لأن الحديث عن قرب زمن القحط، ونفاذ النفط والزفت، قد أثار استغراب طائفة من القراء قالوا أنه محض ضرب من الطوباوية، وأحلام اليقظة الصرفة، فكيف إذا قلت للأحياء منهم: أن التضحية بثمن فنجان قهوة كل صباح، لمدة لا تزيد عن 365 يوما، يضمن ل 35 مليون جزائري تلبية حاجاتهم من الكهرباء ومياه الشرب وسقي 700 ألف هكتار، تؤمن سلة الغذاء اليومي لكل الجزائريين، فاحسبوها معي إن شئتم. * بعض الرسائل أعابت على المقال ما تعتقد أنها مجرد رؤية طوباوية، وأحلام يقظة، وذكروني آخرون بالحالة المزرية لأوضاع بالعالم العربي، وافتقار نخبه الحاكمة إلى القرار الحر السيد، بحيث أنه، حتى لو صدقت التقديرات الواردة في المقال، وصدقنا بامتلاك العالم العربي للموارد المالية والبشرية الضرورية، والقدرة على توطين هذه التكنولوجيات، فإن القوى التي تعمل على شرذمة العالم العربي، وإشغاله في حروب قبائل وطوائف، لن تسمح أبدا لمثل هذا المشروع أن يرى النور، وهم في ذلك على حق. مثل هذه الانتقادات والتحفظات الموضوعية، حفزتني على العودة مجددا إلى الموضوع، بمقاربة تفصيلية، وبتقديرات لجهات خبيرة، مهتمة بما وصفه بعض كبار الخبراء في الاقتصاد من حملة جائزة نوبل بالثورة الصناعية الرابعة، التي سوف تحركها قاطرة اسمها الطاقات البديلة. * * من يشتري أسهما من شركة "همة العرب" * دعوني أبدأ من خبر تداولته القنوات في ذيل نشراتها الاقتصادية، يقول أن دولة قطر قامت بشراء خمسة في المائة من أسهم شركة بورش الألمانية لصناعة السيارات بمبلغ سبعة مليار دولار، في زمن يعيش فيه قطاع صناعة السيارات أزمة، قادت إلى إفلاس شركة جينرال موتورز، وألحقت خسائر بالمليارات بمعظم كبريات شركات تصنيع السيارات. * ليس في نيتي مناقشة القرار السيد لدولة قطر، لكني أغتنم هذه الفرصة لأبين ماذا كان يمكن أن نحصل عليه، لو استثمرنا هذا المبلغ في صناعة الطاقة الشمسية أو في تحلية المياه؟ * بالمقاييس التي سوف أستعرضها لاحقا، كان بوسع دولة قطر أن تؤمن إنتاجا دائما ومتجددا من الطاقة ل 12.3 مليون مواطن عربي، أو توفير مياه شرب ل 28 مليون عربي، بحصة فردية تعادل 250 لترا في اليوم، أو 9.125 متر مكعب في السنة للفرد الواحد. * وحتى تتضح الصورة أكثر، دعونا نطرح جملة من الأسئلة تربط بين احتياجات العالم العربي من الطاقة والمياه، بتعداد السكان الذي يقارب ال 350 مليون نسمة، أي عشر مرات عدد سكان الجزائر حاليا؟ * * 571 دولار لإنارة ألف عام من أيام العرب * ففي مجال الطاقة، ومع الأخذ بعين الاعتبار بمقاييس الاستهلاك في الدول المصنعة، فإن العالم العربي يحتاج إلى استثمار قرابة 200 مليار دولار لتغطية جميع حاجاته من الطاقة الكهربائية، منتجة بالكامل من الطاقة الشمسية، بما يعادل استثمارا عن الفرد الواحد، لا يزيد عن 571 دولار. وإذا وزعنا هذا الاستثمار على عشر سنوات، لنقل ما بين 2010 و2020 فإن حجم الاستثمار، لن يزيد عن عشرين مليار، أي بإنفاق سنوي عن كل فرد لا يزيد عن 57 دولار لمدة عقد من الزمن. * ومن المياه المستخلصة من صناعات التحلية، وبالكلف المعمول بها اليوم في مشاريع مثل مصنع المقطع بالقرب من مستغانم، فإننا نستطيع توفير مياه الشرب ل 350 مليون عربي بمعدل 250 لتر يومي لكل فرد، باستثمار يتراوح بين 70 و90 مليار دولار، أي