّمت لنا بذلك حماية سابقة عن الوجود المجتمعي والمؤسساتي، باعثة فينا روح الانتماء والبقاء والمواجهة، بما يخدم الأمة ونظرتها الإيمانية، وهو ما ينكره السياسيون عنها، بعد قيامهم بحرب جديدة من أجل مصالح دنيوية عابرة. * بالنسبة للجزائر تاهت بعد الاستقلال في صراع بين المرجعيتين الدينية والوطنية، وكانت الغلبة على مستوى السلطة والقوة لصالح الثانية على حساب الأولى، وأقصد هنا الاختلاف الذي قام من البداية بين بعض قيادات جبهة التحرير الوطني، ورجال جمعية العلماء المسلمين، فقد دفعوا الثمن غاليا لجهة الإبعاد أو السجن، بل إن بعض العسكريين، الذي حملوا فكر الجمعية تم إبعادهم ومنه من تمّت تصفيتهم مثل العقيد »محمّد شعباني«. * من جهة أخرى كانت خسارة الجزائر أكبر بالنكران لدور الجمعية وأهمية مشروعها، حين أبعد قادتها وتلاميذهم عن القيام بدورهم الحضاري، ثم اتهموا في وقت لاحق بأنهم علموا أبناءهم في المدارس الأجنبية، ليعتلوا مناصب في الدولة، في حين كان الشعب يعاني الجهل والتخلف، والسؤال اليوم، وبعد عقود، أكان تعلم بعض أبناء قيادات جمعية العلماء المسلمين لصالح الجزائر أم لغير صالحها؟ * لاشك أن الإجابة معروفة، لقد كان تعلهم في المدارس الأجنبية لصالح المشروع الحضاري، ولم يعودوا من الجامعات الغربية متغرّبين أو مرتدين أو مثبطين ومشككين في تاريخهم ودينهم. * المهم لنعد للتذكير بأهمية جمعية العلماء المسلمين اليوم باعتبارها مرجعية بمناسبة عيد العلم الذي يصادف ذكرى رحيل شيخنا الجليل »عبد الحميد بن باديس«، ولدوافع أخرى أهم منها: * أن الجزائر تحتاج في حاضرها بعد سيطرة السياسي وزيادة أهله وجماعاته المرتزقة، إلى إعادة بعث فكر جمعية العلماء المسلمين باعتبارها مرجعية دينية وتاريخية. * في ظل ضبابية الرؤى لدى مختلف القوى الفاعلة في المجتمع، تصبح الحاجة ماسة إلى الحسم عبر تراث جمعية العلماء المسلمين. * في ظل الخوف من الجوع وهروب الشباب واهتزاز قيمة الوطن، وكل ذلك يتطلب إعادة دمج العرقي بالوطني الجغرافي، بالعقدي. * في ظل تأصيل الطرح السياسي، المبنيي على مقولات جاهزة تخص النضال المحدود وأحيانا المزيف، يتطلب واقعنا الرّاهن التذكير بالجهاد المصحوب برؤية ومشروع. * لمواجهة الإرهاب، نحن في أمسّ الحاجة إلى فكر الجمعية، بعد أن خضنا تجارب مريرة، وكذلك الحال بالنسبة التسامح والتضحيات. * حاجة الجيل الجديد لمعرفة الصواب من أهل الجد والحق والعدل، الذين تراكمت لديهم الخبرات لعقود، ولم يبدلوا أو يغيّروا. * في الأخير أعترف بتقصيري في حق الجمعية ورجالها، وأعتقد أننا لو عدنا إلى تجربتها الجهادية والاجتهادية والتربوية لأغنتنا على كثير مما ألهانا وأضعنا فيه عمرنا وعمر الدولة الجزائرية، وإني أتساءل اليوم بحزن: أيُعقل أن يكون في بلاد عبد الحميد بن باديس ومالك بن نبي إرهاب وسفهاء في السياسة والحكم قضوا على الحرث والنسل؟.