ما كان، وما ينبغي، لنا أن تغدو تجربتنا في العالم الإسلامي مليئة بالدماء وبالرصاص وأقلها بالمسيرات والمظاهرات، كلما اقتربنا من مشاركة واسعة لقوى سياسية مختلفة، فالطريق ليس طريقنا لذلك تأتي النهايات دائما على حساب ميراثنا السياسي حيث الاختلاف يبلغ الذروة كلما تعلق الأمر بالتغيير.. * * إننا والحال تلك لا ننكر التدخل الخارجي لكننا لا نجعله الدافع الأساسي، وعلينا النظر ببصيرة، إن كان لدينا استعدادا للقبول أو حتى التفكير، فيما يعرف بالمشروع الإسلامي. * لقد كشفت معظم التجارب في الدول الإسلامية حين تعلق الأمر بالتعددية السياسية، أن لا طائل من البحث في إمكانية التعايش سلميا، لأن الإقصاء داخلنا وليس آتٍ من قوى ضاغطة، وقد بلغت تجاربنا من الدماء ما يكفي لنصبح في حالٍ من الرشد، بعيدين عن التيه، وغير قابلين لتكرار التجربة بنفس الأخطاء. إذاًً المشكلة مع أنفسنا، وقد بينت التجارب أن المدخل الحقيقي للتحالف مع الغرب يأتي من منطلق البحث عن العدالة أو الحلم بغد أفضل يقربنا من الدول المتقدمة زلفى. * في السياق السابق نجد تجربة إيران اليوم، التي هي إحدى التجارب الرائدة في العالم الإسلامي منذ قيام الثورة حتى لو تمركزت السلطة في نمط ولاية الفقيه، أو ما يعرف بمرشد الثورة. * لقد غيرت إيران الثورة والجمهورية الإسلامية من خلال تجربتها، على ما فيها من أخطاء، من مسار حركة الحياة السياسية، وحتى من نمط العلاقات الدولية، إذ لم تكتف أدبياتها باعتبار أمريكا الشيطان الأكبر ولا إسرائيل بالغدة السرطانية ضمن خطاب ثوري أراد الإمام الخميني تصديره، وإنما تجاوزته إلى مواجهة ندية مع الغرب كما ظهر جليا في خطاب الرئيس "محمود أحمدي نجاد".. هذا الرجل الذي يمثل المستضعفين حقا لدرجة أخجلت حكامنا في دولنا المسلمة مما يفعلون، رجل يقبل أيادي الضعفاء والفقراء ويعتبر نفسه جزءا منهم، وهذا ما يقلق على المستوى الداخلي في إيران تكنوقراطية بعض الإصلاحيين الذين أزعجهم ، على حد قولهم، مظهره الخارجي. * الملاحظ أن إيران قد صنعت الحدث منذ ثورتها وقضائها على نظام الشاه وتغييرها للمعادلة في الشرق الأوسط، وهي تصنعه اليوم بتجربتها الديموقراطية التي يراها الغرب في فوضاها الراهنة مدخلاً لتغيير نظام الحكم دون أن يدرك الثقافة التي تحكم ذاك المجتمع، وهو بالتأكيد لا يجد تفسيرا لبقاء شخصيات فاعلة انتهى دورها تقوم بتأثير مباشر على عملية صنع القرار لو كان الأمر يتعلق بمقاييسه وبتجربته لكنه يقبل بها مادامت مؤهلة لتشكيل إزعاجٍ حقيقيٍ، وخلق فوضى داخل إيران تلهيها عن ملفها النووي، ويعول عليها لإنهاء قوة جبهتها الداخلية وقدرتها على إصدار القرار المستقل. * لا أحد ينكر أن ما يحدث اليوم في إيران يشكل فرزا حقيقيا بين قوة ترى الثورة والدولة في خدمة المستضعفين وجماعة أخرى تسعى جاهدة لعودة المستكبرين بما يبعد هجوم المناطق البعيدة والقرى والأرياف على العاصمة طهران، وهذا ينتهي بنا إلى التشكيك في طرح الإصلاحيين لجهة أن المرشح الذي بادر إلى إحداث الفتنة قبل غلق الأسواق رئيس الوزراء السابق "مير حسين موسوي"، ومحافظ بمواقفه السابقة وبأدواره المعروفة، وهكذا كانت تعتبره وسائل الإعلام إلى غاية يوم الجمعة حين تم التصويت، لكن ما إن أعلن عن فوزه قبل غلق صناديق الاقتراع بساعتين تحول في نظر الإعلام والسياسيين الغربيين إلى رجل إصلاح، وحين