في الظلام الحالك وعند خوفي حين كانت أذناي تسترقان السمع لأي صوت آتٍ من بعيد، حتى لو كان هبات نسيم قادمة من البحر محمّلا بالرطوبة في ليالي الجزائر العاصمة، حي المرادية، آنذاك لم تكن هناك إشارات ولا بشارات لعودة الجزائر لما كانت عليه، وحين كنت أرى الملاذ في الإنصات لكتاب الله، تماما مثل الذي يذكرون العزيز الرحيم في ظلمات البر والبحر، وحين كنت أرحل في دول العالم محمّلا بهموم أمة وبكارثة وطن وبأزمة مشروع.. * في كل ذلك لم يفارقني السؤال التالي: لما وشّه العمل البطولي للمجاهدين العرب في أفغانستان؟ * في تلك السنوات وقبل أن يعاد تشكيل الدول العربية من جديد، ونصبح جزءا من المنظومة الغربية لمكافحة الإرهاب، وتدافع البوسنيات عن أزواجهن العرب وهم في معتقلات الغرب ومنها غوانتنامو، وتتبرأ الدول من أبنائها العصاة، في نظر الذين غرّتهم الحياة الدنيا، وظنوا أنهم قادرون عليها بعد أن ازينّت وأتت زخرفها، من كان منّا يسمح بطرح هذا السؤال جهرا؟! * يطرح السؤال اليوم لأن كثيرا من المعطيات تغيّرت، ولأن المجاهدين بالرغم من أخطائهم ضحايا وليسوا جلاّدين على الأقل في لحظة الانطلاق الأولى وعلينا ألاّ يجرمننا شنآن قوم على أن لا نعدل في تقديم رؤية، قد تكون صائبة لكون بعضا من أولئك المجاهدين عادوا محمّلين بغضب تجاه الأنظمة التي خذلتهم، وتخلت في نظرهم عن الإسلام، وخلطوا في لحظة غي وتيه بين الحكومات والشعوب، فحاربوا الجميع، وتلك بداية المأساة. * لقد اكتشفوا، أو بالأحرى من بقي منهم، تشويه المسيرة وضياع الهدف وضبابية الرؤية، وكانت تلك البداية لحرب علنية مع الأنظمة حين تغيّرت الأولويات لديها، خصوصا بعد أن تأكدوا من تقديمهم بلا ثمن من أجل أن تحقق الولاياتالمتحدة ألأمريكية الهدف من حربها ضد الاتحاد السوفيتي السابق. * العرب الأفغان لا ينكرون أن كثيرا منهم كانوا يعتقدون جازمين أن أمريكا في مسيحيتها أقرب إليهم وللمسلمين من النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي ومن بعض الأنظمة العربية، وبعد فترة حاولوا أن يداروا أخطاءهم بتقاطع المصالح مع أمريكا، لكنهم اكتشفوا بعد مرور الوقت أنهم قدّموا ثمنا لبقاء الحكام في الكراسي، وأنهم وظّفوا من طرف المخابرات الأمريكية، ويمكن اعتبار كشفهم عن علاقة الأنظمة العربية بالغرب ممثلا في أمريكا بداية الحرب في الداخل، فمن المسؤول عن الإرهاب بعد ذلك في الدول العربية؟ * لا أحد ينكر مسؤوليتهم، لكن بكل تأكيد علينا الإعلان صراحة أن الأنظمة تتحمّل الوزر الأكبر مما حدث لنا ولهم أيضا، لأنها هي التي ساهمت في إرسالهم إلى جبال أفغانستان وبإرادة واعية منها، وقدمتهم للشعوب باعتبارهم مجاهدين وأبطالا، خصوصا في مصر والسعودية وباقي الدول الخليجية، حيث كانت تجمع لهم الأموال وتفتح لهم أبواب التطوع وتدبلج من أجلهم خطب الجمعة، وهم للإنصاف والتاريخ كانوا مجاهدين، خالصين ومخلصين حقا، وأرشيف تلك المرحلة على مستوى الخطاب السياسي الرسمي وعلى مستوى العاملين المادي والمعنوي لايزال شاهدا إلى اليوم. * لقد اكتشف العرب الأفغان أن صدق النوايا وظّف لصالح خبث الأنظمة، وانتهى الأمر بهم إلى نقل الحرب من جبال أفغانستان على المناطق المختلفة في عدد من الدول العربيّة.. كل هذا نتيجة لتخلي الدول المسلمة عن فريضة الجهاد وليس هذا عيب الأفغان، لأنهم حاربوا من أجل تحرير بلادهم، وغير صحيح ذلك التشهير الإعلامي الذي يروّج له الغرب، وأصبح من الثوابت ومفاده: أن أفغانستان صدرّت للعالم الإرهاب، بل العكس هو الصحيح، وتاريخ تلك المنطقة مسطّر في كتب التاريخ، وما واجهته ولاتزال يكشف عن ظلم متراكم وبلا مبرر. * نحن العرب نعتز بعلاقتنا مع الأفغان منذ قرون الإسلام ومنذ عقود فقط صدّرت لنا أفغانستان رجلا صاحب فكر تنويري هو "جمال الدين الأفغاني"، ناهيك عن أن الشعب الأفغاني تميّز بالمقاومة في الماضي والحاضر، وكان من الطبيعي أن يتفاعل مع المجاهدين العرب بشكل تلقائي، غير معترف بالحدود المرسومة من القوى الاستعمارية، ذلك لأنه من الشعوب التي تسير على طريق المقاومة حتى النهاية لتحقيق أهداف كبرى، قد تبدو للقوى الغازية حالا من التخلف والجهل. * ولنفهم جيدا تفاعل الأفغان مع العرب المجاهدين، لنعد إلى ما ذكره"بيتر يونج" و"بيتر جيسر" في كتابهما "الإعلام والمؤسسة العسكرية"، حين قالا: "أوضحت الجزائر (يقصدان أيام الثورة) ومؤخرا أفغانستان (التاريخ هنا 1997) إن الشعوب التي تعبّأ لا تحتاج إلى الانتصار في ميدان القتال، بل تحتاج فقط إلى الاستمرار في المقاومة... لقد تم خوض الحروب في الجزائروأفغانستان بمستوى منخفض من العمليات وبأسلحة محدودة على نحو واضح وتحت قيود جغرافية". * مهما يكن تقديرنا للثروات ونتائجها، وكذلك الحال بالنسبة للجهاد فإن إخواننا العرب الأفغان قد بغوا علينا وبغينا عليهم، وبصفاء قلب ورحابة إيمان بات من الضروري إعادة النظر في نمط العلاقة المتأزمة بيننا، لقد اشتركنا في الظلم لأنفسنا ولأمتنا حتى قاربنا من الهلاك.. آه ما أصعب النهايات مع أن البدايات طيبة وهادفة ومنبثقة من حلاوة الإيمان.