باستثمار عن كل فرد لا يزيد عن 7،25 دولار. وفي الجملة فإن استثمار 290 مليار دولار بمعدل 29 مليار دولار كل سنة، خلال عقد من الزمن، سوف يحقق الاكتفاء من الطاقة ومياه الشرب والغذاء. * لنرى الآن هذا الجهد على مستوى بلد مثل الجزائر، لنكتشف أن الجهد المالي لن يزيد عن 30 مليار دولار تنفق خلال عقد من الزمن، بمعدل ثلاثة مليار في السنة، لنوفر ما نحتاجه من الطاقة والمياه، وهو استثمار يساوي ثلاث مرات ما أنافقناه، أو سننفقه على الطريق السريع شرق غرب، ولا يزيد عن نصف دخلنا السنوي من المحروقات. * * 520 قلعة لتأمين الطاقة والغذاء للعرب * المجال قد لا يتسع هنا لاستعراض مختلف التجارب التي تنفذ هنا وهنالك في الدول المصنعة، في مجال تطويع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، بمقاربات تكنولوجية جد واعدة، غير أن أهمها على الإطلاق هي تقنية "القلاع الشمسية" التي تجري بشأنها تجارب صناعية بأستراليا والولايات المتحدةالأمريكية وإسبانيا، وهي في منتهى البساطة، بحيث تتكون من جزأين رئيسيين: نظام تجميع للطاقة الشمسية عبر حقول من البيوت البلاستيكية، تسخن الهواء، وتدفع به نحو قلاع بعلو 800 إلى ألف متر، وفي أسفلها تقام تربينات يشغلها الهواء المسخن. النماذج التي يتم بناؤها في أستراليا والولايات المتحدة قادرة على إنتاج 200 ميغاوات، أو ما يعادل إنتاج مفاعل نووي من الحجم الصغير، بكلفة أقل وبأكثر أمان. ومع هذه التقنية القابلة للتصنيع الآن، تجري تجارب قريبة منها تعتمد نظام "الفورتيكس" أو الزوبعة العظمى بتقديرات إنتاج عالية للطاقة. * ما يعنينا في نظام القلاع الشمسية، أنها توفر إلى جانب إنتاج الطاقة، إنتاج محاصيل زراعية داخل البيوت البلاستيكية، مثل الطماطم وخضر أخرى في جميع المواسم. وقد قدر أحد الخبراء أن استغلال مساحة 36400 هكتار من البيوت البلاستيكية، تشغل 200 قلعة شمسية شبيهة بتلك التي تبنى اليوم بأستراليا، كافية لتغطية حاجات 35 مليون فرد، أي ما يعادل تعداد سكان بلد مثل الجزائر، بكلفة إنجاز إجمالية تساوي 20 مليار دولار. هذه المساحة الصغيرة نسبيا تسمح حسب أحد الخبراء بإنتاج محصول سنوي إجمالي من الطماطم يعود على أصحابه بقرابة 5 مليار دولار. * * ربع جغرافية الجزائر لإنارة سكان المعمورة * المساحة التي نحتاج إليها لتلبية حاجات مجموع سكان العالم العربي من الطاقة الكهربائية، لن تزيد عن 364000 هكتار أي 3640 كلم مربع تشغل 520 قلعة شمسية تنتج كل قلعة 200 ميغوات أي مجموع 104 جيغوات، ولك أن تعلم أن 100 متر مربع مجهزة تكفي لتغطية حاجات الفرد الواحد من الطاقة الكهربائية. بما يعني أن تجهيز مساحة تقدر ب 600 ألف كلم مربع، أي ربع مساحة الجزائر كافية لتغطية حاجات 6 مليار فرد، مجموع سكان العالم. وهذا يعني أن ربع مساحة بلد مثل الجزائر قادر على تلبية حاجات سكان المعمورة من الكهرباء، ومعها إنتاج كميات هائلة من الخضروات داخل البيوت البلاستيكية، وعوائد تقارب ألف مليار دولار سنويا. * ذكرت هذا الأمثلة، التي اعتمدت فيها على تقديرات من خبراء موثوق بهم، لأكشف الأكاذيب التي يفتعلها أصحاب القرار، وهم يخوفوننا من الأزمات، بينما بين أيديهم إمكانيات حقيقية لتجاوز الأزمة العالمية الراهنة، وأزمة الطاقة والمياه والتغذية، ومعها الكارثة المناخية