تطورت الأمور ونزل أنصاره إلى الشارع وتصادموا مع رجال الشرطة احتجت الدول الغربية التي ذهبت بعد فوز أحمدي نجاد إلى البحث عن سبل للتعامل معها مستقبلا ما يعني ترصد الغرب بإيران وتربصه بها، وعليه تدور الدوائر. * لقد كانت مشكلة أمتنا ولا تزال هي وجود قائد فاعل، وفي الغالب يحل الأشخاص بدل المؤسسات خصوصا إذا لقوا تأييدا واسعا كما هي الحال بالنسبة للرئيس أحمدي نجاد، علما بأن هذا الأخير لم يقدم نفسه زعيما، وفضل على ذلك البقاء في خدمة شعبه ودولته وأمته والأكثر من هذا دينه، ولن يجدي معه اليوم مسعى الغرب للتدخل من خلال أمرين: * الأول: قياس سلطة مرشد الثورة علي خمينائي وقد كشفت المسيرات عن تراجعها. * الثاني: إبعاد نجاد عن السلطة، الأمر الذي سينتهي بإيران إلى نفق مظلم. * السبب في أزمة إيران الراهنة ليس تداول السلطة أو فوز الإصلاحيين، وإنما بالأساس عاملان: قوتها النووية المستقبلية، وعدائها العلني للكيان الإسرائيلي وما يتبعه من دعم مباشر أو غير مباشر لقوى المقاومة في فلسطين ولبنان. * الواضح أن هناك جيلا جديدا يوظفه السياسيون اليوم في إيران بوعي أو بدونه لتحقيق التغيير المرتقب، هذا الجيل لم تعد المرجعية الدينية تحكمه في الفعل أوفي التعبير عن مشاعره ومواقفه، صحيح أنه لا يشكل الغالبية لكنه أيضاًً له تأثيره ووزنه، ويؤدي في حالة النفور أو الاستنفار إلى تصادم ختمي مع الغالبية التي تؤيد الرئيس أحمدي نجاد. * بناء عليه، فإن إيران لن تكون بعد اليوم كما كانت في السنوات السابقة، فمن جهة هناك خلاف حول الثروة، تراها الأكثرية المستضعفة خيرات تعمها مادام نجاد في الحكم، وتراها الأقلية المنتفعة نعمة زائلة عنها مادام نجاد في السلطة أيضاً، ومن جهة ثانية هناك تغير في الرؤية وعدم احتكام لما يعتبر امتدادا للمقدس لدرجة يمكن معها القول أن عدم استجابة المتظاهرين من أنصار موسوي لدعوة المرشد علي خامينائي بالبقاء في البيوت، يعني موت الخميني اليوم فقط، ومن جهة ثالثة هناك آذان صاغية لدعوات الإصلاح الواردة من الغرب التي تسعى لإلهاء الإيرانيين عن تطوير أنفسهم بوجود الأمان والاستقرار والقوة في المواجهة. * رهان الغرب، إذاً، على التوتر في شبكة العلاقات الاجتماعية على المستوى المحلي في إيران محفوف بالمخاطر، ومع أنه أسلوب قديم إلا أنه حقق نتائجه في دول مسلمة كثيرة وانتهت بنا الأمور إلى بحور من الدم وإلى فتن طال أمدها، غير أن هذا الأسلوب لن يحقق في الوقت الراهن نتائجه المرجوة في إيران، لكنه بكل تأكيد سيترك آثارا لا تمحى سريعا، ولكنها في الوقت ذاته لن تهز السلطة الدينية في إيران إلا في حدود ضيقة. * ما يحدث في إيران، وإن دعم الغرب بعض أطرافه، لا يتعدى التنوع والنقاش داخل البيت الإيراني، وإن حاول الغرب توظيفه لصالحه.. باختصار، وبالرغم مما ستسفر عنه الأيام القادمة، فلا يعول كثيرا على الذين يريدون لإيران أن تهتز موقعا، وتدمر مجتمعا، وتتراجع موقفاً، أن يحدث لها ما تسول أنفسهم، مع أنهم يتخذون من تجارب الدول المسلمة السابقة مرجعية، وهي لاشك تعد كذلك، لكن الإسلاميين ظلوا معادلة صعبة في كل دولة مسلمة، وإن ضل بعضهم الطريق أو زيف مشروعه، فمابالك بدولة مثل إيران لا تتنفس إلا ضمن فضاء الدين حتى وإن اختلفت مع مسلمين كثيرين مذهبا ورؤية وموقفا وتطلعا للمستقبل وتجربة ثرية لايزال كثيرون يراهنون عليه؟!