صحفية الشروق محاورة لمين بشيشي/تصوير: علاء الدين.ب رحبّ المدير الفني للطبعة الأولى من المهرجان الثقافي الإفريقي سنة 1969، بفكرة تقاسم ما مازال راسخا بذاكرته "القوية" من أحداث وأسماء وكواليس مع قراء "الشروق". * * فقصدنا شقته بحيدرة وصادفت زيارتنا له الدخول الأول لحفيدته الجديدة، دعاء إلى المنزل، قبل أن نظفر بساعتين مع السيد لمين نختصرها في هذا الحوار المختزل لأهم المحطات في جزائر فتية لم يكن يتجاوز عمر استقلالها السبع سنوات. * * ساعات فقط تفصلنا عن المهرجان الثقافي الإفريقي في الجزائر، ما هو أهم حدث لا يزال راسخا في ذاكرتك عن الطبعة الأولى خاصة وأنك كنت مديرها الفني؟ * احتضن منتدى نادي الصنوبر وشاركت فيه عصارة الفكر باللغة الانجليزية والعربية وكان رئيس اللجنة التنفيذية مالك حداد ومحمد الصديق بن يحيى مدير الأخبار آنذاك المحرك الأساسي. وأذكر أن المنتدى عرف نزاعا إيديولوجيا وفكريا بين ممثل السينغال مختار البو، الذي أصبح فيما بعد مديرا عاما لليونسكو بدعم الجزائر وكان رئيس السينغال آنذاك الشاعر سينغور ممثله قال "أن غير الزنجي ليس إفريقيا" وناقضه على طول الخط وزير ثقافة غينيا سيكوتوري الذي رفض هذا الطرح قائلا يومها "لا أبيض ولا زنجي فنحن إفريقيين مهما اختلفت الألوان واللهجات" واستطعنا الحصول على 30 دقيقة بث في تلفزيونات العالم رغم تزامن الحدث مع نزول أول رجل فضاء من على سطح القمر. * * إذا كان دور الصديق بن يحيى مهما في ظل هذا الصراع الخطير يومها؟ * طبعا وأقولها للتاريخ لو لم يتمتع محمد الصديق بن يحيى بالحنكة السياسية الدقيقة لانتهى المؤتمر وفشل في يومه الأول. المنتدى استطاع أن يجمع رجال الفكر في الجزائر وإفريقيا ونجح فعلا في مسعاه. فقد كان الرئيس الراحل هواري بومدين رئيسا لمنظمة الوحدة الإفريقية كما كنا من المؤسسين للوحدة الإفريقية بمشاركة الرئيس الأسبق بن بلة سنة 1963. * * سبع سنوات فقط من الاستقلال.. كيف كان الجانب التحضيري للحدث؟ ومن هم أعضاء لجان التحكيم في المنافسات الفنية؟ * نصبت اللجنة التحضيرية في سبتمبر 1968 وعندما أذكر الصديق بن يحيى أذكر القطب والعمود الفقري لتظاهرة المهرجان الثقافي الإفريقي محي الدين موساوي ،الأمين العام لوزارة الأخبار، الذي غادرنا العام الماضي إلى الرفيق الأعلى. مالك حداد كان المدير المركزي لمديرية الثقافة الشعبية والترفيه التي كانت تتكوّن آنذاك من ثلاثة نواب. الأول مكلف بالنشر * وكان أحد الأعضاء المهمين وهو زهير إحدادن الذي كان على رأس معهد الإعلام إضافة إلى المسؤول عن السمعي البصري ومناضلين آخرين بذلوا الكثير من أجل هذا الوطن. أما أنا فالتحقت بعدها بسنوات كنائب مدير مكلف بالمسرح والموسيقى والفنون الشعبية لأن في ذلك الوقت أي سنة 1969 كنت معلما وأعتز بانتسابي للأسرة التربوية وانتدبت في لجان التحكيم في الموسيقى الأندلسية وبدأت جاذبيتي مع الإعلام وبالمناسبة أذكر بن يوسف بابعلي كان أميرا في سلوكه ورجاحة عقله وكان لدينا نشرية يومية وكان مكلفا بها محمود تلمساني وكان مصطفى تومي شخصية مكونة سياسيا وثقافيا استطاع أن يجمع الأحداث في كتيب حمل عنوان "من أجل إفريقيا"جمع فيه كل ما كتبه الجزائريون من أجل إفريقيا. وفي الجانب الفني كان جلول يلس مديرا للمعهد الوطني للموسيقى وعضو لجنة تحكيم ومصطفى كاتب مدير المسرح الوطني أمام محي الدين بشطارزي فكان حينها مديرا للكونسرفاتوار. * * تتعلق بمحي الدين بشطارزي ببشطارزي ؟ * نعم فقد كنت مكلفا بالمجموعات الصوتية وكانت المسابقة في ست مواد هي الموسيقى العصرية والتقليدية والمسرح والمجموعات الصوتية والفلكلوروالرقصات المتقنة وكان المتوّج في هذه المسابقات يحصد الميدالية الذهبية أي ثلاث نقاط والثاني المتوّج بالميدالية الفضية يحصل على نقطتين وأخيرا الميدالية البرونزية نقطة. فتكفلت بالمجموعات الصوتية واعتمدت على ثانوية عائشة أم المؤمنين لأن أستاذ الموسيقى استطاع حينها تكوين مجموعة صوتية، ولأن الثانوية كانت للبنات فقط فتوّجهت إلى الكونسرفاتوار لانتقاء أصوات رجالية أيضا. وهناك التقيت بمحي الدين بشطارزي الذي أعطى التعليمات لتسهيل المهمة. إلا أن كون أهم المسؤولين في الكونسرفاتوار أجانب فقد كان المسؤول عن الإنشاد فرنسيا يدعى "سوفور" تحدثت إليه فسألني عن موعد المهرجان "20 جويلية 1969"ولأن التاريخ كان يتزامن مع العطلة الصيفية فرأى أن في الأمر مجازفة كبيرة وسباق مع الزمن. عندها سحب مشاركة الكونسرفاتوار ولم نتمكن يومها من الحصول إلا على مؤدي واحد يدعى "عبيد" وهو في الأصل موظف في البريد حيث كان بحق موهوبا وطرب أوبرا لا يحتاج مكبر صوت لأنه صاحب صوت مميز وكان محي الدين بشطارزي مبدئيا عضو لجنة تحكيم في مسابقة المجموعات الصوتية وكان قد تأثر بكلام مديره حول المجازفة فطلب انتقاله إلى التحكيم في مسابقة المسرح وهو ما حدث فعلا -كل لجنة تحكيم تتكون من جزائريين وأعضاء إفريقيين يشاهدوا العروض ويقيموا من خلالها التنقيط-. * * وكيف كان الحل بعدها؟ * توّجهت إلى الإذاعة والتحق بنا محمد راشدي -رحمه الله- ومحمد عجايمي وزروق السكيكدي وعبد الكريم السلمي الذين أبدعوارغم التحاقهم متأخرين إلا أنهم حققوا التوازن والبرنامج الذي سطرته وكان يشمل بعض الأغاني التراثية والأناشيد الوطنية والأغاني العصرية. أدت البنات بعض المقاطع * وأحيانا الرجال فقط وأحيانا معا وأحيانا كان عبيد يؤدي ثم دخل محمد العماري في الأربع دقائق الأخيرة وأدى أغنية ترحيبية أبدع فيها. * * كيف كانت أجواء المنافسة؟ * حصلنا على ميدالية ذهبية في مناسبة المجموعات الصوتية أما في الموسيقى العصرية وقع مشكل، لأن لجنة التحكيم وجدت نفسها أمام فرقة عبد الحليم نويرة للموشحات من مصر وفرقة ليبيا وتونس والمغرب كذلك بالنسبة للإفريقيين الجاز باند كان هو الموسيقى العصرية. ونحن كجزائريين حضرنا سيمفونية خاصة سميناها "ثقا فريقي" كتبها بوجمية مرزاق -رحمه الله-. ويومها اختلف أعضاء لجنة التحكيم حول المتوّج الأول ومن هي الموسيقى العصرية فعلا ثم قرروا منحها للجزائر بفضل مقطوعة بوجمية لأنها لم تكن موشحات ولا موسيقى غربية. * * أين هذه المقطوعة الآن؟ ومن عزفها مبتورة من جزء حضور"القرقابو"؟ * موجودة، ولكنها للأسف تعزف مبتورة من الجزء الذي حصلت بفضله على الميدالية الذهبية وهو استعمال "القرقابو" وعزفت في قاعة "إفريقيا" من طرف المجموعة الصوتية للإذاعة وأيضا عزفها أمين قويدر في القاهرة وبغداد. طبعتها عندما كنت مديرا للمعهد الوطني للموسيقى في 1000 نسخة وأنا بصدد البحث عن النسخة الأصلية وأذكر أن بن يحيى لم يكن راضيا عنها في بداية الأمر لأن مطلعها يقترب من الموسيقى الكلاسيكية إلا أن مرزاق بوجمية بالنسبة له كانت موسيقى تصويرية عن حياته عندما كان مغتربا ثم رجع إلى وطنه وعائلته فجسد ذلك التقارب والحنين للوطن في شكل تمازج موسيقي جميل، الآن من يعزف هذه المقطوعة يبترها من مقطع القرقابو الذي أثر على لجنة التحكيم يومها كأداة موسيقية إفريقية وحصلنا بفضلها على الميدالية الذهبية الثانية. * * وهل تحصلت الجزائر على ميداليات أخرى في باقي المواد خاصة وأن كأس المهرجان كان من نصيب غينيا؟ * بعد أربعين سنة بقيت المشاركة المسرحية أيضا راسخة في ذاكرتي أين مثلت الجزائر أسيا جبار وشاب يدعى وليد قرن بمسرحية بالفرنسية اسمها "احمرار الفجر" وترجمها المرحوم علي مساخ ولكن لم نحصد جوائز وحصدت السينغال الذهبية وغينيا الفضية والمغرب البرونزية وتحصلت غينيا في نهاية المطاف على كأس المهرجان الثقافي الإفريقي واستحقته عن جدارة لمشاركتها القوية بمختلف الفنون. * * وهل سلمت الميداليتين الذهبيتين لتصبحا ملكية ثقافية جزائرية؟ * سأسلم الميدالية الذهبية للمجموعات الصوتية التي احتفظت بها أربعين سنة ولكنها أمانة وليست من حقي، أما الخاصة بالموسيقى فقد سلمها بوجمية مرزاق للمدير العام للإذاعة والتلفزيون آنذاك في حفل نظم على شرف المؤسسة ولكن لا نعلم اليوم أين هي الآن. * وزنها200 غرام من الذهب الخالص وعندما سمعت أن الجزائر ستنظم الطبعة الثانية للمهرجان وجدت أنه حان الوقت لتسليمها -يضحك- أخذتها إلى صائغة وطلبت منها تلميعها ولكنها رفضت قائلة "أن قيمتها في شكلها بعد أربعين سنة لأنه ليس ذهب اليوم بل ذهب 1969". * * على ذكر الميدالية الذهبية، لماذا لم تتسلمها شخصيا من الرئيس بومدين وفضّلت أن يتسلمها السعيد بصطانجي -رحمه الله-؟ * السعيد بصطانجي هو من استلم الميدالية الذهبية في مادة المجموعات الصوتية من الرئيس الراحل هواري بومدين وبالنسبة للفنون الشعبية يجب أن أذكر بالفنان المبدع حداد الجيلالي الذي لحّن لأكبر الفنانات والفنانين الجزائريين كفضيلة الدزيرية واستطاع أن يجمع مختلف الفرق من الجزائر العميقة مع الفرقة المركزية من العاصمة ولكن تأثر الفرق بتجاوب الجمهور الكبير جعلها تفوت الوقت القانوني المحدد ب45 دقيقة. مما عرّض البرنامج للإقصاء وهذا ما أقعد المرحوم الفراش لمدة طويلة بعد خيبة أمل وما يؤسفني أن هذا العبقري رحل عنا دون أن يكرّم ولا مرة في حياته رغم عطائه الكبير للفن الجزائري. وزوجته لطيفة التي كانت من بين النساء الأربع الأولى في الميدان الفني وهن "كلثوم وعواوش ودليلة زوجة رويشد الأولى ولطيفة زوجة حداد الجيلالي" واللواتي كن دعامة محي الدين بشطارزي في الخمسينات. * * عندما نتعرف على هذه الإنجازات العظيمة نتساءل أيضا عن الميزانية وظروف الإقامة خاصة وأن ظروف الجزائر كانت خاصة في تلك الفترة؟ * أعطتنا منظمة الوحدة الإفريقية الميزانية وأشيد كثيرا بأمانة المكلف بلجنة المالية المدعو هندل والمؤتمن على الحسابات المدعو مهنان لأننا كنا كالبنيان المرصوص وهدفنا الأوحد هو صورة الجزائر وإنجاح المهرجان، أما الإقامات فكانت في الثانويات ذات النظام الداخلي خاصة وأن الجزائر يومها كانت تملك فقط فندق الجزائر والبار الأول وريجينا والسفير. * * حضرت المهرجان نينا سيمون ومريم ماكيبا وغيرهما، هل من تفاصيل عن جانب المشاهير الذين زاروا الجزائر؟ * أتذكر أن العملاقة نينا سيمون طلبت يومها بيانو ب440 ذبذبة صوتية في الثانية من نوع "لولا" وأن عازف الساكسو "ارشيشيب" زار أعماق الصحراء ولعب مع مؤدي الزرنة أما عازفة الأمزاد داشا وزوجها أمغار فقد كانت تتحّجج بزيارة ابنها الذي يؤدي واجب الخدمة العسكرية في شرشال لتزور البحر وتتأمله على أنه شيء غريب. * * وماذا عن الضجة الإعلامية التي أحدثتها مشاركة مريم ماكيبا؟ * هنا أفتح قوسين للتصحيح فهناك من يخلط بين المهرجان الثقافي الإفريقي من 20 إلى31 جويلية 1969 وبين الاحتفال بالذكرى العاشرة في 5 جويلية 1972. وأشير إلى أننا توصلنا إلى اتفاق على أن يكون نقل فعاليات حفل افتتاح المهرجان الثقافي الإفريقي في كل تلفزيونات العالم وحدث في ذلك اليوم أن نزل أول رجل من على سطح القمر ورغم ذلك لم تغطي الحادثة العظيمة الإنسانية العلمية على المهرجان وأعطيت لنا 30 دقيقة عبر العالم وكان ذلك مهما فعلا مشاركة مريم ماكيبا في المهرجان الثقافي الإفريقي كانت متواضعة مقارنة بحضور نينا سيمون "التي كانت تحبها كثيرا" لأن مريم في ذلك الوقت كانت محسوبة على النضال السياسي أكثر من التوجه الفني، أما في سنة 1972 عندما احتفلت الجزائر بالذكرى العاشرة للاستقلال في قاعة الأطلس "الماجستيك" سابقا بحضور الرئيس الراحل هواري بومدين والرئيس الموريتاني المختار ولد داده وشخصيات سياسية كبيرة "3500 ضيف" فأدت مريم ماكيبا أغنية "إفريقيا". وقد استقدمها بومدين معه في الطائرة عندما كان في كوناكري عاصمة غينيا وكانت هي هناك في حماية كوثوري باعتبارها مناضلة سياسية وشاءت الأقدار أن تؤدي أغنية عن قصيدة مصطفى تومي وتلحين لمين بشيشي. * * ما هي أهم الذكريات التي تحتفظ بها عن هذه السيدة العظيمة؟ * فعلا هي امرأة عظيمة كانت صاحبة شخصية قوية وهي من طلبت مني إعطائها فرصة لبعث نداءات للشعوب وكان ذلك من خلال "طبل طبل يا طبال" أين تركت لها مجالا لذلك. ما أذكره أنها مرضت أيامها مما جعل مرافقها يوقفني قبل نهاية تدريبها على النطق السليم لترتاح مما تسبب في نطقها الخاطىء قائلة عوض "أنا حرة"، "أنا هرة". * * "أنا هرة" بضم الهاء هو ما نسمعه في كل مرة، هل أعدتم تسجيل النطق الصحيح؟ * اتصلت بي قائلة لماذا ابتسم الجمهور فجأة وأنا أغني"إفريقيا"؟ فقلت لها لأنك لم تنطق حرف الحاء صحيحا، فأصرت على تسجيلها صحيحة حتى إنها كانت تضغط على حرف الحاء في المرة الثانية. * * وهل لحنت لها أغنية ثانية؟ * نعم لقد طلبت مني ذلك ولكن للأسف ذهبت إلى ملتقى في بيدابيست بالمجر فرفضت التسجيل في الإذاعة خوفا من نطق غير صحيح ولحنت لها قصيدة رومانسية للشاعر الجزائري بلقاسم خمار. * * إذا لماذا لا يزال التلفزيون الجزائري يعرض فقط النسخة التي أخطات فيها مريم ماكيبا النطق؟ * والله لا علم لي، فقط أؤكد أن التسجيل موجود في الإذاعة ويمكن أن تتم عملية مونتاج للتسجيل الصحيح مع صورة مريم ماكيبا على الركح. * * كلمة بمناسبة احتضان الجزائر للطبعة الثانية في الخامس جويلية ؟ * يحذوني أمل كبير في نجاح هذا المهرجان والمبادرة تؤكد ثقة إفريقيا في الجزائر ويكفينا فخرا هذا الشباب المتحمس لمواصلة المشوار حتى تبقى الجزائر دائما وأبدا كبيرة وقدوة للعالم. الجزائر كانت ولا تزال قبلة للعظماء ويكفينا فخرا أن المناضل والعملاق الإفريقي نيلسون مانديلا الذي صمد 27 سنة في السجن دون أن يغيّر رأيه من التمييز العنصري كان واحدا ممن تكوّنوا في الجزائر. ويكفينا فخرا أننا لعبنا دورا أساسيا في كسر شوكة التمييز العنصري فالجزائر عرفت بمواقف ثابتة لم تحد عنها.