المرتقبة، باستثمار إجمالي يقل عن الخسائر التي لحقت بالبورصات العالمية في الأزمة الأخيرة، وما يعادل إجمالي ما أنفقته دول نادي الثمانية في محاولة إعادة إنعاش الاقتصاد دون جدوى. * * "55 مقطع" لتأمين شرب وغذاء 35 مليون جزائري * و في مجال المياه، لم يعد ممكنا منذ عقدين على الأقل، الاعتماد على مياه الأمطار المتناقصة والغير منظمة، لا بالنسبة لحاجات الفلاحة، ولا حتى لضمان الحد الأدنى من حاجات السكان من مياه الشرب، ويفترض منا أن نثمن البرنامج الطموح الذي تبنته الدولة الجزائرية بإقامة مصانع لتحلية المياه على طول الساحل، لأن حاجات البلاد كبيرة، وفي تزايد مضطرد، وهي تقدر بالمقاييس الدولية بحوالي 2،3 مليار متر مكعب، وتحتاج إلى حجم استثمارات يقارب التسعة مليار دولار، بالاعتماد على كلفة بناء مصنع المقطع، وهو الأكبر في العالم حتى الآن، بقدرة إنتاجية يومية تساوي 500 ألف متر مكعب، بكلفة استثمار تقارب دولارين للمتر المكعب الواحد، وهي كلفة عالية، غير أنها سوف تتقلص مع اعتماد طاقة بديلة رخيصة، مثل طاقة الرياح المتاحة على الشريط الساحلي، واعتماد تقنيات تحلية أقل استهلاكا للطاقة، والذهاب إلى توطين التكنولوجيا وإنتاجها على نطاق واسع، لكي تقارب الكلفة سقف 0.15 يورو للمتر المكعب، الذي يسمح باستعمال مياه التحلية في الزراعة بشكل تنافسي. * في الجزائر نحن أمام تحدي مزدوج: فنحن أمام شح في مياه الشرب وإختلالات موسمية خطيرة في تساقط الأمطار، بما يملي علينا إعادة النظر في زراعتنا بالكامل، والتوجه إلى زراعة تعتمد على السقي. فحاجاتنا من الحبوب حاليا تقدر بحوالي 7 ملايين طن سنويا، بمعدل قنطارين للفرد الواحد. غير أن المردودية في زراعتنا للحبوب لا يتجاوز اليوم 20 أو 25 قنطارا في الهكتار، مقابل 100 قنطار في الهكتار في دول يصل فيها تساقط الأمطار إلى 1000 مم، أي 1 متر مكعب في المتر المربع. * لتغطية هذه الحاجات بزراعة تعتمد على السقي، نحتاج إلى 700 ألف هكتار على الأكثر، بمردودية سنوية في الهكتار تقدر ب 100 قنطار، وبتوفير سبعة مليار متر مكعب من المياه مخصصة للري، أو ما يعادل قرابة 40 مصنعا مثل مصنع المقطع، وباستثمار إجمالي يساوي 20 مليار دولار، وفي الجملة نحتاج لإقامة 55 مصنعا بحجم مصنع المقطع لتأمين مياه الشرب وسقي 700 ألف هكتار من زراعة الحبوب. * * طبوغرافية مثالية لصناعة المستقبل * وعليه، سوف تكون احتياجاتنا الاستثمارية لضمان طاقة كهربائية دائمة ونظيفة ومتجددة، حوالي 20 مليار دولار باعتماد نظام القلاع الشمسية، وشبكة البيوت البلاستيكية على مساحة تقدر ب 36400 هكتار وتنتج سنويا ما يعادل 5 مليار دولار من الخضراوات فضلا عن الطاقة، كما نحتاج إلى 9 مليار دولار لتوفير الاكتفاء من مياه الشرب ل 35 مليون نسمة، و20 مليار دولار لتوفير المياه لسقي 700 ألف هكتار، تنتج 7 ملايين طن، أي حاجة الجزائر اليوم من الحبوب، وعلى أراض صحراوية تحرر الساحل لحاجات فلاحيه أخرى. * في المجموع سوف نحتاج إلى استثمار 50 مليار دولار على امتداد عشر سنوات، بمعدل 10 ملايير دولار كل سنة لتأمين احتياجاتنا بالكامل من الطاقة ومياه الشرب ومياه السقي، وبعوائد مالية في الزراعة تعادل 7 مليار دولار سنويا، دون حساب عوائد تسويق الطاقة ومياه الشرب. * العالم المصري أحمد زويل الحائز على جائزة نوبل، لم يكن مخطئا حين اعتبر الجزائر من أغنى دول العالم في مجال الطاقة الشمسية. ولأنه كان مهتما فقط بالطاقة الشمسية، فإنه لم يلتفت إلى الثروات الطاقوية الأخرى، وهي طاقة الرياح، ذلك أن الساحل الجزائري يستقبل طاقة هائلة من الرياح القادمة من الشمال عبر البحر، وهي طاقة أسالت مؤخرا لعاب دول الإتحاد الأوربي. ودون الدخول في تفاصيل تقنية، فإن أفضل مقاربة لتوظيف هذه الطاقة هي في تسخيرها لحاجات معامل تحلية المياه، ولاحقا توظف كطاقة رئيسة لتشغيل نظام ضخ المياه نحو المرتفعات، في سياق بناء منظومة لتخزين الطاقة، وتنظيم مردودية شبكة كهربائية تعتمد على الطاقة الشمسية، كما أن العالم المصري قد فاته الانتباه إلى تفرد جغرافية الجزائر بطبوغرافيا مميزة، مع وجود سلسلتين جبليتين (الأطلسين) يطوقان الهضاب العليا، وعمق صحراوي شاسع يمنح مخزونا احتياطيا هائلا لقيام صناعة للطاقة الشمسية، تفوق احتياجات الجزائر والعالم العربي، وكأن هذه الطوبوغراغيا قد هُيئت لهذه الغاية، بما يسمح بإقامة شبكة سدود تشتغل كبطاريات عملاقة لتخزين الطاقة الكهربائية، وتنظيم عمليات الإنتاج والتوزيع، فضلا عن هذه المساحات الشاسعة من الأراضي: حوالي 230 مليون هكتار قابلة للاستصلاح متى توفرت الطاقة والماء، لتتحول من أراض صحراوية قاحلة إلى جنات وحقول خضراء. * * تأمين مصادر القوة بثمن فنجان قهوة * وبالعودة إلى ملاحظات القراء التي حفزتني على العودة إلى الموضوع، ينبغي أن أعترف أن المخاوف ذاتها لم تكن غائبة عن ذهني، منذ بدأت أتابع ملف التحديات المطروحة على بلداننا في مجال الطاقة والمياه والغذاء، بوصفها تحديا واحدا مترابطا، وليس بوسعي أن أنكر ما هي عليه نخبنا الحاكمة من ضعف، وضياع لبوصلة القيادة الراشدة، واستغراق آثم في هدر مواردنا البشرية والمالية في مقاربات خاطئة، في سياسات التصنيع والفلاحة، وفي عموم سياساتها الاقتصادية، غير أني أؤمن بقدرة الشعوب على تغيير واقعها، متى توفرت لها قيادات وطنية حريصة على مصالح البلد، وهذه من مسؤولية الشعوب، خاصة عندما تمنح فرصا، ولو محدودة، لاختيار حكامها. وكانت غايتي الأولى من إثارة الموضوع، هي التأكيد على وجود خيارات أخرى للإفلات من الخيارات التي أمليت علينا حتى اليوم، وأننا نمتلك مواردها البشرية والمالية، وأن تحقيق الاكتفاء في مجال الطاقة والمياه والغذاء، هو من أهم مقومات الأمن القومي التي تتصدر الأولوية عند الأمم التي تحترم نفسها، وهي أهل لكي يضحي من أجلها جيل كامل بقدر من الرفاهية، وتحمل قسطا من الحرمان. * ولتقريب الصورة أكثر، فإن الخمسين مليار التي نحتاجها لتحقيق مثل هذا الاكتفاء في بلد مثل الجزائر، تعادل ثلث احتياطنا الحالي من الصرف المتوفر من الطفرة النفطية الأخيرة، وأنه يعادل حوالي 1428 دولار عن كل مواطن جزائري، أي حوالي 90 ألف دينار جزائري بمعدل 9 آلاف دينار عن كل فرد تستثمر لمدة عشر سنوات، نستطيع توفيرها من هذا الاستهلاك الفوضوي للكماليات، مثل استهلاكنا لشرائح الهاتف النقال في هذه الثرثرة اليومية. وهي لا تزيد عن 25 دينار يومي ثمن فنجان من القهوة، لمدة 3650 يوم، أو ثمن خمسة سجائر غولواز، فهل هذه تضحية تتجاوز طاقة شعب ضحى بمليون ونصف مليون شهيد من أجل استعادة السيادة على أرضه؟